يمرّ العالم اليوم بمرحلة جديدة تقوم على جملة من التحولات الرقمية المستجدة والمتواصلة والمتطورة بشكل سريع في مجالات عدّة، وبوتيرة لا تستطيع ثقافتنا مواكبتها. وحسب المؤرخ الألماني “ليوبولد فون رانك Leopold von Ranke” فإنّ فهم التاريخ يتكوّن في المؤسّسة ممّا كان. وقد عرّف “أوزوالد سبينغلر Oswald Spengler” التكنولوجيا في كتابه “الإنسان والتكنولوجيا” الذي نُشر سنة 1931 “بأنّها نضال وليست أداة”، فهي تعلّمنا الحصول على أفضل النتائج بأقلّ جهد ممكن. كما أشار قبل ذلك سنة 1920 إلى انهيار الحضارة الصناعية، ولكن دون أن يذكر حدود وملامح الحضارة التي ستحلّ محلها.
وفي سنوات الأربعينات من القرن الماضي؛ كان عالم الاقتصاد الأسترالي “كولن غرانت كلارك Colin Grant Clark” قد تحدث بالفعل وبشكل واضح عن ظهور مجتمع المعلومات والخدمات، مجتمعٍ ذي اقتصاد جديد وتكنولوجيا جديدة، وفي الخمسينات استبق عالم الاقتصاد الأمريكي “فريتز ماكلوب Fritz Machlup ” أمر الحديث عن اقتصاد المعلومات وتحويل المعلومات إلى سلع، وفي نهاية الستينات تنبّأ زعيم ما بعد الصناعة الأمريكي “دانيال بيل Daniel Bell ” بتحوّل المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات والذي يعني ببساطة ذلك المجتمع الذي يشارك معظمُ أفراده في العمليات المرتبطة بإنتاج المعلومات والمعارف ومعالجتها وتخزينها وبيعها.
هذه هي إذن ثورة المعلومات التي وُلدت من رحِم الابتكار التكنولوجي، غير أنّها ليست مقتصرة عليه فقط؛ إذ أن الثّورة الرّقمية هي العنصر التكنولوجي في حدّ ذاته؛ حيث انتشر الابتكار الرقمي تاريخيًّا في جميع أنحاء العالم منذ الستينات، وقد اقتصرت الخطوة الأولى في تطوير الابتكار الرقمي على جعل التكنولوجيات والمهن القائمة تشتغل بشكل آلي، ثمّ جاءت المرحلة الثانية في منتصف التسعينات؛ وتميّزت بدخول الإنترنت والاتّصالات المتنقّلة عالميا إلى المجتمع.
لقد غيّر التحول الرقمي اليومَ مجتمعَنا بشكل جذري، إذ أصبح مصدرا للتطوّر، تمامًا مثل مشهد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وبات جزءَا لا يتجزأ من حياتنا اليومية ومن المتوقّع أن يتطوّر أكثرَ فأَكثر، ويستمرّ في التصاعد بقوّة في السنوات المقبلة؛ إذ لم يعُد للمؤسّسات أو الموظفين أو الزبائن أو المجتمعات المحلية أو المواطنين مفر منه؛ فهو ليس بديلا للرأسمالية أو الاشتراكية، تمامًا كما لم يكن هناك بديل في المجتمع الصناعي حيث كانت هناك نظم اجتماعية واقتصادية مختلفة ولا زالت تتعايش.
ماهية الرقمنة والتحوّل الرقمي ومجتمع المعلومات؟
لا تزال الرّقمنة والتحوّل الرقميّ يُستخدمان كمترادفين، والحقيقة أنّ هناك فرقا كبيرا بين المفهومين، فالتحوّل الرقميّ يحوّل البيانات التناظرية إلى صيغة رقمية، فقد كنّا على سبيل المثال نستمع إلى الأقراص، ونشاهد الأفلام على أشرطة الفيديو، والآن بفضل تدفّق نظام 1و0 صِرنا نحصل على أصوات وفيديوهات عالية الجودة. وعليه؛ فإن التحوّل الرقمي هو تحسين سير العمليات القائمة من خلال تكنولوجيات الإعلام، والاستخدام الأمثل للبيانات وإعادة هندستها وتحليلها من أجل اتخاذ القرارات.
وعندما نتحدث عن التحوّل الرقمي، نفهم أنّ الأمر مرتبط بتغييرات أساسية في سلوك المواطن والمنظمة والحكومة، بفعل التكنولوجيات الرّقمية. هذا هو التحوّل النمطيّ؛ أي: إنّ التحوّل الرقميّ عبارة عن عمليةِ إعادة تنظيمٍ في العمق لسير عمل الوظائف القائمة، مع تعميم استخدام الأدوات الرّقمية لتنفيذها، وهو ما يؤدّي إلى تحسين كبير – بأضعاف مضاعفة – لخصائصها (تقليص وقت التنفيذ، اختفاء مجموعات كاملة من العمليات الفرعية، تقليل الموارد المستهلكة من أجل تنفيذ العمليات) وظهور صفات وخصائص جديدة جوهرياً. وعلاوة على ذلك؛ فإنّ التحول الرقميّ يشكّل قاعدة الانتقال إلى الاقتصاد الرقميّ وتكوين مجتمع المعلومات.
إنّ الاقتصاد الرقميّ -كما حدّده البنك الدولي- هو عبارة عن مجموعة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي توفّرها تكنولوجيات الإعلام والاتّصال (TIC) وعلينا أن نستوعب أنّ مجتمع المعلومات هو مرحلة من مراحل التنمية الاجتماعية، حيث يؤثّر استخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال تأثيرا كبيرا على المجالات الأساسية في حياة الإنسان ومؤسساته الاجتماعية – الاقتصادية؛ أي: القطاعات الاقتصادية، والتعليم، الصحة، النقل الثقافة، الخدمات، والإدارة العامة، ويرتبط تطوّر مجتمع المعلومات ارتباطا وثيقا ببناء اقتصاد رقميّ، واستخدام العامل الآلي عامة.
هل تدخل الجزائر ضمن سياق التحوّل الرقمي؟
تمتلك الجزائر مظاهر الرّقمنة المناسبة، فقد اتّخذت بعض القطاعات إجراءات رقمية لتحسين جودة حياة المواطنين خاصَّةً من خلال تطوير تكنولوجيات الإعلام والاتّصال واستخدامها. وفي الوقت الرّاهن، يتمّ إيصال الإنترنت إلى أقصى حدود مناطق الجمهورية كما تمّ تأسيس خطوط اتّصالٍ بالألياف البصرية يتجاوز طولُها 160000 كيلومتر، ويملك المواطن بطاقة هوية ورخصة قيادة بيومترية، وكذلك جواز السّفر، ناهيك عن خدمات البطاقة الذهبية النقدية، ورقمنة بعض الخدمات العامة (الحالة المدنية، وصحيفة السوابق العدلية، وبطاقة الشفاء…) وقد كشف مخطّط عمل الحكومة المصادق عليه في الاجتماع الاستثنائي لمجلس الوزراء في 30 أوت 2021 في الملحق المخصص للبيانات والمؤشرات، أنّه في نهاية الربع الأول من عام 2021 بلغ معدّل وصول الإنترنت عن طريق الاتصالات الثابتة في الجزائر 39%، ومعدل الاتّصال بالإنترنت عن طريق الاتّصالات المتنقّلة ما يغطّي نسبة 90% من السكان، أمّا عدد مستخدمي الهاتف المحمول، فقد بلغ 46046797 مليون شخص، أي ما يُعادل نسبة 105% من مجموع السكان. ودون أن نتطرق إلى جميع المبادرات، فقد تمّ تقديم مشروعٍ لمبادرة التحوّل الرقمي إلى مجلس الوزراء في 22 مارس 2020، يشمل رقمنة الإدارة المركزية، والوثائق والاستمارات الإدارية، وتعميم قواعد البيانات على أساس رقم التعريف الوطني، وجمع البيانات الاقتصادية، وإنشاء سجل لمراقبة المشاريع الحكومية وصنع القرار، وإنشاء منصة خدمات رقمية للشعب… ومع ذلك نلمح من خلال السنوات العشر الأخيرة أن المهمّة غير مكتملة أمام التوجّهات العالمية للتحوّل الرقمي.
ترتبط إحدى الصعوبات الرئيسية التي تواجّهها الجزائر نحو التحوّل الرقمي بتكوين الموظفين، فنحن اليومَ بحاجة إلى مختصّين متمكنين من استخدام النظم والأدوات الرقمية ولهم القدرة على تطوير الأدوات المناسبة. وعليه، من المهمّ أن نؤسّس أطرا مرجعية من أجل تكوين أشخاص مؤهّلين ديناميكيين ومبتكرين، لديهم قابلية التعلّم مدى الحياة. وترتبط المسألة الثانية بالمنصات الرقمية، والمعدات، والبرمجيات، وأمن المعلومات.
أمّا المسألة الثالثة، فترتبط بالجانب العلميّ أكثر، وتتعلّق بالطرق الجديدة لاستخراج المعارف من البيانات، حيث أنّ استخراج المعارف من كمّ غير منظم من البيانات – على سبيل المثال من الكلام أو النصوص- من مهمّات الرياضيات الجديدة المسماة بالذكاء الاصطناعي. وفي العلوم، قد يكون من أهمّ المهامّ التي تحظى بالأولوية أكثر من غيرها في الإعلام الآلي والرياضيات، حيث أنّ الحلول التي يقدّمها الذّكاء الاصطناعيّ ضرورية من أجل التحوّل الرقمي.
وسيحدد برنامج خاص يستند إلى تقنياته المجالاتِ الواعدةَ لحلّ المشاكل الاجتماعية – الاقتصادية في الوطن، والتي ينبغي لعلماء الجزائر الاعتماد عليها.
إنّ العوامل التي يمكن أن تفسّر تأخّر الجزائر في الاقتصاد الرقميّ هي بيئة الأعمال غير المواتية، وعدم تحويل الابتكارات إلى إنتاج، والإطار القانوني غير المكيّف، وانخفاض مستوى استخدام التكنولوجيات الرقمية في المؤسّسات. وبالتّالي، فإن حصة الاقتصاد الرقميّ من الناتج المحلي الإجماليّ في الجزائر غير معروفة، ولكنّها أقلّ من 4% وفقاً للخبير جواد علال، نائب رئيس منتدى رؤساء الأعمال المكلّف بالتطوير الرقميّ، والمدير العام لشركة “ADEX Technology” أي أنّها أقلّ بضعفين إلى ثلاثة أضعاف من المعدّل العالمي الإجمالي لحصّة الرقمنة في الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة عالميًّا.
وطبقاً لتقديرات معهد ماكنزي العالمي، فإنّ الصين ستشهد زيادة تصل إلى 22% من ناتجها المحلي الإجمالي بفضل التكنولوجيات الرقمية بحلول عام 2025، وفي الولايات المتحدة، من المتوقّع أن تزيد التكنولوجيا الرقمية قيمتها بحلول عام 2025 من 1.6 تريليون دولار إلى 2.2 تريليون دولار، وتتميّز ألمانيا من بين الدول الأوروبية بنحو 10% من سكانها العاملين في صناعات التكنولوجيا المتقدمة. وفي روسيا قد يصل الاقتصاد الرقميّ إلى 8% حتّى 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بحلول عام 2025. وفي ذات الوقت، حققت بريطانيا النصيب الأكبر من الاقتصاد الرقميّ في الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 18%) وغالبا ما توصف بالرائدة في هذا المجال.
وماذا عن المستقبل؟
تعتزم الجزائر إجراء التحوّل الرقميّ في اقتصاد البلد ونطاقه الاجتماعي، وسعيا إلى تحقيق ذلك، ومن أجل تجسيد طموح قياديّ وقويّ للتحوّل الرقميّ، أصبح من الضروري أن نضع مخططا استراتيجيا للتنمية ذات البعد العالمي والمتماسك، وأن نحدّد وسائل التنفيذ لتحقيق الأهداف المسطرة. وبدون الخوض في قائمة شاملة، يستند المخطط الاستراتيجي للتنمية على مجموعة من المفاهيم الأساسية، من بينها: الدولة، المنصة الجزائرية، البيانات الضخمة، معالجة كمّيات هائلة من البيانات، إنترنت الأشياء، الإنترنت الصناعية، شبكات الاتّصال حديثة الأجيال، مجتمع المعرفة، مجتمع المعلومات، السيادة الرقمية الوطنية، أمن نظم المعلومات، سلسلة الكتل، المكتبة الإلكترونية الوطنية، الاقتصاد الرقميّ، النظام الإيكولوجي للاقتصاد الرقميّ، ذكاء الأعمال، الحوسبة السحابية، الحوسبة الضبابية، تعلّم الآلة… ويمكن تحقيق المخطط الاستراتيجي للتنمية من خلال ستة محاور تنموية هي:
- تحسين نظام التعليم، الذي لابدّ أن يزوّد الاقتصاد الرقميّ بالمقابل بعمّال أَكْفاء،
- تهيئة بيئة تنظيمية جديدة توفّر إطارا قانونيا ديناميكيا يتقبّل الابتكارات الرقمية وتطوّراتها، فضلا عن تنفيذ الأنشطة الاقتصادية المتّصلة باستخدامها،
- جذب وتطوير الشركات الناشئة الرقمية بالتمويلات المناسبة،
- تطوير شبكات الاتّصال، ونظام خاص بمراكز معالجة البيانات، وإنشاء وتطوير منصات رقمية للعمل بالبيانات، لتلبية احتياجات المواطنين والمؤسسات والحكومة،
- تحقيق الأمن والأمانة في التكنولوجيا الرقمية، بمّا يحتويه استخدام خوارزميات التشفير، واستخدام أدوات جزائرية للتشفير في تفاعل الهيئات الحكومية مع بعضها البعض، وكذلك مع المواطنين والمنظمات،
- إدراج التكنولوجيات الرقمية وحلول المنصات الجزائرية في مجالات الإدارة العمومية وتوفير الخدمات العامة، وبالتاليّ؛ فإنّه ينبغي على القطاعات التي تتميّز بالمهام ذات المنفعة العامة، بما في ذلك قطاع التعليم العالي والصحة والتعليم والنقل والطاقة والصناعة والتجارة والمالية والسكن والإدارات العامة والزراعة والثقافة والبيئة، المباشرةُ في التحوّل الرقميّ، وإدخال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة على مدى السنوات الخمس المقبلة، وينبغي أن يشمل المخطّط الاستراتيجي للتنمية استبدال الواردات وضمان السيادة الرقمية الوطنية. وفي هذا السياق، سيساهم انتقال الجزائر إلى الاقتصاد الرقميّ في رفع ثقافة ووعي الشعب نوعًا ما، ولابدّ للشعب أن يتعلّم تدريجيا الاتّصالات المتنقلة، والإنترنت، وبعض التكنولوجيات الجديدة حتى على مستوى المهامّ الأسرية، وبالتالي؛ سنشهد مهارات جديدة مُضافة.
فالمقصود من الاستثمار في التحوّل الرقميّ هو اتّخاذ إجراءات قصيرة المدى لتطوير مرحلة جديدة من الاقتصاد الوطنيّ، أي: الاقتصاد الرقميّ وتكوين نظامه الإيكولوجي، مما يعني وضع قاعدة الأساس لمنظمة مرنة قادرة على التعامل مع كلّ الشكوك.
المنصة الرقمية، أنموذج التحول الرقمي
لم يعد ممكنا لثورة الإنترنت أن تحجب عن المؤسسات أهمية التحول الرقمي، وبعبارة أخرى أي دمج التقنيات الرقمية في عمليات تسييرها وإنتاجها من خلال إنشاء منصات رقمية عبر الإنترنت، وهي أداة فعالة لتعزيز نموها من خلال الحد بشكل كبير من عبء الإجراءات الإدارية. توجد العديد من المنصات الرقمية عبر الإنترنت في العالم، أشهرها جوجل، الفيسبوك، يوتيوب، إنستاجرام … وبعبارة أخرى، محركات البحث المستخدمة في تبادل الفيديوهات، والبحث عن المعلومات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والتسديد عبر الإنترنت، وحجز الفنادق والسفر…. تقوم هذه المنصات على خوارزميات وشبكات معلوماتية صحيحة. في حين أن المنصات الرقمية عبر الإنترنت منتشرة على نطاق واسع في الاقتصاد الرقمي في جميع أنحاء العالم، إلا أنها في بلدنا ليس لديها نظام قانوني واضح إلى يومنا هذا. مع أن قانون المالية لعام 2020، المرتبط بالاقتصاد الرقمي، يذكر بوضوح “الالتزام بدفع الضريبة… الساري على عمليات إنتاج السلع وبيعها عن طريق منصة رقمية”، وعلاوة على ذلك، يذكر “أنه من الصعب تطبيق هذه الأحكام حاليا نظرا لعدم إمكانية تتبّع المعاملات التي تتم إلكترونيا”.
وهكذا، فإن القانون يعترف بفائدة المنصة في بلدنا، ويذكر مشكلة تطبيقها، ولكنه لا يعطي أي إشارة لوضع حد للعقبات التي تحول دون وجودها. وبطبيعة الحال، فإن الأمر بين أيدي المؤسسات المسؤولة عن الرقمنة لتحديد الإشكاليات وإيجاد الحلول. فما وضعها الحالي في بلدنا؟ ما هي العقبات وسبل العلاج التي يتعيّن تقديمها وفقا لذلك؟ كل هذه الأسئلة تطرح نفسها في هذا المقال دون التظاهر بحل كل الأمور، ولكن بكل تواضع الطموح إلى وضع نقاط الضعف وتقديم الإيضاحات اللازمة.
بعض المتطلبات الأساسية لإعداد المنصة بنجاح
من خصوصيات الاقتصاد الرقمي أن ما يحكمه يتمثل في منصات رقمية عبر الانترنت وفقا لتقنيات معلوماتية والكترونية متقدمة. فإذا كان يجب على خوارزميات المعلوماتية أن تضمن الأداء المثالي للمنصة من خلال دمج أحدث الأدوات مثل العوامل الذكية، فيجب عليها ضمان تتبع المعاملات التي يقوم بها المستخدمون. وفي هذا الصدد، ينبغي الإشارة إلى أن أمن البيانات والاطلاع على المعلومات وتبادلها بين المستخدمين تمثل استمرارية أساسية لمصداقية الخدمات التي تعرضها المنصة الرقمية على الإنترنت. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تقدم المنصة الرقمية للمستخدم معلومات موثوقة، ودائما قيد التحديث والعمل على عرض نطاق إنترنت يضمن تداولا ملحوظا وتقدم المعلومات طالما أنها متوفرة في جميع أنحاء الإقليم الوطني، وضمان التبادل مع جميع القارات بنفس المثالية. وينبغي أن تكون هذه المتطلبات الأولية القليلة إلى جانب الاكتساب الأساسي للثقافة الرقمية موضع اهتمام خاص قبل النظر في إطلاق المشروع. وبدون ذلك، ستقتصر المنصة الرقمية على المناطق التي تتوفر فيها هذه المتطلبات الأولية فقط في البلد، الأمر الذي لا يخلو من آثار على إنتاج المنصات الرقمية الموجهة إلى إضفاء المزيد من المساواة والقضاء أو بالأحرى الحد قدر الإمكان من الأعباء الإدارية أينما كان. وفي حالة عدم ضمان هذه المتطلبات الأولية، فإن المنصة قد تكون ذات نتائج عكسية، وبدلا من الحد من أوجه اللامساواة الإدارية في الوطن، فإنها ستؤدي إلى تفاقمها أو حتى تعزيزها.
طبيعة المنصات الرقمية وأوجهها الاجتماعية على الانترنت
نميّز بين عدة فئات من المنصات: منصات عامة ومنصات مستقلة ومنصات الخدمات. أولا، توفر المنصات العامة على مستوى العالم عملا افتراضيا بغض النظر عن الموقع الجغرافي لمقدمي الخدمات ومقدمي الطلبات. ومن بين المهام التي تقدمها هذه الفئة من المنصات تطوير المواقع الإلكترونية والتصميم الجرافيكي وبرمجة الحاسوب وتحديد الأشياء على الصور أو مقاطع الفيديو اللازمة على وجه الخصوص من أجل الذكاء الاصطناعي، وازدواجية البيانات، وترجمة النصوص وتحريرها، والمشاركة في المسابقات الإبداعية، وما إلى ذلك. ثانيا، منصات العمل المستقل، التي تهم خصوصا العاملين لحسابهم الخاص، هي منصات تتيح تسهيل الاتصال والتواصل بين العامل المستقل وصاحب العمل المتواجدين في أنحاء مختلفة جغرافيا. وفي هذه الفئة، نشأت منصات الوساطة لأنه من الصعب في كثير من الأحيان بالنسبة للمؤسسات العثور على عامل مستقل يتوافق تماما مع توقعاتها. ثالثا، منصات الخدمات التي تقدم وساطة بين مقدمي الخدمات ومقدمي الطلبات غير الملموسة، مثل منصات “أوبر/Uber) لنقل الأشخاص، وتسليم الوجبات (Deliveroo، UberEats)، والإقامة السياحية (كما هو الحال في AirBnB)، إلخ.
إن لأنظمة العمل الرقمية تأثيرا اجتماعيا كبيرا. وهي فرصة لتوفير فرص عمل جديدة، بما في ذلك لربات البيوت، والأشخاص ذوي الإعاقة، والأشخاص المهمشين في سوق العمل التقليدية… كما يمكن للطالب الحصول على “وظائف” مع مواصلة دراسته حضوريا في نفس الوقت. فهي تسمح للشركة بأن يكون لديها قوة عاملة وفيرة ومرنة مع مهارات متنوعة. وفيما يخص العدالة، فإن من بين النتائج المرتبطة بالجوانب الاجتماعية تكوين القضاة والمحامين والموثقين… الذين يتعيّن عليهم التعود على استخدام المنصات الرقمية وأيضا مع النزاعات الناجمة عن إدخال هذه المستجدات واستخدامها.
المنصة الرقمية، أداة مبتكرة لتحديد الوفاء بالالتزامات الجبائية والاجتماعية المرتبطة بالدخل
ومن أجل الحد من عبء العمل الإداري والممارسات البيروقراطية، من الضروري الآن وضع نصوص أو تكييفها فيما يخص المنصة الرقمية الإلكترونية التي تقوم بالبيع أو أداء الخدمات. يتعيّن عليها تزويد مستخدميها بمعلومات أمينة وواضحة وحديثة، تتسم بالشفافية قدر الإمكان. ويجب أن ترسل إلى مستخدميها دوريا بيانا موجزا عن مبالغ المعاملات التي تتم من خلالها من أجل مساعدتهم على إعلان دخلهم لدى مديرية الضرائب. كما سيتعين عليها تقديم الروابط الإلكترونية اللازمة لمواقع الإدارات على شبكة الإنترنت الضرورية للامتثال بالالتزامات، والحصول على المعلومات اللازمة. ومن ناحية أخرى، يتعيّن عليها إرسال نفس المعلومات إلى مديرية الضرائب. وهي أفضل طريقة للحد من أوجه اللامساواة والأعباء الإدارية ومحاولات إساءة استخدام الإجراءات أو التهرب من الضرائب. كما يسمح لإدارة الضرائب بتحديد حالات الأفراد الذين يمارسون نشاطا دون تسجيلهم سابقا على هذا النحو ودون احترام الالتزامات الضريبية والاجتماعية الملقاة على عاتقهم في هذا الصدد.
وعليه، فإن المنصة الرقمية الإلكترونية، في إطار الاقتصاد التعاوني، تدخل في عصرنة الحوار الاجتماعي وتخلق علاقة اجتماعية جديدة بين المنظمات والسكان من خلال منصة واحدة أو أكثر.
ماذا عن وضعها في الجزائر؟
لقد أصبحت الثقافة الرقمية مطلبا أساسيا للمواطنين لأنها خلاصة للعديد من التكنولوجيات وفي نفس الوقت حاملة لأفضل الأدوات لتحقيق الفاعلية في التسيير. ولم تدرج الشركات والمؤسسات بعد في بلدنا هذه الثقافة الرقمية في حياتها اليومية، على الرغم من المحاولات، هنا وهناك، غير الكافية إلى حد كبير، التي من شأنها الأخذ بعين الاعتبار الوضع الحالي لوجودها والأهمية التي تعطيها السلطات العمومية للتحول الرقمي في مستقبل البلاد. وتجدر الإشارة أنه قبل أكثر من سنة بقليل، خلال مجلس الوزراء المؤرخ في 20 مارس 2020، نوه رئيس الجمهورية إلى أهمية التعجيل بالتحول الرقمي في جميع قطاعات البلد، وأصر على تنفيذ الشروط التي من شأنها تحقيق نجاحه. ومن المؤسف حتى الآن أن نلاحظ على أرض الواقع أن الإنجازات التي تحققت لا تعكس توقعات هذا التوجه السياسي الذي يتطلب تفاعلا وطيدا لا سيما بين مختلف الجهات الفاعلة من أجل تعزيز إنشاء أقطاب متقدمة ضرورية لتحقيق المستوى المطلوب؛ وبعبارة أخرى، مؤشرا على مردودية المؤسسة.
وإلى يومنا هذا، فإن تحديد مشاريع الهيكلة المنفذة ضعيف للغاية. ظل إنشاء أقطاب متقدمة، موحدة للصناعيين والباحثين والطلاب، مجرد وعود، وبالتالي فإن أي رغبة في التطور في هذا المجال معرقلة، بحيث أن إنشاء حاضنات أو مسرعات الشركات الناشئة لا يعرف سوى خطابات جوفاء لا تتناسب مع التوجهات السياسية للبلاد. يبدو أن الشركات الناشئة التي تم إنشاؤها هي نسخة مطابقة للوكالة الوطنية لدعم وتشغيل الشباب ANSEJ والتي، كما نعلم، لم تعط النتائج المرجوة بسبب عدم وجود استراتيجية محددة مسبقا تعرف باسم نموذج الأعمال أو النموذج الاقتصادي الضروري لمردودية أي مشروع. وبطبيعة الحال، يجب ألا نخفي بعض المحاولات، ولكنها للأسف لا تزال غير كافية بالنظر إلى توقعات البلد في هذا الشأن، لأن أسس الإنشاء أُبطلت لعدم وجود آفاق حقيقية، وكذلك بسبب الوسائل غير الكافية المستخدمة لتجسيد التوجه السياسي. ولا يُطلب حاملي براءات الاختراع بحيث لا تكون براءات الاختراع المتواجدة بالمعهد الوطني الجزائري للملكية الصناعية INAPI موضع اهتمام خاص من قبل أولئك الذين قد يرغبون في إنشاء الشركات الناشئة.
وقد طوّرت وزارات الداخلية والمالية والعدل والبريد منصات رقمية خفضّت بشكل كبير الممارسات البيروقراطية على الصعيد الوطني. ويجب أن تكون مثالا يُحتذى به، وأن تكون نقطة انطلاق للمشاريع في هذا المجال من قبل المؤسسات والشركات الأخرى والتي من الغريب أنها لا تزال بطيئة. وينبغي التأكيد أيضا على أن التحول الرقمي، المسند إلى وزارة الإحصاء والرقمنة، ليس مسؤولية وزارة واحدة. وهو نظام إيكولوجي حيث يمكن لكل طرف أن يتفاعل مع الآخرين لتعزيزه ازدهاره والمشاركة في تنمية البلد.
تعتبر وزارة الإحصاءات والرقمنة العامل المحفز لهذا النظام الإيكولوجي مع استراتيجية حقيقية بأهداف قابلة للتحقيق وأطر زمنية قابلة للتنفيذ تسمح للبلاد بدخول مجموعة البلدان المتقدمة في هذا المجال. فالوسائل موجودة، وكذلك الموارد البشرية. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى الدور الهام لوزارة التربية الوطنية في ترسيخ الثقافة الرقمية بين الأطفال، لأن الثقافة الرقمية تُغرس منذ الصغر في المدارس. وأصبحت اليوم الاستراتيجية القائمة على استخدام الإنترنت وتعلم المنطق والرياضيات وعلوم الحاسوب من المدرسة الابتدائية ضرورة لا غنى عنها.
إن التحول الرقمي في الجزائر ليس مجرّد عملية ترتبط فيها الآليات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية فيما بينها فحسب، بل تنصهر فيها بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ويتطلب هذا التحوّل وضع استراتيجية رقمية للدولة، وتوفير الظروف الضرورية والكافية ذات الطابع المؤسّساتي والبنى التحتية والسيادة الرقمية الوطنية، والتفاعل الفعال بين المؤسّسات والأوساط العلمية والتعليمية وبين الدولة والمواطنين، وإعادة النظر في تنظيم العمل. ومن ناحية أخرى، فإنّ التأخير في عملية التحوّل الرقمي في فترة معّينة، يمكن أن يصبح تاريخيا لا رجعة فيه ولا يُمكن تعويضه.
أما فيما يخص المنصة الرقمية، نجدها حققت نجاحا معتبرا في تحديث علاقة العمل، وكذلك في رقمنة المجتمع. وقد مكنّته مرونة هذا المفهوم من ضمان ظهور واسع جدا في مختلف التخصصات المهتمة باقتصاد المعرفة. وتعتبر الآن كعميل إلكتروني، أي كشخص طبيعي أو معنوي قادر على تقديم خدمات عن بعد عن طريق خوارزميات الحاسوب والإنترنت. ولا يسعنا القول سوى أن استخدام التكنولوجيا الرقمية أصبح تحديا ذا أهمية قصوى، لأنه يرتبط بسيادة البلد. ومن الواضح أن البلدان التي لم تستقل قطار الرقمنة ستشهد سيادتها انخفاضا حادا، أو حتى تهديدها. إن التحكم في السيادة الرقمية، وبعبارة أخرى الاستثمار في تكنولوجيا الإعلام والاتصال واستخدامها، يتطلب وعيا جماعيا لأن المخاطر تتجاوز مجرد نقل البيانات. ويرتبط الأمر بالسلسلة الرقمية بأكملها التي يجب إعادة تشغيلها من خلال أنظمة تشغيل وتسيير البيانات الضخمة، إلى الشبكة الاجتماعية مع المساهمة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، والتكوين والبحث والابتكار والحد من الفجوة المعرفية. وهنا ستكون المنصة الرقمية عبر الإنترنت الرابط الذي سيوحّد المنظمات المختلفة في البلاد لقيادتهم إلى غد أفضل. وهو، بطريقة ما، أنموذج الحريات والمبادرة والالتزام والفاعلية والتميّز، دون أن يغيب عن بالنا إلى أي مدى نميل إلى طلب الكثير من التكنولوجيا، ليس بقدر ما قد نطلبه من أنفسنا.
كمال بداري
أستاذ تعليم عالي في الرياضيات والفيزياء والخبير الاستراتيجي في ت.ع.ب.ع وإدارة التغيير جامعة المسيلة