تواجه الأنظمة الصحية في العالم صعوبات وأعباء ثقيلة ومتزايدة جرّاء تفشّي فيروس كورونا المستجد، ممّا جعلها مركز الاهتمام الأول وأخضعها لتقييم حاد ومتواصل، تشكّل هذه الجائحة خطرا على جانبي العرض والطلب للخدمات الصحية الأساسية، ليس من حيث الحجم فحسب ولكن أيضا من حيث القدرة على التكيف السريع مع مستلزمات مواجهة الفيروس الجديد، وما طرحه من ضغوط جديدة.
إنّ حماية الصّحة العامة تحولّت إلى رهان اقتصادي بالغ الأهمية، من حيث منع انتشار الفيروس ومن حيث التقليل من آثاره على رأس المال البشري، وبالتالي على إنتاج الثّروة وحماية مناصب العمل وحماية نسب النمو.
لكن الإشكالية لم تكن بسيطة، وتعامل متّخذي القرار في مختلف البلدان معها لم يكن سهلا، والمفاضلة بين شروط حماية الصحة العامة وبين استمرار النشاط الاقتصادي، كان يشكّل تحديا تمّ التعامل معه بأشكال متنوّعة، ولكنها اتّفقت عامة على حماية الصحة العامة أولا.
يعتبر الإنفاق على القطاع الصحي من أهم أوجه الاستثمار في رأس المال البشري، وتعتبر الخدمات الصحية من أهم الانشغالات التي توليها دول العالم مكانة خاصة، وتخصّص لها اعتمادات مالية كبيرة، ولقد حقّقت عدّة مكاسب على مستوى أنظمتها الصحية، من خلال توسيع وترقية قاعدة تحتية هامة من الهياكل المادية والموارد البشرية وغيرها.
مع ذلك كان النظام الصحي في معظم دول العالم، والدول العربية منها خاصة، غير فعّال وغير قادر على مواجهة الحاجيات الطارئة، كونه واجه عددا من التحديات التي حدت من مستويات كفاءته، وجعلته يتخبّط في مشاكل ومعوقات عديدة. أوّل التحديات محدودية الموارد المتاحة لتمويل الإنفاق الصحي، خاصة إذا تذكّرنا الارتفاع المطرد في تكاليف الخدمات الصحية وارتفاع عدد السكان، وكذا غياب نظام فعّال لتقويم أداء النظام الصحي في أغلب هذه الدول، بالرغم من التطور اللافت، الذي يشهده العالم، في مجال التقنية وتكنولوجيا الرّعاية الصحية وتحسن المؤشرات الصحية الأساسية.
وتشكّل التّحديات السياسية والاقتصادية التي تعيشها الكثير من الدول، عقبة في طريق إصلاح القطاع الصحي ورفع معدل الإنفاق، فضلا عن الأزمة الصحية العالمية لفيروس كورونا المستجد، الذي سرّع وتيرة هبوط النّشاط الاقتصادي العالمي، وهو ما أفضى إلى أشد ركودٍ شهده الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية.
شهدنا خلال هذه الأزمة صمود النّظام الصحي في الدول المتقدّمة، حيث ظل قادرا، عامة، على امتصاص أو كبح صدمة الفيروس، في حين كان منهكا ومستنزفا في الدول ضعيفة البنية الصحية.
وكان هناك إجماع على أنّ الاقتصاد العالمي سيتباطأ في المراحل اللاّحقة لانتشار الفيروس، وأنّه سيستمر في الانكماش. وبالتالي فإنّ متوسّط نصيب الفرد من الدخل خلال السّنوات المقبلة سيتراجع تراجعا ملموسا، ليدفع بملايين الناس إلى هوة الفقر المدقع. وقد تمتد تأثيرات جائحة كورونا إلى التعليم لعدّة عقود قادمة، لكن حجم تداعياته سيعتمد على الأرجح على عاملين رئيسين، يتعلق الأول بفترة احتواء الفيروس، فكلّما طالت هذه الفترة زادت التكاليف والآثار السلبية على الاقتصاد، وكلّما قصرت سمح ذلك بالتعافي بشكل أسرع. أمّا العامل الثاني فيتمثل في طبيعة الإجراءات المتخذة خلال تطبيق سياسات الاحتواء، من خلال الإجراءات الوقائية والحجر الصحي والإغلاق التام، ومن ثم تخفيف الضغوط على أنظمة الرعاية الصحية المُنهكة والضّعيفة، لكن كلّما كانت الإجراءات قاسية وشديدة كان التأثير هائلا على النمو الاقتصادي.
هناك مشكلة رئيسية تتمثّل في اختلال معادلة التوزان، كون أطرافها عنصران متناقضان، من جهة محاولة احتواء الفيروس في أقصر وقت ممكن، ومن جهة أخرى الحفاظ على الصحة، وهو ما يتطلّب إجراءات قاسية تشـكّل العـبء الحقيقـي علـى واضـعي السياسـات الصـحية ومتّخـذي القـرار في أي بلد من بلدان العالم، كونها ليست عملية يسيرة وتؤدّي إلى أضرار على الاقتصاد.
يأمل الكثير من الخبراء أن تؤدّي الإجراءات المعتدلة، التي تنطوي على تكاليف قصيرة الأجل، إلى الإيفاء بالغرض المطلوب، من دون إيقاف الاقتصاد كليا ومع توفير شروط الإسراع في التعافي، وإمكانية تحقيق التوازن بين حماية الصحة العامة والحيلولة دون استمرار الهبوط الاقتصادي لفترة مطوّلة. وجاء الحديث عن الأمل في أن تعزّز المنافسة الشّرسة بين دول العالم المتقدمة في تصنيع اللقاح، إمكانية التعافي بشكل أسرع للحصول على مخرجات ملائمة بشكل مستمر.
وأمـام هـذا الوضـع يجـب التفكـير جـديا في بنـاء أنظمـة صـحية مرنـة، بمعـنى قـادرة علـى التكيـف مـع المتغـيّرات، ممّا يحتّم مراجعة النّظام الصحي بشكل كامل، ووضع أُطر وسياسات فاعلة وزيادة الإنفاق العام عليه، وتعزيز هياكله البشرية والمادية.