منعرج حاسم ينتظر المؤسّسات الإنتاجية لضمان ديمومتها ضمن النّسيج الاقتصادي الوطني، فلا مبرّر لتداعيات الأزمة النّفطية، ضاعفت منها جائحة كورونا، في زمن عولمة يرتّب أسسها أقوياء العالم، ولا مجال فيها لتوقّع حلول سحرية أو منح فرصة ثانية للنّهوض.
بعد الصّدمة المالية الخارجية التي بدأت في منتصف 2014 ولا تزال انعكاساتها، إلى جانب هلع أحدثته جائحة “كوفيد-19″، أصبح لزاما على النّسيج المؤسّساتي أخذ زمام المبادرة من أجل تأمين تموقع جديد، والتّكيّف مع التّغيّرات المتسارعة وإفرازاتها السّلبية للبقاء على قرب من الأسواق ميدان التّنافسية وجدوى الاستثمار.
في الدّورة الاقتصادية يغلب الحديث عن المصب، منذ أولى مراحل الأزمة عن المنتجات الجاهزة للتّسويق في شكل بضاعة أو خدمة، ومنه إثارة الجدل أكثر حول الأسواق وآليات ولوجها وكل ما له صلة بالعوائق والانشغالات، بينما تنكمش مساحة النّقاش، ما عدا المنابر المتخصّصة المغلقة على خبراء وأخصائيّين حول مختلف جوانب المنبع.
من المنبع تبرز مختلف الانشغالات والمشاكل، وتظهر على المشهد التّطلّعات بمؤشّراتها تمهيدا لاستئناف التقدم على مسار النمو من خلال مختلف حلقاته، حتى تبلغ المؤسّسة الإنتاجية الهدف المسطّر على لوحة قيادة المشاريع ومتابعة الورشات ورصد الأسواق، وهو انشغال بمثابة قاسم مشترك بين كافّة الشّركاء في السّاحة الاقتصادية. في هذا الإطار يوفّر السّداسي الأول للعام 2021 مساحة مقبولة لاستئناف النّشاطات في مختلف القطاعات ذات الجدوى، والتي تستجيب لمعالم مخطّط العمل المسطّر قبل الجائحة مع انتهاج مقاربة وآنية ترتكز على التكيف مع المستجدّات التي خلّفتها تداعيات الوباء، آخرها تواجد اللّقاح ليكون رقما ثابتا في معادلة النمو، لما يمنحه من طمأنينة لعالم الاقتصاد.
المناخ العام كما هو اليوم، يحمل إشارات المخاطرة ولكن أيضا تلوح في أفقه أخرى تعكس بوادر اتجاه نحو تحسّن للوضع تدريجيا، بما يمنح المؤسّسة من منطلق كونها القلب النّابض للنمو، مجالا أوسع للتحرك بعد التخلص من هاجس الأزمة، عن طريق تنفيذ مشاريع يرتكز عليها النّموذج الجديد. غير أنّه بهذا الخصوص تمثّل الرّقمنة الجسر الذي تعبر منه المنظومة التقليدية بكل فروعها إلى مرحلة أكثر شفافية وفعالية بفضل التخلص من عوائق البيروقراطية التي تبدو بعض مراكزها تقاوم التغيير وأخرى تعرف تأخّرا في التحول التكنولوجي، على مستوى بعض مفاصل الجهاز الاقتصادي.
ووفقا للمشهد القائم بجميع العناصر المتداخلة للوضع الصحي ومؤشّرات الوضع الاقتصادي خاصة المالي منه، فإنّه يستدعي من الفاعلين في عالم الاستثمار والإنتاج، الارتقاء إلى مستوى التحديات التي تعني في الأساس كافة الأطراف، حكومة ومتعاملين ورؤساء مؤسّسات وشركاء اجتماعيّين، لصياغة ورقة طريق للاقتصاد ما بعد تفشي الوباء، ينسجم مع النّموذج الجديد الذي تحدّدت معالمه ضمن مخطّط الإنعاش الذي صيغ خلال ندوة وطنية أوت 2020، وذلك من حيث ضبط الفروع التي تتمتّع بقابلية الانتعاش ورسم ملامح الشّراكة الوطنية وطبيعة الدور الذي تتكفّل به المؤسّسات البنكية، وإلى أي حد يمكن تحمّل التمويلات وكذا تحديد مجال ومسؤوليات الهيئات المتداخلة مثل الجمارك، الضرائب وأملاك الدولة.
تبقى هذه الإدارة، لأملاك الدولة، على درجة من المسؤولية في تفعيل مرافقة الاستثمار عبر تحديث أدوات العمل بإدخال وتوسيع نطاق التكنولوجيات الجديدة وصولا إلى رقمنة شاملة تربط جميع المصالح مع الإسراع في دمج مصالح مسح الأراضي ومصالح الحفظ العقاري، بما يساعد على تحديث البطاقيات المتعلّقة بالأملاك العمومية والخاصة لتطهيرها وتخليص عنصر الملكية من الشّوائب، وتحريرها من قبضة بيروقراطية أهلكت المالكين والميزانية العامة للدولة بحرمانها من مداخيل إضافية، كم هي ضرورية في هذا الظرف.
ويكشف مثل هذا العمل عن موارد لا يستهان بها، يمكن أن تعزّز البنية القاعدية العقارية لتستجيب للطلب في مرحلة يراهن فيها على المؤسّسات النّاشئة والمقاولاتية التي يحتاج إليها الجهاز الاقتصادي، علما أنّها غير مكلّفة وذات احتياجات بنيوية خفيفة، موازاة مع معالجة المناطق الصّناعية ومناطق النّشاطات التي تعاني من ضياع احتياطات عقارية ثمينة مخصّصة بالأساس للاستثمار ولم تنجز عليها مشاريع موعودة، لطالما توعّدت الإدارة المحلية بالتصدي لها في وقت يرتقب أن يرتفع الطلب على العقار بالنظر إلى حجم أعباء الاستثمارات التي يحرّرها مخطّط الانتعاش، خاصة مع استجابة المنظومة البنكية لمتطلّبات رفع التحدي.
بهذا الشأن، التمويل باعتباره عصب النمو وشريان الاقتصاد، أعطى بنك الجزائر إشارة خضراء للمشهد مرافقة له على دخول مرحلة انفراج، باستجابته من خلال لجنة عمليات السياسة النقدية لمتطلّبات الإنعاش بإقرار خفض معدل الاحتياطي الإجباري للبنوك من 3 إلى 2 بالمائة يسري من تاريخ 15 فيفري 2021.
وهذا بحد ذاته محفّز، بحيث يساعد، إضافة إلى نمو القروض البنكية بـ 3 بالمائة نهاية 2020 مع تحسّن تطوّر الموارد البنكية، على التصدي لمشكلة السيولة النقدية، ممّا يعزّز قدرات تمويل البنوك لتنتقل إلى أداء أكثر حيوية تصبح فيه البنوك فاعلاً اقتصادياً وليس مجرّد خزائن نقود، هي عرضة لفساد بيروقراطي لطالما عبث بمقدرات البلاد طيلة سنوات سابقة مخلّفة خرابا يُعرّض أمن البلاد للخطر.
المشهد برمّته على ما فيه من نقائص في وتيرة العمل واختلالات في التنظيم مقارنة بالفرص الثّمينة، منها ما قدّمته جائحة كورونا على طبق من ذهب لقطاعات ترتبط بالصحة، التغذية، التجارة الإلكترونية، البحث العلمي والمؤسّسات النّاشئة في جانب المناولة المحلية، يوفّر على العاقل الحد الأدنى لانطلاقة ملموسة على طريق الإنعاش الاقتصادي، قاطرته مبادرة رؤساء المؤسّسات ومدى القدرة المناجيريالية في إدارة المشاريع ورصد المؤشّرات وتفكيك شفرتها.