أنشئت الوكالة الوطنية لدعم وتشغيل الشّباب في 1996، في فترة كانت الجزائر تمر بظروف أمنية، اقتصادية واجتماعية صعبة، تميّزت بارتفاع نسبة البطالة بين الشباب خرّيجي الجامعات ومعاهد التّكوين وغيرهم.
خاصة بعد فرض صندوق النّقد الدولي لمخطّط تعديل هيكلي تسبّب في غلق العديد من الشّركات والمؤسّسات العمومية.
وتزايدت هذه النّسب بتزايد النمو الديموغرافي سنة بعد سنة، ما استدعى استحداث جهاز لامتصاصها اقتصادياً، غير أنّ المقاربة تغيّرت منذ 2011، لتصبح اجتماعية، فمنحت بذلك تسهيلات وتحفيزات كبرى للشباب الراغبين في إنشاء مؤسّسات مصغّرة، كادت تخلو من التخطيط الاقتصادي المدروس، والرّؤية البعدية التي تغاضت نوعا ما عن منطق خلق الثّروة وضمان المردودية الإنتاجية، واهتمت أساسا بكسب السّلم الاجتماعي. نتيجة هذه المقاربة كانت بإحصاء وكالة “أونساج” لمعاناة نحو 70 % من المؤسّسات المنشأة في تلك الفترة من متاعب مالية وأحيانا هيكلية.
هذه التّجربة استدعت تطبيق إصلاحات كبيرة على جهاز “أونساج”، من ناحية المهام وشروط الاستفادة من خدماته، لتصبح بعد صدور المرسوم التّنفيذي رقم 20-329 المؤرّخ في 22 نوفمبر 2020 في العدد الـ 70 من الجريدة الرّسمية “الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية”.
يوضّح المدير العام للوكالة محمد شريف بوعود في مقابلة مع مجلة “الشعب الاقتصادي” تفاصيل هذه المقاربة، التي باتت ترتكز على منطق خلق الثّروة بدل الاستفادة من الريع، إضافة إلى رؤية واستراتيجية الوكالة المستقبلية بعد الإصلاحات التي أدخلت عليها والتّجارب التي اكتسبتها من أخطاء الماضي.
بصدور المرسوم التّنفيذي رقم 20 – 374 المؤرّخ في 16 ديسمبر 2020 في العدد 77 من الجريدة الرسمية، والذي يعدّل ويتمّم المرسوم المؤرّخ في 6 سبتمبر 2003 المعدّل والمحدّد لمهام الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية وشروط الاستفادة من خدماتها، تغيّرت المقاربة الاجتماعية والسياسية التي لطالما اعتمدتها وكالة “أونساج” سابقا إلى مقاربة اقتصادية، تسير وفق المنظور الجديد الذي عدّلت لأجله لتصبح “الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية”، بحيث ستعمل على مرافقة الشباب لإنشاء مؤسّسات مصغّرة تقدّم قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني، تلبّي بذلك الحاجيات الصّناعية والفلاحية والخدماتية لكل منطقة حسب خصائصها وامكاناتها، وتتميّز بالديمومة والقدرة على الصّمود في وجه المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت في وقت مضى إلى تعثّر كثير من المؤسّسات المصغّرة التي أنشئت في زمن المقاربة الاجتماعية.
وبحسب المدير العام للوكالة، فإنّ المرحلة الحالية تحتّم تكييف مهام الوكالة مع المتطلّبات والقواعد العملياتية التي تمليها عوامل ومتغيّرات عديدة، مع دراسة وتشخيص لوضعيتها وتقييم موضوعي لنتائجها الإيجابية والسّلبية منذ تاريخ استحداثها، وتشمل عملية التحديث والتكييف، القوانين ونظم التكوين وكذا كيفيات إنشاء المؤسّسات وتسييرها، وجعلها تساير التطور السّريع للسّوق الاستهلاكية الوطنية والدولية، إضافة إلى سياسة الدولة الاقتصادية.
وبهدف تفادي التّجارب السّابقة، تسعى الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية إلى اعتماد استراتيجية بديلة ترتكز أساساً على تكوين الشباب حاملي الأفكار والمشاريع الاقتصادية، وتهيئتهم للتكيف مع المحيط الاقتصادي، إضافة إلى إعداد بطاقية نشاطات وطنية تصنّف فيها وتحصى حاجيات كل ولاية، ما يمكّن من توفير رؤية استثمارية شاملة وواضحة تسمح بتوزيع أنشطة المؤسّسات المنشأة في هذا الإطار، وفق ما تمليه متطلّبات سوق الأعمال في كل منطقة، بما فيها مناطق الظل، إذ شرعت الوكالة بداية من شهر سبتمبر 2020 بالتّعاون مع ولاة الجمهورية ورؤساء البلديات في إحصاء احتياجاتها وكفاءاتها أيضا التي يمكنها خلق قيمة مضافة فيها.
نحو دعم الأفكار الجادّة والمسؤولة
يرى محمد شريف بوعود المدير العام للوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية، أنّه في الفترة التي كانت مساهمات المستفيدين من خدمات “أونساج” سابقا هي 1 % فقط من القيمة المالية الإجمالية للمشروع، في حين تموّل الوكالة ما نسبته 29 % منه في شكل قروض من دون فائدة، ويتكفّل البنك بتمويل النّسبة الكبيرة المتبقية، وهي 70 % كقروض أيضا من دون فائدة، لم يكن العديد من الشباب المستفيد من هذه الامتيازات يعطي قيمة كبيرة لمؤسّساتهم، وهذا بسبب مساهمتهم الضّعيفة فيها، بل أنّ بعضهم لم يكن يشعر بمدى حجم وجدية المسؤولية، ما أدّى إلى وقوع انحرافات في تسيير هذه المؤسّسات في بعض الأحيان، وعدم أخذ مسألة تطويرها أو ديمومتها على محمل الجد في أحيان أخرى، لكن وبعد إعادة نظر معمّقة في ميكانيزمات تسيير الوكالة واستنادا إلى التّجارب السّابقة، تمّ فتح المجال أمام البطالين وغير البطالين على حد سواء للاستفادة من خدمات الجهاز، لكن وفق شروط جديدة، أكثر صرامة وجدية، ويعود إلغاء شرط البطالة إلى تمكين الشّباب العاملين والمستثمرين من الاستفادة من فرص توسيع مشاريعهم أو تطويرها، على أن تكون مشاريع خدماتية أو إنتاجية، إضافة لفتح المجال أمام ذوي الخبرات للاستثمار في رصيدهم الميداني والمهني وتجسيده في مؤسّسات تدار بتجربة عارف وممارس، ما يكسبها حظوظا أكبر في النّجاح.
وعمد تنظيم الوكالة الجديد إلى رفع نسبة مشاركة صاحب المشروع في تمويله من 1 % إلى 15 % بهدف إشراكه فيه من أجل المحافظة عليه وعلى مساهماته المالية، والحرص أكثر على نجاحه. غير أنّ هذه النّسبة تنخفض قليلا في مناطق الهضاب العليا إلى 12 % وإلى 10 % بالنّسبة لمناطق الجنوب.
كما يأتي رفع نسبة المساهمة من أجل تحسيس صاحب المشروع أكثر بالمسؤولية، وبمدى أهمية وجدية الخطوة التي سيقدم عليها، والتي تنتهي بحيازة قروض بنكية قد تكون كبيرة في كثير من الأحيان، ووجب المحافظة عليها واستثمارها وتسييرها بطرق ناجعة تعود بالثّروة مستقبلا على المستفيد منها وعلى الاقتصاد الوطني.
ويسبق الوصول إلى هذه المرحلة برنامجا تكوينيا إجباريا لكل الراغبين في الاستفادة من خدمات الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية من أجل تدعيم مؤهلات الشاب صاحب المشروع، وهي خطوة لا بد منها، تنتهي بإعداد تقييم نهائي يؤهّل صاحب المشروع لتسيير مؤسّسة أو العكس، بحيث يمكن أن يفرض في حال التّأكّد من عدم جاهزيته أو عدم كفاءته.
امتيازات جديدة
ومن بين الامتيازات الجديدة التي ستمنحها الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية، خاصية التّمويل الذّاتي للقادرين على تمويل مشاريعهم ذاتيا من دون اللجوء إلى القروض البنكية، مع الاستفادة الكاملة من باقي خدمات الجهاز الاستشارية والتكوينية وحتى العقارية.
وتسعى الوكالة وفق استراتيجيتها الجديدة إلى إنشاء مناطق نشاطات مصغّرة على مستوى كل ولايات الوطن، تكون في شكل تجمع نشاطات مترابطة فيما بينها، بوسعها خلق سلسلة إنتاجية وخدماتية متكاملة تتماشى وخصوصيات كل منطقة، وكذا شبكات توزيع محلية.
وجاءت جملة الإصلاحات الجديدة التي طرأت على وكالة “أونساج” سابقا لتتماشى مع تنظيمها الجديد الرامي إلى عصرنة خدماتها لا سميا عملية استحداث المؤسّسات المصغّرة، إضافة إلى رقمنة كامل عملياتها الإدارية بدءاً بإيداع الملفات التي تتم الآن عبر الأنترنت ومتابعتها عبر بوّابة الوكالة الرّقمية، إضافة إلى تخصيص منصّة إلكترونية خاصّة بالمؤسّسات المتعثّرة، أين يمكن لأصحاب هذه المؤسّسات عرض وضعية شركاتهم ونوعية المشاكل التي تواجهها، زيادة على حجم الضّرر الذي أصابها.
وكان كل من وزير المالية والوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلّف بالمؤسّسات المصغّرة، في 29 جويلية 2020 قد اتّخذا جملة إجراءات مشتركة بهدف بعث نفس جديد في هذه المؤسّسات المتعثّرة، أبرزها إعادة جدولة ديونها بدون فائدة مع مسح كل غرامات التّأخير، وتوقيف المتابعات القضائية من طرف البنوك بعد تعويضها من صندوق الكفالة، وإعفاء المؤسّسات التي تضرّرت من جرّاء الكوارث الطّبيعية من تسديد الديون، وتستند في ذلك إلى تقارير الجهات الولائية، إضافة إلى مرافقتها من طرف الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية لإدماجها في أُطر الاتّفاقيات المبرمة مع وكالة “عدل” وشركة سونلغاز والمؤسّسات التي هي تحت وصاية وزارات الموارد المائية، السياحة والمناجم أيضا.
ووصل عدد المؤسّسات المتعثّرة حتى بداية شهر جانفي 2021 إلى 4457 مؤسّسة، تمّ إلى حد هذا التاريخ تسوية وضعية أزيد من 275 مؤسّسة.
ثروة مناطق الظل
وفقا للدّراسة الإحصائية التي قامت بها الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية، فإنّ العديد من مناطق الظل التي تعاني من مشاكل انعدام التّنمية والمرافق العامة بإمكانها أن تتحوّل إلى مناطق خلاّقة للثّروة، بحيث يمكن للمؤسّسات المصغّرة التي قد تنشأ بها أن تلعب دوراً تنمويا، وتقدّم حلولاً لجملة المعضلات التي تصنّفها في خانة الظل، وذلك بتوفير الخدمات والمنتجات الضّرورية الغائبة، إضافة إلى خلق مناصب شغل بطرق اقتصادية لا اجتماعية.
مؤسّسات مصغّرة لاستغلال ذهب الجنوب
يؤكّد محمد شريف بوعود أنّ الوكالة بالشّراكة مع وزارة المناجم قامت بإعداد برنامج خاص بولايات الجنوب لا سيما ولايتي إليزي وتمنراست اللّتين تزخران بثروات منجمية كبيرة، وعلى هذا الأساس ستتم مرافقة حرفيي المنطقة في عمليات استغلال الذّهب، التي كانت تتم بطرق غير شرعية في وقت مضى، وستمنح الأولوية التامة في هذه العملية لشباب الطاسيلي والهقار بحكم معرفتهم بالأرض وحاجتهم لاستثمارات تنموية، كما سيكون لكل من وزارة التكوين المهني والبيئة دور أيضا في تفعيل هذا البرنامج الخاص.
هذا وكانت الوكالة قد شرعت في تكوين مجموعة شباب من ولايتي تمنراست وإيليزي في عمليات التنقيب واستغلال الذهب، وتمكّنت نخبة منهم من نيل موافقة لجنة الانتقاء الولائية بعد حيازتهم على شهادات تأهيل، لتأتي الخطوة الموالية وهي التمويل.
أيّها الشاب..حاول أن تصبح مقاولا!
يسعى الجهاز باستراتيجيته ونظرته الجديدة إلى تطوير الفكر المقاولاتي عند الشباب الجزائري، من خلال دعوة وتحفيز خرّيجي الجامعات والمعاهد ومراكز التكوين على خوض تجربة المقاولاتية والسعي إلى خلق الثروة، بدل القبوع في دائرة التفكير المقتصرة على نمطية البحث عن الوظيفة، التي قد لا تكون متوفّرة في بعض الأحيان، خصوصا وأنّ النسيج الاقتصادي الجزائري يتكون أساسا من مؤسّسات مصغّرة، إضافة إلى المجالات والثّروات المتعدّدة التي يمكن لحاملي الأفكار والمشاريع الاستثمار فيها والاستفادة من النّقص المسجّل في استغلالها لصالحهم، كالنشاط الفلاحي في الهضاب العليا والفلاحة الصحراوية، التي تعمل الوكالة على توفير دعم قوي ومرافقة كاملة للراغبين في إنشاء مؤسّسات مصغّرة خاصة بهذا المجال وفي هذه المناطق، ويستند هذا التوجه حسب المدير العام للوكالة إلى ضرورة توسيع الأنشطة الاقتصادية في كل مناطق الوطن، فالملاحظ أن الكثافة السكانية تتمركز في الشّمال، في حين أنّ غالبية الثّروات الواجب استغلالها في الجنوب، أين يمكن خلق أقطاب فلاحية كبيرة تكفي الجزائر حاجياتها وتوفر عليها عبء تصدير بعض المنتجات، زيادة على إمكانية خلق أقطاب صناعية موازية تهتم أساسا بالصّناعة الغذائية التحويلية. كما يرتكز تصوّر الجهاز الجديد على جعل المؤسّسات المصغّرة المستحدثة ذات قيمة سوقية مستقبلا، تمكّنها من ولوج البورصة وتساهم في خلق سوق مالية تنشّط المحيط الاقتصادي. أما الطموح الكبير فيتمثّل في جعل الشباب الجزائري قادراً على إنشاء مؤسّسات قوية من ناحية الإنتاج والجودة، وذات قابلية لخوض تجربة التّصدير واقتحام الأسواق الخارجية وبالأخص الأفريقية.