لا شك أن المتابع للمشهد الاقتصادي العالمي، يلاحظ الكثير من المتغيرات في بنية الاقتصاديات الدولية التي تشكلت معالمها في السنتين الماضيتين جراء الأزمة الصحية العالمية “كوفيد-19” وما تبعها من أثار اقتصادية سلبية، ما زال الوقت مبكرا لتقدير كافة الخسائر التي لحقت بها.
لقد تسببت الأزمة الصحية العالمية في شلل اقتصادي شبه كلي لقطاعات إنتاجية عديدة، تعاني من نقص الإمدادات وصعوبة إعادة عملية الإنتاج إلى سابق عهدها وقيام فجوة كبيرة بين العرض والطلب المتزايد وارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات والمواد الأولية في الأسواق العالمية، وكذا ارتفاع نسب التضخم والبطالة خاصة في الدول النامية والفقيرة، مما يعقد أزماتها الصحية والاقتصادية، وهي مرشحة من قبل الكثير من الخبراء للاستمرار فترة طويلة.
واستعدادا لمرحلة جديدة ما بعد الأزمة الاقتصادية تنفس العالم الصعداء وبدأت دول العالم، خاصة الكبرى منها ترتيب أوراقها وإعادة ضبطها لتتناسب مع متغيرات المرحلة، خاصة بعد انتشار اللقاح على نطاق واسع وإعادة تحريك معظم الأنشطة الاقتصادية ولو بحد أدنى والتوسع في استخدام الذكاء الاقتصادي والتقنيات الحديثة في تسيير قطاعات مهمة، اقتصادية كانت أو اجتماعية، لتعويض ما فقدته اقتصاديتها من فرص ورفع معدلات نموها وضمان سيرها بأقل تعثر ممكن.
لا يزال التعافي الاقتصادي العالمي متدرجا ولم يكتمل، في خضم انتشار موجات جديدة من فيروس( كوفيد-19)، وهو ما فرض تحديات فريدة على صعيد السياسات، ليتلقى العالم ضربة اقتصادية قوية باندلاع الحرب في أوكرانيا والتي تسببت في عرقلة التعافي، وزادت في عمق أزمة الطاقة وتفاقمها، وهو ما سيكون له تأثيره على العالم بأسره، ويتسبب في توسع أزمة الغذاء، خاصة بالنسبة للبلدان الناشئة، وانهيار سلاسل الإمداد العالمية، ودخول العالم موجة جديدة من التضخم.
هذه العوامل وغيرها كثير سوف تزيد من ارتفاع الضغوط على البنوك المركزية العالمية من أجل رفع سعر الفائدة، للحد من نسب التضخم المرتفعة، وقد تؤدي لانخفاض الأنشطة الاقتصادية ونمو أبطأ، مما يجعل المؤسسات المالية الدولية، محل شك وتأثير بشكل جسيم في الأسواق المالية العالمية.
الحرب في أوكرانيا غيرت العديد من المؤشرات الاقتصادية العالمية، خاصة بعد فرض عقوبات على مختلف قطاعات الاقتصاد الروسي وبنكها المركزي واحتياطاتها النقدية في الخارج، ومن المحتمل أن تطال هذه العقوبات دول أخرى، وقد تهدد التكاملات الاقتصادية الدولية .
العالم برمته سيتـأثر بآثار هذه الحرب، واقتصاد مختلف البلدان على المحك، ولكن تلك الآثار ستكون مختلفة من منطقة لأخرى، ومن المحتمل أن تكون أوروبا الأكثر تضرراً بسبب الروابط التجارية واعتمادها على إمدادات الطاقة والغذاء الروسية، و ستكون الدول الأكثر فقرا وهشاشة الأكثر تضررا، كما ستتحمل روسيا وأوكرانيا عواقب اقتصادية ضخمة.
نقطة التحول في هذه الأزمة العالمية، تعتمد على مدة الحرب ومدى صمود روسيا أمام العقوبات المفروضة عليها، وقد لا تفعل الكثير لكسر عزمها على مواصلة الحرب وقيامها بعملية عسكرية في أوكرانيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى صراع اقتصادي طويل الأمد، يرتقي إلى حرب عالمية ثالثة، ولكن بأدوات وأساليب مختلفة.
وتبقى علامات استفهام كثيرة مطروحة عن الآثار الاقتصادية لهذه الأزمة وعن التحولات في موازين القوة العالمية وعن الاضطرابات التي ستعرفها الأسواق الدولية وخاصة عن الأزمة الغذائية وزيادة أسعار جل المواد، وعن التحولات في السياسات الاقتصادية الفردية والجماعية وعن التحالفات الجديدة وعن الأزمات الداخلية في عديد البلدان وما تخلفه من عدم استقرار ومن تعثر جهود التنمية وتدهور في القدرة الشرائية. إنها موضوعات ما زالت في حاجة للكثير من التمعن والكثير من البحث والدراسة، لأنه لم يسبق أن عاش العالم مثل هذه الأزمة وما ترتب عنها من أزمات عميقة في مجالات متنوعة.