سنة انقضت وعام جديد حلّ لتتواصل مسيرة البناء من خلال التغيير المرتكز على مقاربة مندمجة عنوانها جزائر جديدة، تتقاطع فيها التطلعات المشتركة التي يعتبر النمو بكل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية قلبها النابض.
برزت خلال السنة المنصرمة مؤشّرات تعكس حصيلة متواضعة على ما تتضمّنه من مكاسب ونقائص نجمت في أغلبها عن عوامل خارج السيطرة تتمثل في تداعيات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تراجع إيرادات المحروقات التي تبقى طوق النجاة، وتحقيق التحول في الظرف الراهن وإفرازات الأزمة الصحة جرّاء وباء “كوفيد-19″، التي تطلّبت تجنيد موارد مالية على قلّتها لتعزيز الوقاية وحماية المواطنين من الفيروس القاتل.
مناطق الظل أولوية
منذ بداية العام 2020 بكل تحديات الظرف وطنيا وعالميا، ومقتضيات إنجاز برنامج الرئيس تبون في السنة الأولى من عهدته الأولى، اتّضح أنّ الكلفة لن تكون يسيرة ومن ثمّة ضرورة تجنيد كل الموارد المتاحة على قلّتها لإعطاء نفس لوتيرة التنمية، وذلك برفع التجميد عن سلسلة معتبرة من المشاريع الاستثمارية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، خاصة في المناطق التي تشكّل العمق الجغرافي بتحدي التضاريس وكسر حاجز المسافات من خلال إنجاز أسس التنمية المستدامة من توصيل للكهرباء والمياه وشق الطرق وبناء مدارس ومشاريع للسكن.
يندرج كل هذا التوجه في نطاق ما يعرف بالنهوض بمناطق الظل التي تدرج في الالتزامات الـ 54 للرئيس تبون ضمن العقد الانتخابي الذي يربطه بالشعب، مانحا إيّاه الثقة لاستكمال مشروع الجزائر الجديدة بمميزاتها سيادة القانون وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، والارتقاء بقيمة المواطنة القاسم المشترك وموروث الأجيال انسجاما مع رسالة أول نوفمبر المرجعية الأصلية للمشروع الوطني المتكامل.
حرب على كورونا
وإن كانت الانطلاقة قد بدأت مباشرة بعد تولي مقاليد الحكم النابع من إرادة انتخابية صريحة منسجمة مع مطالب الحراك، إلاّ أنّ ظهور فيروس كورونا الذي فاجأ العالم برمّته وتسلّل إلى بلادنا في مارس، وكل ما تطلّبه من إجراءات احترازية وتدابير وقائية فرض مراجعة ورقة الطريق في جوانبها الظرفية، وإعادة ترتيب الأولويات بوضع الصحة العمومية في الصدارة على كافة المستويات.
وفي هذا الاطار، اتّخذت قرارات جريئة وقوية من حيث توفير الموارد المالية، وربط اتصالات مع بلدان صديقة لديها مستلزمات مواجهة الفيروس، وكان القرار السياسي صريحا اتّخذه رئيس الجمهورية مبكّرا لجلب كل الوسائل والتجهيزات الاستعجالية من الصين، مصنع العالم، وتمكين المواطنين وبالدرجة الأولى القطاع الصحي والطبي من التعامل مع الخطر الفيروسي بثقة، مع البقاء على درجة من الأمل والثقة في المستقبل بعد الخروج من دائرة الصدمة.
ولشدة الخطورة كانت المعركة مع الفيروس منذ بداية الفصل الثالث من السنة إلى نهايتها بكل ما تطلّبته من موارد مالية شحيحية جرّاء انكماش إيرادات المحروقات وتوقف نشاط الأسواق عبر العالم، وتآكل احتياطي الصرف بالعملة الصعبة الذي يستدعي التزام الحذر واليقظة لتفادي أي طارئ، وذلك من خلال إعادة تجنيد الامكانيات البديلة المعطّلة، وهو ما ورد في مخطط الانعاش الاقتصادي الذي تمّ اعتماده الصائفة الماضية واضعا القطاعات الحيوية في صلب معادلة التنمية الشاملة لإحداث قطيعة مع المحروقات.
الجامعة في المقدّمة
ضمن هذه المعادلة المرنة برزت قطاعات لديها القدرة على تلبية الاحتياجات، من الجامعة ومراكز التكوين المهني ومختلف المؤسّسات الإنتاجية التي ساهمت في توفير مستلزمات مجابهة الوباء بفضل تفجير طاقات إبداعية وابتكارية للطلبة والأساتدة ليتحوّل الحلم إلى حقيقة بتجسيد مشاريع في صناعة أجهزة التنفس الاصطناعي والكمامات ومحاليل مطهرة ووقائية، إلى جانب ألبسة للسلك الطبي كانت ستكلّف الكثير بالعملة الصعبة حالة الاستيراد، إلى الفلاحة التي ساهمت في تأمين تموين الأسواق الغذائية كمّا ونوعا، ممّا عزّز جانبا من الأمن الغذائي في زمن أزمة عالمية متعدّدة الجواب ضاعف منها تقليص الاستيراد وانكماش الأسواق، مرورا بإطلاق مسار إنشاء المؤسسات الناشئة في كل القطاعات لتكون المحرك الاقل كلفة والأكثر كفاءة للنمو بشقيه الاقتصادي المطابق للمعايير والاجتماعي المطابق للنمط المتميز لمشروع التغيير، بحيث يبقى الانسان جوهر كل عمل.
وتمّ الرهان بشكل كبير على المعرفة والتكنولوجيات من خلال خيار الرقمنة لاختصار الزمن، وتقليص النفقات بإدراجها في كافة مفاصل المنظومة الاقتصادية والإدارية، فتحقّقت أشواط معتبرة يمكن البناء عليها في المدى المتوسط لتوسيع نطاق الرقمنة حتى تصبح ممارسة يومية في الحياة العامة للمؤسسات والمواطنين لما فيها من فعالية وجدوى ذات قيمة مضافة لا تحتاج إلى تأكيد اليوم أكثر من أنّها تحتاج إلى ترسيخ لدى كل الفاعلين في الساحة تزامنا مع إرساء منظومة للأمن المعلوماتي، تُوفّر المناعة بنفس الحاجة إلى المناعة ضد كورونا وكل مظاهر الفساد.
كسر شوكة الفساد
بخصوص هذا الأخير فقد سجّلت السنة المنقضية مواصلة مسعى مكافحة الفساد بمعالجة العديد من القضايا الثقيلة التي تُثير الرأي العام، بحيث واصلت العدالة عملها في ظل سكينة وهدوء استجابة لمقتضيات القانون ومطالب الشعب، بحماية المال العام وكسر شوكة العصابة وأدواتها التي استباحت موارد ثمينة تشكّل مصدر رزق الأجيال، ولعلّ الرسالة التي تحملها مقاومة الفساد أنّ لا أحد فوق القانون، وكل من امتدّت يده لمال الشعب يقدّم الحساب أمامه، تأسيسا لمرحلة أخلقة الحياة العامة ووقف كافة مظاهر التسيُّب، مصدر كل الانكسارات التي لا موقع لها في جزائر جديدة تراهن على كفاءاتها من الشباب يتقدّمهم حاملو المشاريع وأصحاب الإرادة في التحدي من منطلق المصلحة الفردية ضمن المجموعة الوطنية.
إنّها سنة بيضاء بالنظر إلى كل العوامل الطارئة، ومن ثمة يكفي أنّ مواجهة الصدمة المالية الخارجية والأزمة الوبائية بكل التهديدات الاقليمية التي تحيط ببلادنا وتستدعي التأهب لكل طارئ، يعد مكسبا مع التطلع إلى آفاق عام جديد تلوح فيه مؤشرات أبرزها وطنيا اقتناء الجزائر لقاح “كوفيد-19″، وتوقيع قانون المالية الجديد مع نشر وثيقة الدستور في الجريدة الرسمية. وخارجيا توقّع الخبراء بداية تعافي الاقتصاد العالمي محرك الطلب على النفط، وعودة الأنشطة الكبرى مثل النقل الجوي والبحري، في وقت لا تزال فيه الطاقة مصدرا للنمو والتأسيس للتحول الاقتصادي الشامل في المدى المتوسط.
مفاتيح النمو
يندرج قانون المالية 2021 الذي وقّعه رئيس الجمهورية في 31 ديسمبر 2020 كإشارة لديمومة التنمية ضمن الرؤية الدقيقة للمرحلة التي لا تزال تحت تأثير عوامل الكبح، ولذلك كان الرهان على النسيج الاقتصادي الوطني لإنجاز الوثبة من خلال تنويع الاستثمار في قطاعات ذات جدوى على غرار الصناعة المنجمية التي تشكّل عجلة إضافية لتحريك النمو وفقا لرؤية شاملة تتكامل فيها القطاعات والفروع الانتاجية التي تملك فيها الجزائر مناعة تؤهّل المؤسّسات للاستثمار والشراكة على أساس مشاريع واضحة ودقيقة الدراسة من كافة الجوانب المناجيريالية والمالية والتسويقية.
ويخصُّ هذا القانون المؤسّسات الإنتاجية من منطلق التوجه الاستثماري ببعده الاجتماعي بمرافقة حقيقية تسمح بإنتاج الثروة، وتحقيق قيمة مضافة تعطي للمنتوجات الجزائرية ثقلا في الأسواق خاصة الاقليمية، وبالذات الأفريقية تزامنا مع دخول منطقة التبادل الحر الأفريقية النشاط، وهي فرصة ثمينة للمتعامل الجزائري لتأكيد القدرة على المنافسة تحسّبا لمواعيد قادمة أكثر حدّة في إطار مسار الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي، الذي يجري السعي لمراجعة بنود الاتفاق حرصا على توازن المصالح، وتغليب الاستثمار الذي تريده الجزائر أكثر من التسويق الذي يخدم مصالح الطرف الأوروبي بشكل تجاوز كل تصوّر.
وللتعامل مع تلك التحديات على ما تحمله من مصاعب، يستوجب التوجه إلى بناء تحالفات وطنية قطاعية، وحسب الفروع التي تظهر مؤشرات إيجابية للدخول في مرحلة استثمار وتصدير من خلال المبادرة عبر شراكة وطنية خاصة بعد أن سقطت اعتبارات التمييز بين مؤسسات القطاع العام ونظيرتها في القطاع الخاص لتبرز كما يكرّسه الدستور الجديد هويّة المؤسّسة الجزائرية كحجر الزاوية للجهاز الاقتصادي الانتاجي، الذي يقع عليه عبء المهمّة المصيرية في تأمين عوامل استقلالية القرار الاقتصادي.
لذلك فإنّ العام الجديد يكون موعدا لتجسيد كل البرامج المحورية انطلاقا من قناعة راسخة لدى الشركاء بالعمل يدا في يد، بروح وطنية اقتصادية تعطي المناعة اللاّّّزمة للمؤسّسات في مواجهة منافسة قادمة لا محالة.