البنوك هي رئة الاقتصاد لذلك تتصدّر الجدل القائم منذ سنوات وسط اتّهامات من فاعلين في السّوق، واتّزان من جانب القائمين على المصارف وسط قناعة من كافة الأطراف بأنّ تجاوز الأزمة يتطلّب تضافر الجهود ضمن نقاش هادئ للعثور على حلول ناجعة تؤدّي إلى خدمة النّسيج المؤسّساتي الإنتاجي، ومرافقة الاستثمارات ذات الجدوى والقابلة للديمومة، فالبنوك وبالذات العمومية هي مؤسّسات اقتصادية تتحمّل المخاطر وتحرص على تفادي خطر الإفلاس.
يتشكّل القطاع البنكي من 30 بالمائة مصارف عمومية و70 بالمائة مصارف خاصة، وبالتالي يوجد في السوق حوالي 20 بنكا تجاريا منها فقط 6 بنوك عمومية و14 خاصة منها بنك مختلط. وللبنوك الـ 6 العمومية لوحدها 88 بالمائة من القروض الموجهة للحياة الاقتصادية في مختلف القطاعات.
غير أنّ ما تتعرّض له البنوك العمومية من انتقادات تعكس انشغال وقلق رؤساء مؤسّسات ومتعاملين وسط مناخ يبرز فيه مطلب التطوير والعصرنة، ومواكبة التغيرات الاقتصادية يترتب عليه حسب أوساط بنكية أثر سلبي على مستوى مصداقية البنية البنكية الوطنية، التي لا تزال تتحمّل عبء تمويل الاقتصاد. وهناك من يتساءل مَن المستفيد مِن هكذا حالة، في وقت يتشكّل فيه اتّفاق على أنّ الإصلاح البنكي مطلب ملح ينبغي أن يقوم به احترافيّون بعيدا عن اتّهامات تزيد من هشاشة البنوك الوطنية، خاصة في مرحلة يتم التجهيز فيها لعملية فتح رأس مال عدد من البنوك العمومية، وهي العملية التي تستوجب انتقاء شركاء جادّين ولديهم القدرات المالية بالعملة الصّعبة أساسا.
يعتبر بنكيّون أن ما يوجّه للقطاع من انتقادات يثير الشّبهة، فلا يعقل أن يطلب طرف قرضا ولا يوفّر ضمانات، فالمال عمومي ولا ينبغي أن يستباح خاصة في هذه المرحلة، ولعل عمليات التّفتيش التي أمرت بها السّلطات العمومية تظهر الحقائق حتى لا توصم بنوك يحتاج إليها الاقتصاد بأنّها مصدر تعطيل وهو ما يرفضه أغلبهم.
ولأنّ رجل البنك طرف صامت لا يتكلّم، ولغته أرقام وإحصائيات ومؤشّرات، بعضهم يطالب بإشراكهم في إطار ندوة شاملة لكشف الحقائق حتى لا يحملوا إخفاقات رجال أعمال وأصحاب مشاريع كما يدّعون، ذلك أنّ هناك كثير من رجال الأعمال نجحوا مع بنوك وطنية تبقى خاضعة للمراقبة عبر آليات صارمة.
لقد رافقت البنوك مختلف مراحل الاقتصاد وسيّرت المرحلة المالية الصعبة، كما يشير إليه بعض إطاراتها مرتكزة على قناعة راسخة بالعمل لصالح الاقتصاد من خلال تمويل الحركية الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية.
يتشكّل النّظام المالي من القطاع البنكي والخزينة العامة والبريد والتأمينات والمؤسّسات المالية، وكلهم يعملون من أجل تجنيد الموارد المالية على أساس مبدأ جمع الادّخار وتقديم القروض.
عموما تمثّل الوساطة البنكية في أوروبا بين 30 إلى 40 بالمائة من حجم تمويل الاقتصاد، والباقي يأتي من السّوق المالية أي البورصة التي تموّل الإقتصاد من خلال آليات السوق لفائدة الاستثمارات عبر إصدار السّندات وتداول الأسهم.
لكن عندنا الواقع يشير إلى أنّ حوالي 94 بالمائة، حسب تقديرات أهل الإختصاص، من التمويلات تأتي من القطاع البنكي، في وقت لا تزال فيه البورصة عاجزة عن أداء دورها الوظيفي لتمويل الاقتصاد، ولا تكاد حصتها تتعدّى 0.2 بالمائة من النّاتج الداخلي الخام (21 بالمائة في تونس).
بالمقابل يتحمّل القطاع البنكي وأساسا البنوك العمومية الـ 6 الكثير، ذلك أنّ حوالي 50 بالمائة من تمويلات الاستثمارات كان يمكن أن تستقدم عبر البورصة.
المساوئ والسّلبيات التي تلاحق القطاع البنكي مردّها (أهل مكة أدرى بشعابها) طبيعة الاقتصاد الجزائري، فهو يتشكّل من القطاع العام بنسبة حوالي 50 بالمائة، ومن ثمّة تتّجه المؤسّسات العمومية إلى البنوك العمومية بل إن مختلف آليات التشغيل ترافقها البنوك العمومية، إلى جانب تمويل قطاعات ذات استهلاك ضخم للموارد مثل الفلاحة والسكن، وأخيرا مرافقة المؤسّسات النّاشئة (ستارت آب) بينما البنوك الخاصة لا تتعدّى مساهمتها 12 مليون دينار.
أكثر من هذا يشير أهل البنوك العمومية بلغة الأرقام إلى أنّها تشغّل 29 ألف عامل، ولها 1170 وكالة بينما لا تشغّل البنوك الخاصة سوى حوالي 6 آلاف عامل، ولها 462 وكالة في كامل التّراب الوطني.
البنك عبر العالم مؤسّسة اقتصادية ويخضع للمحاسبة، بحيث يطلب منه تقديم كشف حساب النتائج، ولديه زبائن ويدفع أجور ويتحمّل الأعباء، مصدر قوته من الودائع وتسديد القروض.
لذلك كانت سنة 2020 فترة صعبة لقلة الموارد المالية جرّاء تأثر الاقتصاد على غرار كل العالم بجائحة كورونا، علما أنّ بنك الجزائر قرّر في إطار مواجهة تداعيات “كوفيد-19″ تأجيل عمليات تسديد القروض البنكية إلى أن يستأنف الإقلاع الاقتصادي، ومن شأن هذا تقليص موارد البنوك.
الواقع اليوم ومنذ الفترات المتعاقبة لمسار التنمية، فإنّ طبيعة الاقتصاد تحتاج إلى النمط البنكي القائم بمعنى مراعاة الجانب الاجتماعي في العمل البنكي، وأكثر من هذا التخوف من اتخاذ القرار، وهي معضلة لا تزال تعيق المبادرة الاستثمارية، علما أنّ تطوّر الاقتصاد يمر حتما من خلال استثمارات طويلة الأجل (مشاريع كبرى)، ومن ثمّة لا يمكن تمويل مشاريع من هذا القبيل بودائع قصيرة الأجل. لذلك تبقى البورصة الحل العملي عبر طرح أسهم أو سندات ممّا يقلّل من العبء الذي تتحمّله البنوك لوحدها.
إذن البنوك الجزائرية في الظّرف الرّاهن ملائمة لطبيعة الاقتصاد المعمول به، ولهذه الوضعية تكلفة غير أنّ التحوّل إلى اعتماد معايير بنكية عالمية سوف يؤدّي بالضّرورة إلى وقف تمويل قطاعات مثل السكن، الفلاحة والتشغيل، وهو من العوامل التي أدّت أيضا إلى ضعف دور البنوك الخاصة التي يبقى نطاقها في تمويل الاقتصاد محدودا.
بالمناسبة، من المهم الإشارة إلى أنّ البنوك التي تحتل المراتب الأولى في العالم هي بنوك صينية، فالبنك الأول عالميا هو البنك الصناعي التجاري الصيني بأصول تقدّر بـ 4322 مليار دولار، والثاني بنك الصين للبناء يليه بنك الصين للفلاحة قبل أن يأتي بنك أمريكي خامسا و”بي أن بي باريبا” الفرنسي تاسعا في جدول الترتيب العالمي بإجمالي حصيلة 2430 مليار دولار.
بالمقابل أكبر بنك في الجزائر له أصول بين 6 إلى 7 ملايير دولار، أي ما يعادل قوّة وكالة بنكية لأحد البنوك العالمية الضخمة.
في هذه الظّروف من المهم أن يكون النّقاش حول القطاع البنكي في الجزائر تحت مظلّة البحث عن حلول متكاملة تقود إلى تصحيح مكانة البنوك العمومية في المعادلة الاقتصادية، وهي مهمة توكل لأهل الاختصاص بعيدا عن اعتبار البنوك غنيمة كما يعتقده البعض أو “بايلك” يستبح في منعرج مسار الاصلاحات، فالبنوك العمومية لها إخفاقات ولها مكاسب بل لديها إطارات ينبغي وضعها في مناخ هادئ واحترافي وشفّاف.