يعتقد الكثير من السياسيّين والاقتصاديّين أنّ سبب تخلّف البلدان يعود أساسا إلى العوامل المناخية والطّبيعية ونقص الموارد الباطنية، مثل المعادن الثّمينة والبترول والغاز وغيرها.
ويذهب آخرون بعيداً فيرجعون سبب تخلّف الأمم والشّعوب إلى الثّقافة والعرق وحتى الدين، بينما يُرجع البعض الآخر سبب تخلّف الشّعوب إلى فساد النّخب الحاكمة وعدم كفاءتها ونقص خبرتها.
وغالبا ما نجد أنفسنا عاجزين عن الإجابة على هذا السؤال الجوهري: لماذا ارتقت وازدهرت أمم بالرّغم من مناخها القاسي وقلّة مواردها وصغر حجمها؟ ولماذا أمم أخرى بقيت فقيرة ومتخلّفة بالرّغم من خصوبة أراضيها وامتلاكها لموارد بشرية وطبيعية ضخمة ومناخ معتدل أيضاً.
الصادق أمين
كاتب ومحلّل سياسي-لندن
الإقتصادي التركي-الأمريكي “دارون عجم أوغلو” Daron Acemoglu من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والعلوم السياسية و”جيمس روبنسون” James Robinson من جامعة هارفارد يجيبان على هذا السؤال، ويختلفان مع معظم النّظريات الشّائعة في هذا الشأن، ففي كتابهما “لماذا تفشل الأمم..أصول السّلطة، الازدهار والفقر”
“Why Nations Fail, The Origins of Power, Prosperity and Poverty “ يرجعان سبب تخلّف أو تطوّر أيّة أمّة إلى طبيعة المؤسّسات الاقتصادية والسياسية التي تنتجها الأمم نفسها، وليس لعوامل أخرى ويضعان كدراسة حالة مدينة “نوغاليس” “Nogales” التي يقع جزؤها الشمالي في ولاية أريزونا الأمريكية، وجزؤها الجنوبي في ولاية سونورا المكسيكية كنموذج معبّر عن رؤيتهما للدور البارز للمنظومة السياسية والاجتماعية في تقدّم وازدهار المجتمعات أو تخلّفها.
يرصد الكاتبان الاختلاف الكبير في معدلات الدخل الفردي لسكان مدينة “نوغاليس”، حيث يتجاوز دخل الفرد في الجزء الأمريكي للمدينة ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه نظيره في الجزء المكسيكي، بالإضافة إلى التّفاوت الكبير في خدمات الرعاية الصحية والتعليم والمياه النظيفة وشبكة الكهرباء ومناخ الاستثمار، وغيرها بين ضفتي المدينة المقسّمة.
يتساءل مؤلّفا الكتاب “كيف يمكن لنصفي نفس المدينة أن يكونا مختلفين إلى هذه الدرجة؟ فليس هناك اختلاف في الموقع ولا في المناخ، ولكن ربما هناك اختلاف بين السكان الذين يقطنون في شطري المدينة؟ فقد يكون سكان نوغاليس في أريزونا، أحفاد المهاجرين الذين أتوا من أوروبا، في حين أنّ سكان الجزء الواقع في المكسيك ينحدرون من قبيلة الأزتيك. لكن الأمر ليس كذلك إطلاقا، فالخلفية العرقية والدينية وحتى الثقافية للسكان متشابهة تمامًا”.
يُرجع الكِتابُ التّفاوت بين الجزء الشّمالي والجنوبي من مدينة “نوغاليس” إلى طبيعة المؤسّسات الاقتصادية والسياسية التي تأسّست في كل من الدولتين خلال الحقبة الاستعمارية، ودورها في تطور المجتمع بعد ذلك.
فقد عملت الإمبراطورية الإسبانية التي حكمت معظم دول أمريكا اللاّتينية من بينها المكسيك، على استنزاف مواردها الطّبيعية والبشرية، وأقامت مؤسّسات “استحواذية” تعمل لصالح النّخب المتنفذة التي تستفيد من موارد البلاد على حساب الدولة وعموم المواطنين، هذه المؤسّسات تخيط القوانين بما يتماشى مع مصالح نخب سياسية ومالية معيّنة، كما تعمل أيضا على وضع تشريعات وقوانين تكبح أي منافسة لها، إضافة إلى قيامها بعرقلة التنمية الاقتصادية المستدامة، حتى تضمن السيطرة والهيمنة على جميع المجالات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
وكمثال على ذلك يستحضرُ الكتاب قصّة الملياردير المكسيكي من أصل لبناني “كارلوس سليم”، الذي جمع ثروته الطّائلة بعد استحواذه على شركة “Telmex” (شركة الاتصالات المكسيكية) التي تمّت خصخصتها من قبل الرئيس المكسيكي سنة 1990.
وبذلك استفاد “كارلوس سليم” استفادة كبيرة من المؤسسات الاستحواذية ممثلةً هنا في المؤسستين التشريعية والتنفيذية، فهذه المؤسّسات تنتج رجال أعمال غير مبدعين ولا مبتكرين يتربحون على حساب الدولة واقتصادها، فتكبُر ثرواتهم وتتضخّم نتيجة التشريعات المقنّنة لصالحهم، وكذا نتيجة علاقاتهم الواسعة مع النخب والعصب الحاكمة، وينطبق هذا على العديد من رجال المال والأعمال في دول العالم الثالث.
فبالرغم من تحرّرها من الاستعمار، إلاّ أنّها لا زالت تعاني سطوة المؤسّسات “الاستحواذية” التي هندسها الاستعمار وتركها إرثا ثقيلا على الشّعوب، ونموذجا اقتصاديا وسياسيا للنخب الحاكمة تستمد منه قوتها، وتضمنُ استمرارها واحتكارها للسياسة والاقتصاد..مثل ما هو حاصل في مجموعة الدول الإفريقية الثمانية الناطقة بالفرنسية أو ما يسمى بمجموعة دول منطقة الفرنك الافريقي “CFA”.
هذا النّمط من المؤسّسات صمّم لتحقيق مصالح شريحة صغيرة من المجتمع، تسعى لبسط نفوذها على السياسة والاقتصاد، وتمنع أي تحول ديمقراطي أو نمو اقتصادي فعلي.
وفي المقابل وأثناء حقبة سيطرة الإنجليز على الولايات المتحدة الأمريكية، قاموا بإنشاء نظام اقتصادي يعتمد على منح أراضٍ شاسعة للمستوطنين لتنميتها واستصلاحها، وترتّب عن هذه السياسة وضع أسس الديمقراطية الأمريكية، فبعد نضال ومعاناة وصراع كبير دفع فيه المواطن والمجتمع الأمريكي ثمناً باهظاً على مدار عقود طويلة، تمكّن الأمريكيّون من إقامة مؤسّسات تحترم قيم الديمقراطية من حرية وعدالة اجتماعية وسيادة للقانون، وتمنح المواطن حق اختيار حاكمه ومحاسبته إذا اقتضى الأمر، وتشجّع الابتكار والإبداع.
هذا ما سمح لـ “بيل غيتس” Bill Gates مؤسّس شركة التكنولوجيا العملاقة “مايكروسوفت” بالولوج إلى عالم الثراء من بوّابة الابتكار والإبداع، فمؤسّسات البلد الذي بدأ فيه أعماله ساعدته وقدّمت له يد العون حتى يزدهر ويرتقي.
كما أنّ المؤسّسات الديمقراطية الأمريكية سهّلت عليه إجراءات إنشاء شركته الفتية، والحصول على قروض ميسّرة موّل بها استثماراته دون الحاجة لربط علاقات مع النُخب الحاكمة أو اللجوء إلى الوساطات أو قنوات الفساد الملتوية، فوسّع “بيل غيتس” في استثماراته عبر مختلف دول العالم، ووظّف خيرة علماء التكنولوجيا من كل أنحاء المعمورة، لأنّه وثق في مؤسّسات بلاده وقدرتها على فرض سيادة القانون الذي يحميه ويحمي استثماراته.
ماذا عن الجزائر؟
لا أعتقد أنّ المواطن في دول العالم الثالث يحتاج إلى جهد كبير ليعرف نوع المؤسّسات التي تحكمه، وهل هي مؤسّسات استحواذية وفق النموذج المكسيكي أم ديمقراطية منتجة وفق النموذج الأمريكي؟
والجزائر ليست بعيدة عن ذلك، حيث عمل الاستدمار الفرنسي على مدار 130 عام على تكريس المؤسّسات الاستحواذية ممثلة في “الكولون” والمعمّرين الأوروبيّين، حيث استحوذوا على كل الأراضي الخصبة وجعلوا الجزائريّين خمّاسين لديهم، كما عملت المؤسّسات الاستحواذية في عهد الاستعمار على تجهيل الشعب الجزائري ومحاربة لغته واستهجان تاريخه حتى تضمن استمرار استعباده واستغلال خيرات بلاده.
لنعطي أمثلة من الواقع الجزائري القريب عن المؤسّسات الاستحواذية، ودورها في عرقلة محاولات التنمية المستدامة وبناء مؤسّسات ديمقراطية تمنع الاحتكار، وتشجّع الابتكار وتعطي الفرصة للجميع. ولنا الكثير من الأمثلة عن الكيفية التي تَربّحَ بها بعض رجال الأعمال الجزائريين على حساب المؤسسات الاقتصادية والشركات الوطنية، التي تمّ إفلاسها وتسريح عمّالها وسجن إطاراتها…ومن ثمّة بيعها بالدينار الرمزي بمقتضى قانون خصخصة المؤسّسات العمومية خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي..
وربما يتساءل الجزائريّون: لماذا لم تتعاقد الحكومات المتعاقبة مع مستشارين وخبراء محليّين ودوليين ومن بينهم الكفاءات الجزائرية بالمهجر، من الذين يرغبون في خدمة بلادهم وتحصل منهم على الاستشارة والحلول الأفضل لمشاكلها، والنهوض باقتصادها؟ فهل الأمر يتعلّق بعدم كفاءة الحكومة أو نقص خبرتها؟ أم هو متعلق بسيطرة المؤسّسات الاستحواذية التي تتبنّى خيارات ومقاربات اقتصادية تعمل على إحداث الفقر واقتصاد “البازار”؟
في هذا السياق، نستعرض تجربة الجزائر في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في العقدين الماضيين، وكيف أُهْدِرت موارد البلاد الضّخمة التي دخلت خزينة الدولة جرّاء الارتفاع التاريخي وغير المسبوق لأسعار المحروقات، أين وصل سعر برميل النفط الخام إلى حدود 150 دولار، وكيف وُظّفت تلك العائدات في غلق العديد من المؤسسات الاقتصادية بدل تطويرها وفتح مؤسسات جديدة، حدث هذا نتيجة سياسة الاستيراد المجنونة التي حوّلت البلاد كلها إلى سوق مفتوحة لخردوات العالم، هذه السياسة نتج عنها ميلاد طبقة اجتماعية صغيرة فاحشة الثراء وغالبية مسحوقة، واقتصاد ريعي هش ومنهار.
إنّ انتهاج هذه السياسة الاقتصادية الفاشلة والمدمّرة لروح المبادرة والإبداع، لم تكن نتيجة الجهل بأبجديات الاقتصاد أو نقص الخبرة والكفاءة، بل كانت سياسة ممنهجة ومدروسة من قبل الحكومات المتعاقبة منذ “استقالة” الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في الحادي عشر من يناير 1992.
هذه السياسة العقيمة لم تهتم بالتنمية المستدامة وإنما أدّت إلى تقوية ثقافة الاتّكالية، التي تدمّر بدورها التحفيز، وتقضي على الابتكار وتستنزف المواهب وتهجّر الأدمغة، وتدفع المواطن إلى الاستقالة من الحياة السياسية والاقتصادية، وبذلك تخلو الساحة أمام رجال المال الفاسدين للسيطرة على القرار السياسي، وإخضاع كل مقوّمات ومقدرات البلاد إلى مؤسسات استحواذية تعمل لصالح العصب المتنفّذة وليس للصالح العام.
فعندما يلجأ الوزير الأول الأسبق أحمد أويحيى والمتواجد حاليا بالسجن على خلفية قضايا فساد، إلى معالجة الأزمة الاقتصادية بطبع ملايير الدينارات، ضاربا عرض الحائط تحذيرات الخبراء من الانعكاسات الوخيمة على الاقتصاد الوطني، وعندما تطرح تساؤلات عن عدم الإفصاح عن أسماء المستوردين الذين تحصّلوا على تصاريح استيراد السيارات، وعن لماذا لا يسمح للمواطن استيراد سيارته مباشرة وتُمنحُ التصاريح لرجال أعمال فقط بالرّغم من أنّهم يسدّدون فاتورة الاستيراد من الخزينة العمومية، وفي عز الأزمة الاقتصادية والصحية، نتذكّر قصّة رئيس الحكومة الرّاحل عبد السلام بلعيد عندما كان يروّج لمشروعه “اقتصاد الحرب” من أجل التصدي للأزمة المالية الخانقة التي عاشتها البلاد مطلع التسعينيات نتيجة التراجع الحاد في مداخيل المحروقات مع أحد رجال الأعمال، الذي تحصّل على قرض من البنك المركزي بقيمة 126 مليون دولار بينما الخزينة كانت عاجزة عن تسديد خدمات الديون الخارجية ودفع رواتب الموظّفين.
إنّ تغيير المؤسّسات الاستحواذية بمؤسّسات ديمقراطية هي مسؤولية الجميع، كما أنّ التحديات الإقليمية والدولية وكذا الضّرورة الاقتصادية والسياسية تحتّم على الجزائريين جميعا التفكير بجد في بناء مؤسّسات ديمقراطية قوية تخدم الجميع بدون استثناء، من المواطن البسيط إلى رجل الأعمال، إلى السياسي، إلى خزينة الدولة، وهذا كلّه يصب في مصلحة واحدة وهي ازدهار البلاد وضمان استقرارها وديمومتها وسيادتها، وقيام جزائر أخرى جديدة لا احتكار فيها للسّلطة وللثّروة.