“المنشأة توفّر للنّسيج المؤسّساتي الاقتصادي لبلادنا فضاءً أوسع للتغلغل في أسواق القارّة السّمراء ضمن التوجهات الكبرى للتصدير خارج المحرقات، الذي يبقى أبرز تحدّ يستوجب رفعه بالتحضير لتكون المؤسّسات الجزائرية في الموعد“
لم يكن ممكنا البقاء تحت صدمة وباء كورونا، الذي داهم بلادنا في مارس 2020 بكل ما تطلّبته مواجهته من رصد لموارد مالية، تعرف انكماشا بفعل الأزمة الناجمة عن انهيار أسواق النفط، دون الالتفات الى التحديات الاقتصادية من بينها مشاريع هيكلية ضخمة يراهن عليها لإدراج الجزائر ضمن الأسواق الإقليمية خاصة باتجاه الجنوب نحو أفريقيا من بوّابة الساحل والصحراء، حيث يتسابق كبار العالم للتواجد في أسواق ناشئة تكسب معاركها بمدى القدرة على المنافسة.
من تلك المشاريع التي تشكّل عناوين كبرى للآفاق المستقبلية للجزائر على سكة النمو، مشروع ميناء الوسط للحمدانية بشرشال (ولاية تيبازة)، الذي يتّجه إلى استكمال آخر الترتيبات الدراسية والتنظيمية للانطلاق في مرحلة الانجاز بمعايير دولية ضمن شراكة جزائرية صينية تندرج في تصور واقعي لنظام اقتصادي دولي تشاركي، وبخلفية تضامنية وإنسانية تعطي للتعاون جنوب – جنوب مضمونا اقتصاديا بقيمة مضافة.
قبل تدشين مسار الجزائر الجديدة قبل سنة مضت، وغداة موجة الحراك كاد أن يتعرّض المشروع لاحتكار وتلاعب من بعض أطراف العصابة، الذين التفّوا حوله كالأخطبوط طمعا في تحويله إلى ملكية خاصة تحقّق لهم مكاسب غير مشروعة، وتضييع مصالح حيوية للبلاد في وقت يلعب فيه الاقتصاد الدور الحاسم في ممارسة النفوذ وصياغة ملامح أسواق جديدة.
وما أن انقضى السداسي الأول من عام 2020 والتكيّف مع مقتضيات التعامل مع جائحة “كوفيد-19” التي تلازم العالم، تمّ فتح ملف مشروع اقتصادي بحجم ميناء ذي أبعاد إقليمية. ففي اجتماع مجلس الوزراء نهاية جوان، سطّر الرئيس تبون معالم التعامل مع الملف، محدّدا أجل ثلاثة أشهر لترتيب الاتصال مع الشريك الصيني من أجل إعادة إطلاق الورشات،علما أن التأخر كلّف الكثير ماليا مع إضاعة لفرص استثمارية يعوّل عليها في إنجاز أهداف النمو.
وصلت الرسالة بوضوح إلى وزير الاشغال العمومية المكلّف، خاصة وأن جدوى المشروع الضخم ترمي إلى كسر حصار على عدد من بلدان القارة السمراء تفتقر لموانئ بحرية سوف يعوضها ميناء الحمدانية في السنوات القليلة القادمة، في وقت يرتقب فيه أن تكلّل الاتصالات مع الشريك الصيني باتفاق لتنطلق الأشغال بالحجم والوتيرة المطلوبة.
وتقدّر كلفة المشروع استنادا لتصريح وزير النقل من 5 إلى 6 ملايير دولار، فيما تقدّر طاقته الإنتاجية معالجة 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن بضائع سنويا، ما يؤكّد أهميته بالنسبة لمستقبل الشحن البحري الوطني بتأمين النقل بين موانئ البلاد والدفع بالتجارة الخارجية إلى أفريقيا، خاصة البلدان المجاورة للجزائر وفك الحصار الجغرافي عنها.
وتحسّبا لذلك تقرّر في اجتماع للحكومة في 4 نوفمبر 2020 التوجه إلى إحداث وكالة وطنية لتسيير وإنجاز ميناء الوسط ومنشآته وتجهيزاته من خلال مناقشة مرسوم تنفيذي يتضمن قواعد عمل الوكالة المخوّلة بمتابعة إنجاز المشروع وتسييره مستقبلا بالاستعانة بخبرات متخصّصة وطنيا ودوليا.
ويكتسي الميناء المشروع خصوصيات تؤهّله لأن يكون بحق البنية التحتية البحرية ذات التنافسية الاقليمية، بحيث يستجيب للطلب المعبّر عنه في مختلف الأسواق الإفريقية، وبالذات لبلدان الساحل ومنها إلى أعماق القارة السّمراء، التي تسجل انتعاشا وتستقطب منافسة عالمية سواء لتصدير مواد أولية أو استيراد تساهم بوّابة الجزائر البحرية في تقليص الأعباء من حيث تنافسية الشحن البحري.
من ميزات ميناء الحمدانية الذي يتم إنجازه في ظرف سبع سنوات عمق مياه الأرصفة إلى حوالي 20 مترا، ممّا يسمح له باستقبال السفن الضخمة ذات طاقة شحن أكثر من 21 ألف حاوية ليكون محطة لإعادة الشحن برا وبالسكة الحديدية إلى العمق الافريقي كونه يرتبط بالطريق السيار شمال جنوب، وبالقطار الكهربائي عبر محطة العفرون.
وبهذا الانجاز ذي الطابع الاستراتيجي بروحه الأفريقية تنتقل الجزائر إلى مستوى أعلى في تعزيز مكانتها في منطقة حوض المتوسط، وإقامة جسر بين الشمال والجنوب، ذلك أنّه كلّما تقلّصت كلفة الشحن البحري كلّما انعكس ذلك على الأسعار بالنسبة للجزائر وللبلدان الأفريقية المغلقة المحرومة من موانئ بحرية، ويمكن حينها أن تندرج في ديناميكية طريق الحرير، الذي يمتد من أقصى القارة الآسيوية.
ومن شأن إنجاز المنشأة أن يوفّر للنّسيج المؤسّساتي الاقتصادي لبلادنا فضاءً أوسع للتغلغل في أسواق القارة السمراء ضمن التوجهات الكبرى للتصدير خارج المحرقات، الذي يبقى أبرز تحدّ في الظرف الراهن، ويستوجب رفعه بالتحضير لتكون المؤسسات الجزائرية في الموعد من خلال الرفع من وتيرة استكشاف الأسواق المحتمل كسبها والتواجد فيها، وربط علاقات مع شركاء فيها للتسويق أو الاستثمار بالشراكة في منتجات تملك فيها الجزائر خبرات، وتوجد في أفريقيا مواردها الخام.
لذلك فإنّ المشروع ليس مهمة وزارة بحد ذاتها، ويتعلق الأمر بالأشغال العمومية، وإنما يعني أكثر من دائرة وزارية على غرار النقل، التجارة، الرقمنة، السياحة، الفلاحة، البحث العلمي والمؤسسات الناشئة للمرافقة وتأمين الاطار الاقتصادي الكلي الذي تحتاج اليه المؤسسة، المستثمر والمتعامل لتحقيق الحلم بالتواجد في أسواق مجاورة بعد كسر الحاجز الجغرافي بفضل استثمارات عمومية تتحمّلها الدولة بأهداف تتجاوز بكثير الظرفية.
وبهذا التوجه الذي يعكس إرادة تجاوز الأزمة الاقتصادية من خلال تدقيق الرؤية والشراكة ذات الجدوى يتم إعطاء نفس لمسار الجزائر الجديدة انطلاقا من النهوض بالبنية التحتية وتكاملها وانسجامها لتستوعب الديناميكية الاستثمارية والإنتاجية متجاوزة النطاق المحلي والوطني باتجاه المحيط الإقليمي الإفريقي، الذي تعتبر المؤسسة الجزائرية أولى بأسواقه لما تمتاز به المنتجات خاصة الغذائية والالكترونية والكهرومنزلية والنسيجية من تنافسية جودة وسعرا بالنظر للقدرة الشرائية الافريقية، وفقا لما أظهرته عمليات احتكاك في معارض وتظاهرات.
وبطبيعة الحال تجدر الاشارة أيضا إلى الانعكاسات غير المباشرة التي يحدثها المشروع طيلة مسار إنجازه، وخاصة لما يدخل الخدمة من حيث توفير فرص عمل خاصة للجامعيّين في مختلف الاختصاصات والحرف والنشاطات التابعة، بما في ذلك أعمال الصيانة واللوجيستيك والتخزين والنقل البري، ولم لا السياحة التي ترافق كل نشاط تجاري واستثماري، ولا يمكن أن تبقى متأخرة عن ركب التحولات وإنما تنخرط في مسار جزائر جديدة قوامها المبادرة، الابتكار والمواكبة.
وأمام حجم التطلعات وضغط الوقت،يرتقب أن تنطلق الأشغال فور ضبط ورقة الطريق مع الشريك الصيني بقوة الاحترافية المناجيريالية اللازمة لتدارك التأخر، والتزام بالآجال ضمن رؤية شاملة لا مجال فيها للخطأ أو التهاون، وذلك بفتح الأفق أمام كفاءات لديها القناعة بالعمل في الميدان فقط، وفقا لمعايير ترشيد الموارد واقتصاد النفقات، والأكثر أهمية التشبع بإرادة رفع التحدي.