يمر العالم بتحوّلات سياسية، استراتيجية واقتصادية أكيدة، هذه التّحوّلات تجري أمام أعيننا، نتمعّنها حينا ونغفل عنها أحايين كثيرة.
ولكن في هذا الوضع المعقّد، هناك مخاطر جمّة، هناك توجّهات العنف متعدّد الأشكال، اقتصادي، تكنولوجي وتقليدي، وهناك التّحوّلات المناخية البادية للعيان، وهناك التّدافع متعدّد الأبعاد والوسائل بين أقوياء هذا العالم وبين الطّامحين لتحقيق مكاسب جديدة من القوّة.
مع ذلك ينبغي عدم الغرق في الآني، بل ينبغي التّمعّن في “ثوابت” المنظومة الدولية، فليس المهم من يهيمن ومن يؤثّر أكثر في العلاقات الدولية، بقدر أهمية آليات العمل ووجود جديد فيها أو عدم وجوده.
كيف يمكن تقدير ذلك؟ يمكن اللّجوء لمجموعة شواهد من أجل محاولة التمعن في معطيات هذا الواقع، وكيف يمكن فهم مكوّناته وأبعاده. حضرتني مقولة لـ”برتراند راسل”، قالها مطلع القرن الماضي في كتاب شهير له عنوانه المترجم بالعربية “مثل عليا سياسية”: “..قد تتنازع الأمم على ثلاث، التعريفات الجمركية وهي وهم، الفخر والاعتزاز بالقوّة وهي حماقات طفل صغير، استغلال الأجناس الأقل شأنا، وهو جريمة..”.
في المسألة الأولى، أي التعريفات الجمركية، نتذكّر “السياسة” التي اعتمدها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومنها الحمائية المعتمدة أساسا على التعريفات الجمركية، وعلى الإرادة السياسية للسلطة العمومية، وعلى الانكفاء على الذات وفق “أمريكا أولا”. ولكن الكثير من الآراء والتّحليلات أكّدت أنّ كل ذلك كان وهما “غبيا”، وأنّ العالم والاقتصاد العالمي، بلغ درجة من التبعية المتبادلة، في مسار العولمة بل والعولمة اللاّمحدودة، وأنّ إيقاف ذلك المسار غير ممكن وهو مضيعة للوقت. والحل كان بالنسبة لجل الآراء هو التنافس المفتوح بين كل مكوّنات الاقتصاد الدولي، وفق قواعد متّفق عليها جماعيا.
في كل هذا ينبغي علينا نحن أن نرى أنّ علينا، إمّا أن نبني قدرات تنافسية حقيقية، وأن ندرك تماما عوامل قوّتنا ونستخدمها استخداما فاعلا ومجديا، أو أنّ كل سياسات الحماية، لن تحمينا من المنافسة الشّريفة وغير الشّريفة، ليس مع الاقتصاديات الكبيرة والمهيمنة فقط، بل حتى مع جيراننا في الشرق والغرب وفي الجنوب. الحقائق الاقتصادية عنيدة والأفضل هو فتح الجدل، وتدافع الآراء حول أحسن سبل التعامل مع الوضع الاقتصادي الدولي، سواء في ما يمكن أن نقبل به من اتّفاقيات مع أوروبا، أو مع غيرها، وكيف يمكن الاستفادة من التدافع الأمريكي الصيني مثلا، وأي اقتصاد يوفّر لنا قدرة تنافسية أفضل، وكيف ننتزع أحسن الفوائد من الوضع القائم، ونتفادى، بلا سذاجة، الضغوط المتنوعة التي يزخر بها الواقع القائم.
في المسألة الثانية، أي الاعتزاز والفخر بالقوّة، وكونها مجرّد حماقات أطفال، فإنّنا يمكن أن نرى بشكل جلي كيف وقفت البشرية جمعاء عاجزة مكبّلة خانعة معترفة بعجزها أمام “فيروس كوفيد19”. لقد كان الدرس قويّاً مفيدا لمن لديه بصر وبصيرة، وقدرة التمعن المتجرّد والمنهجي، في كل ما انبعث من حقائق عن هذه البشرية وقوّتها وثروتها وعلومها وعلمائها، وأنّ التحكم في جانب من مساوئ الفيروس لا يعني التحكم فيه نهائيا. “فمتحوّرات الفيروس” كثيرة، ولم يدرك العلماء أنّها موجودة، ولم يتمكّنوا من تحديد قوّتها وسرعة انتشارها ولا كيفية تفاديها. قد نتفاءل ونقول، ولكن العلم تمكّن من إنتاج المعقّمات والكمامات، وأنتج الأمصال والتّطعيمات، ولكن ينبغي أن نتذكّر كم كانت الكلفة الاقتصادية وحتى الاجتماعية والسياسية، وكيف هي موازين القوّة قبل الفيروس وبعده؟
ثم ألم نر كيف أنّ القوّة الغربية كلّها لم تتمكّن في أكثر من عشريتين من تغيير جل حقائق الوضع الاجتماعي السياسي في أفغانستان؟ وأنّ “القوّة” لم تبن قوة بديلة ولو على أساس المصالح، وأن “الاستثمار” في قوى اجتماعية ثبت أنّها قوّة “مختلقة” ليست مرتبطة بحقائق سوسيولوجية، سياسية وثقافية، لم يغير الحقائق وأنّ استمرار دعم ” قوّة مختلقة” مكلّف وغير مجدي.
أخيرا وفي المسألة الثالثة، أي استغلال الأجناس الأقل شأنا، فهو باختصار يعني اليوم انعدام العدالة في العلاقات الاقتصادية الدولية، وفي تقاسم منافع التنمية، ومنافع موارد المعمورة، وأنّ ثروة البعض، الغرب بالخصوص، بنيت وما زالت قائمة على استغلال الشعوب واستغلال مواردها، وحتى ما “تنتجه” من ذكاء وخبرة وموارد بشرية. تلك مسألة فلسفية ولكنها من صميم الواقع، حتى وإن توقّفنا عن الحديث عن “الامبريالية” وعن “العلاقات الاقتصادية” غير العادلة، وتوقّفنا عن المطالبة بنظام اقتصادي دولي جديد، ورحنا نلهث وراء “الاندماج” في نظام مغلق قواعده طاردة لغير من هو واضعه. لقد قال الرئيس هواري بومدين يوما ردّا على سؤال للصحفي المناضل الشّهير فرانسيس جونسون ما معناه (لأنّه قالها بفرنسية فصيحة) “لقد بني هذا العالم في غيابنا، اليوم نحن موجودون ونحن نطالب وسنطالب بحقّنا في هذا العالم..”.
ولكن الجرائم مستمرّة في حق الشّعوب، خاصة شعوب العالم الثالث. لهذا ألا يستحق منّا كل هذا تمعّناً آخر وجدلاً آخر وتفكيراً منهجياً آخر؟