بعد سنة صعبة واجهها الاقتصاد الوطني متضرّرا من أزمة مزدوجة، أولى مزمنة، جرّاء بقاء أسعار النّفط أقل ممّا يتيح التّصدّي للاحتياجات في مجال تأمين السيولة بالعملة الصّعبة لصالح الاستثمار الثّقيل من جانب.
وأزمة ثانية تمثّلت في وباء “كوفيد-19″، لاحت مع بداية العام الجديد 2021 صفحات بمؤشّرات ذات لون أخضر، تحمل، على محدوديتها في الوقت الرّاهن، توقّعات تبعث على استعادة الثّقة في النّسيج المؤسّساتي الانتاجي، مثلما تضمّنه آخر تقرير للبنك العالمي في تشخيص دقيق للمعطيات ورسم معالم مستقبل، يتطلّب مع ذلك التزام الحذر ووضع كافة المعطيات تحت المجهر، لتفادي أي تعثّر محتمل تكون كلفته باهظة من جهة، وتطوّرات مراحل تسيير متبصّر للشق المالي في باب حماية احتياطي العملة الصّعبة، الذي بالرغم من انكماشه، لا يزال يوفّر قدرات مقبولة لمواجهة الظّرف الصّعب، وفي نفس الوقت، التعامل مع تداعيات جائحة فيروس كورونا من خلال جدوى الإجراءات الاحترازية التي تكلّلت مع نهاية شهر جانفي الأخير بالحصول على شحنات أولى من لقاح مضاد للفيروس، في انتظار دفعات أخرى قادمة.
إشارات جديرة بالتوقف عندها تحسّبا للتحديات التي تلوح في الأفق بين ما يثير الحذر والتّريّث، وما يشجّع على انتهاج مسار التنمية مجدّدا، عن طريق آليات اقتصادية متنوّعة تتكفّل بمشاريع ذات جدوى، تتّسم بكونها قليلة الكلفة وسريعة المردودية، قاطرتها الاستثمار المنتج. كل ذلك ضمن مقاربة نموذج اقتصادي متنوّع يقوم على ثنائية القيمة المضافة، والتحكم في الكلفة لبناء معادلة متينة للنمو، وهو ما يتطلّب استعادة المبادرة بكافة أشكال الاستثمار انطلاقا من قطاعات تملك فيها الجزائر أوراق انتعاش أكيدة، منها فروع أظهرت خلال كل فترة الجائحة قدرات على الصّمود والتكيف مع التغيرات دون تعطيل جهازالانتاج، وإن حدث تباطؤ مفروض بحكم قوّة الوباء.
قاعدة بيانات مفتوحة
بخصوص معدّل النمو الذي تراجع السنة المنصرمة ـ وقد عرفت كافّة اقتصادات العالم نفس المصير بدرجات متفاوتة ـ تحت وقع فيروس كورونا وتداعياته على العجلة الاقتصادية، قدّم البنك العالمي في تقريره الأخير عن النمو في الجزائر توقّعات توصّل إليها من خلال تدقيق المؤشّرات المتوفّرة، تفيد ببلوغ النمو نسبة 3.8 بالمائة عام 2021 معزّزا تقرير الهيئة المالية الدولية بتسجيل الجزائر مكاسب في تجاوز “كوفيد-19” والاصلاحات الهيكلية المسطّرة، التي ينبغي أن تتواصل وفق مقاربة مندمجة تراعي كافة الجوانب بما فيها ذات الصّلة بالدعم عن طريق وضع قاعدة بيانات مفتوحة يتم إنجازها باعتماد وسائل تكنولوجية ضمن مسار الرّقمنة الشّاملة، مع وضع معايير تحظى بإجماع الشّركاء وتحت رقابة خبراء أكاديميّين مستقلّين.
المنعرج الحاسم في بداية الثلاثي الأول من السنة الجارية ـ التي تكتسي أهمية قصوى في تجاوز الخط الأخير من الخطر الوبائي، الذي كبّل المؤسّسات وأوقف عجلة قاطرات إنتاج الثّروة وأغلق الأسواق وقطع السبل بينها ـ يشكّله وصول اللّقاح المضاد للفيروس لتعزيز مناعة الانسان، ومنه تأسيس مناعة الاقتصاد بكل فروعه المعوّل عليها في تحقيق توازن الميزان التجاري، وفقا لمقاربة النموذج الاقتصادي الجديد بمعايير النّجاعة والترشيد في استعمال الموارد وتنميتها، وهي فروع قابلة لمجاراة الأزمة وتقديم الفارق المطلوب، خاصة باتجاه التصدير إلى أسواق إقليمية منها الإفريقية بالأساس، حيث فرص الانتشار واكتساب الخبرات في المنافسة.
في هذا الإطار سجّلت عودة حالة ارتياح في الشّارع الاقتصادي من خلال التعاطي الايجابي للمواطنين مع الوافد الجديد لتعزيز جدار المناعة، وعاد الحديث في أكثر من موقع عن مخطّطات الاستثمار وتنشيط حركية الورشات تحسّباً للفتح الواسع للحركة على المستويين الإقليمي والعالمي، مع الإبقاء على درجة من الحذر بالتزام التدابير الاحترازية حتى لا تعود العجلة إلى الوراء، وأكثر من هذا قراءة دقيقة وشاملة لرؤية خبراء البنك العالمي الذي تترك تقاريره الدورية أثرها على مراكز القرار الاقتصادي عالميا، ومنها يستمد الشّركاء والأسواق خلاصات تبنى عليها خيارات ومواقف تؤثّر مباشرة في اتجاهات الرأسمال الاستثماري، الباحث عن أفضل مناخ لتوطين مشاريع ذات جدوى.
في قراءة مفصّلة، فإنّ أبرز مؤشّرات التفاؤل، توقّعات إيجابية بتحقيق نموّ على مستوى الانتاج في قطاعات خارج المحروقات بمعدّل 3.6 بالمائة بإجمالي ناتج خام يعادل 149.6 مليار دولار، بعد أن تراجع إلى أقل من 6 بالمائة السنة المنصرمة. كما يُرتقب، وفقا لنفس القراءة، تحقيق تحسّن ملحوظ لنصيب الفرد من النّاتج المحلي الاجمالي ليصل 3323 دولار بفضل تطوّر النّاتج الداخلي الخام خارج المحروقات، وهو مؤشّر جوهري جدير بالتوقف عنده خاصة في قطاعات مثيرة مثل الفلاحة، التي أنقذت الموقف في مرحلة سابقة لكنّها تحتاج إلى مواكبة التوجهات الكبرى للنمو بدعم من فروع الصّناعة التّحويلية التي لا تزال متأخرة ورهينة استيراد المواد الأولية، بينما يوجد فائض في أكثر من منتوج يحتاج فقط لمشاريع مطابقة لتحويلها إلى منتجات صناعية قابلة للتصدير وتقلّص من الاستيراد، وهي مأمورية تقع على عاتق المؤسّسات النّاشئة التي تحظى بالمرافقة لكن تحتاج إلى تصويب الوجهة.
الحفاظ على التّوازنات
مع ذلك وفي الانتظار، يبقى النّفط في الظّرف الراهن، بكل اتّجهات التحول، بمثابة “الوقود المتاح” لضمان إعادة تنشيط الحركية بأبعادها التنموية الاقتصادية الصرفة القائمة على الحرص على الحفاظ على التوازنات الكبرى وتدقيق صارم للحسابات المالية والنقدية، وفي نفس الوقت تلبية الاحتياجات الاجتماعية انسجاما مع روح الدولة الاجتماعية التي ترمز لعنوان كبير لجزائر جديدة، تتقاطع فيها قواعد الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، عبر ردّ الاعتبار لقيمة العمل وتحرير المبادرة ومكافحة الفساد بلا هوادة تحت مظلّة دولة القانون، روحها عدالة شفّافة وجريئة، ترعى الحقوق بما فيها تلك المتعلّقة بالمؤسّسة الاقتصادية عن طريق الفصل بين الشّخص الطّبيعي والشّخص المعنوي، بالنسبة للمؤسّسات التي يقع ملاّكها تحت طائلة متابعات القضاء في ملفات فساد، حتى لا تضيع قطع أساسية من السّلسلة الانتاجية وبالذّات تأمين مناصب عمل.
في هذا الإطار، تبقى المحروقات المصدر المتاح والممكن حاليا لإنجاز أهداف التحول الاقتصادي مع ضمان المرافقة الاجتماعية، خاصة وأنّ معدّلات الأسعار بدأت تتعافى بعد أن تماسكت فوق 55 دولارا طيلة الأشهر الأخيرة، مع توقّع استمرار منحى التّحسّن في الثلاثي الأول للعام الجاري، لكن ذلك، لا ينبغي أن ينسي القائمين على دواليب الاقتصاد ومفاصله الحيوية، أهمية مواصلة ترشيد استخدام الموارد وتقليص مساحة النّشاطات الموازية، وتوسيع نطاق الشّمول المالي لجذب كافة الموارد المتاحة تعزيزا للأمن المالي الوطني، العمود الفقري للأمن الاقتصادي بأبعاده الاجتماعية، وكل ما له صلة بالاستقرار الشامل.
كل هذا المشهد، المغاير لما كان عليه سنة من قبل، يسمح برسم معالم لوحة قيادة الجهاز الاقتصادي على أُسس علمية تستند إلى معطيات ليس من السهل أن تفصح عنها هيئة مالية دولية بحجم البنك الدولي، ومن ثمّة التّعامل مع تلك التّوقّعات بإيجابية أكثر من اعتبارها مؤشّرات في المتناول، لذلك تتطلّب المرحلة مضاعفة الجهود على جميع المستويات بانتهاج مسارات متوازية تدمج القواعد الاقتصادية والمتطلّبات الظّرفية من خلال بناء معادلة مرنة تكون فيها الموارد محفّزا لإنتاج عنصر القيمة المضافة في كل تصرّف اقتصادي اجتماعي، وهي مسؤولية الجهاز الإنتاجي على كافة المستويات بالانتقال من مرحلة الصدمة إلى مرحلة المبادرة.
انطلاقا من هذا التّشخيص، فإنّ الصّادرات النّفطية التي يتوقّع أن ترتفع بارتفاع سعر تصدير النّفط إلى 42 دولارا هذه السنة (40.4 دولارا في 2020)، ينبغي أن تكون محفّزا لتحسين مؤشرات التصدير خارج المحروقات، وهي مأمورية تقع على عاتق المؤسّسات الانتاجية والخدماتية، ومن ورائها كل البنية الاستثمارية عن طريق إقحام النّسيج المعتبر للجامعات والمعاهد في تنمية الذّكاء الصّناعي باعتباره الرّئة التي تضمن عمل الجهاز الاقتصادي، وانتقاله للتّعامل مع الثّورة العالمية الرابعة من بوّابة اقتصاد المعرفة، الذي شرعت اقتصادات بلدان أدركت هذا التحدي في تجسيده على أرض الواقع، وكل تأخّر عن الرّكب سوف يكلّف الكثير بل أكثر من كلفة التبعية للمحروقات.
محرّكات الإنعاش
بطبيعة الحال، يكون الانتقال إلى هذا المستوى ضمن تنشيط مسار الإنعاش الاقتصادي الذي تمّ الاعلان عن معالمه الصّائفة الماضية، في ندوة وطنية شاملة بإشراف الرئيس تبون، ينبغي أن يتم العمل بروح الفريق متعدّد الوظائف لتدارك التّأخّر المسجّل، ولذلك مبرّرات موضوعية (الأزمة المالية والصحية) والتي بدأت تتراجع بالنظر للعناصر المذكورة، أبرزها تحكّم مقبول في الوضع الوبائي، خاصة مع إحضار اللقاح والتوجه إلى إنتاجه محليا بواسطة شراكة جزائرية روسية، مع بقاء نبض ولو ضئيل للنمو في قطاعات حيوية يراهن عليها لبلوغ درجة الامتياز والتفوق على غرار المؤسّسات النّاشئة، التي ينتظر أن تتحوّل إلى محرّكات جوارية لكافة المجالات المعطّلة أو المتعثّرة أو تلك التّائهة وسط سوق تعرف تحوّلات عميقة وسريعة، لا يصمد فيها متردّد أو غير مدرك بدقّة لكل مؤشّر محلي وعالمي.
ثلاثية الاستهلاك والاستثمار الخاص والتصدير، التي دوّنها تقرير البنك العالمي، تشكّل حسبه محرّكا للنمو وللجهاز الاقتصادي الوطني، وطاقات تتطلّب الضبط والتكامل ومواكبة الظرف المستجد بتصحيح ورقة الطريق لكل قطاع وكل مؤسّسة مع بناء نمط شراكة برساميل وطنية، يؤمن أصحابها بأنّ مصلحة المؤسّسة والفرد تستمد من مصلحة الاقتصاد والمجتمع أمام منافسة أجنبية قادمة لا محالة، والأفضل أن يتم الشروع في بناء أرضية صلبة لذلك بدل الانتظار أكثر بدون ضمانات. وهنا يبرز الدّور الرّيادي لوظيفة الاستشراف لتوضيح تفاصيل المشهد الاقتصادي ووضع كل معطياته في المكان الصحيح، وهي مهمّة يتولاّها خبراء أكفّاء يخضعون توقّعاتهم للنّقد والتمحيص أكثر من مجرّد قراءات تقنية لأرقام تتغيّر في كل لحظة.
لقد استفادت المؤسّسات بغض النظر عن طبيعتها القانونية من مرافقة في إطار مجابهة تداعيات كورونا مثل تأجيل دفع الضّرائب وتسديد القروض والتصريح وتأجيل الالتزامات التعاقدية، ما يؤهّلها اليوم للإمساك مجدّدا بخيوط النمو عن طريق إعادة الانتشار في السّاحة، خاصة على مستوى تنشيط دواليب الاستثمار المنتج وفقا لقواعد مناجيريالية تسمح بالسّيطرة على المشاريع والتحكم في هندستها من كافة الجوانب، وبالذات فيما يتعلّق بالمسائل المالية التي تعتبر بشأنها البنوك أفضل شريك ومرافق انسجاما مع ما رسمته السّلطات المالية من معالم، حان الوقت للمصارف أن تتعامل معها بروح المؤسّسة الشريك أكثر من مجرّد بنك صندوق، وقد سطّرت السّلطات المالية مسارات لهذا التحول الذي لا يمكن أن يتأخّر أكثر، ومنه ضرورة التوجه، خلال السداسي الأول الحالي على الأكثر، إلى تجسيد إصلاحات للنّظام البنكي والمالي، بالعمل مع الكفاءات التي يزخر بها رغم كل ما يطاله من نقد وشوائب يمكن تحييدها بفضل توسيع نطاق الرّقمنة.
في هذه اللّحظة الفارقة من مصير النّسيج الاقتصادي المثقل بتداعيات أزمة لا تبدو متّجهة للاختفاء، يبقى عالم الشغل أحد الأولويات أيضا، ويحتاج إلى تعزيز مناخ الاستقرار الإيجابي الذي يسمح بالتغيير البنّاء والتطوير الهادف لتفادي الجمود وإعداد البديل في ضوء تعاقب الأجيال لتبقى الكفاءة النواة الحيّة لكل إصلاح، كما يمثل الحوار الاجتماعي، في أصغر جزئيات تركيبة هذا العالم حيث تصطدم المصالح وتتضارب المطامح، مفتاح الخروج من انسداد سبّبته تراكمات سنوات ماضية، إلى رحاب فضاء اقتصادي عناوينه الكبرى العمل، المنافسة، الابتكار وتكافؤ الفرص والعلم لأنّ كل تصرّف مهما كان، له قيمة تساهم في تنمية النّاتج الدّاخلي الخام.