المؤكّد أنّ بناء رؤية اقتصادية جديدة، انطلاقا من التزامات الرّئيس تبون المعروفة، لا يمكن أن يتم وأن تتوفّر له شروط النّجاح إلاّ في ضوء: “..إصلاح شامل للدولة بكل فروعها ومؤسّساتها..”، ولا يمكن أن يتم أيضا من دون “..أخلقة السياسة والحياة العامة وتعزيز الحكم الراشد..”.
ذلك يستلزم إصلاحا شاملا متكاملا عميقا وتصاعديا لكل آليات اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، وتغييرا فعّالا لطبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث، وخاصة التخلي عن هيمنة السلطة التنفيذية على كل شيء من دون رقابة ومن دون محاسبة، وهو ما تسبّب في ألوان من الانحرافات ومن التّجاوزات ومن الإفلات من العقاب، لذلك صار اليوم ضرورة أكيدة لوقف، أو على الأقل للحد، من الفساد ومن عوامل الإفساد.
إنّ “..تطهير المجال الاقتصادي والتجاري..” كما وعد الرئيس عبد المجيد تبون، يستلزم “..إصلاحا عميقا للحكامة المالية..”، و”..إصلاحا جوهريا للنظام الضّريبي لجعله وسيلة للتوجيه الاقتصادي وتشجيع الإنتاج الوطني..”، كما يستلزم أيضا “..تحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار وإصلاح نظام تمويل الاستثمار والنظام المصرفي لتنويع عروض التمويل وتعميم استخدام وسائل الدفع الحديثة وإنشاء بنوك جديدة متخصّصة..”.
كل هذا يعني بكل وضوح إصلاحا شاملا للمنظومة المالية والمصرفية في إطار رؤية اقتصادية جديدة قائمة على مبادئ واضحة قوامها العدالة الاجتماعية، والنّجاعة في استخدام الأموال العمومية وحمايتها من الهدر والتبذير، وتوظيفها توظيفا يضمن لها مردودية عالية ومنافع متعدّدة الأبعاد اقتصادية واجتماعية في إطار شفّاف وخاضع للرّقابة القانونية والسياسية الصارمة.
هذا مشروط هو الآخر بترقية الثّقافة الرّأسمالية الحقّة والفاعلة لدى المستثمرين في القطاعين الخاص والعام، والفصل الواضح بين المال والسلطة، كما ألحّ عليه الرّئيس تبون مرّات عديدة، وتمتّع كلّ مال بالشرعية والأحقية وبالوفاء بكل الالتزامات الجبائية.
إنّ كل استثمار، خاصة إن كان قروضا من المال العام، ينبغي أن يضمن مردودا ومنافع اقتصادية واجتماعية أكيدة، كما أنّ على المؤسّسات المالية أن تزيد من نجاعتها ومن استعدادها على مرافقة الاستثمار الجادّ، وعدم الخضوع لأي نفوذ خارج حدود القانون.
وكما سبقت الإشارة، فإنّ ذلك لن يكون ممكنا إلا في إطار قيام دولة بمؤسّسات قويّة قادرة على فرض سلطة القانون، وحماية الإطارات من أي نفوذ أو تأثير سياسوي أو مصلحي.
ذلك هو التّغيير الشّامل الذي توفّر له اليوم نص دستوري يسمح بوضع تشريعات متكيّفة قادرة على ضبط عمل مختلف الفاعلين وفق معايير وقواعد واضحة. إنّه المنهج الذي ينبغي أن يقوم على أساسه نظام سياسي اقتصادي متلائم تمام التّلاؤم مع حاجيات المجتمع المتزايدة، ومع مستلزمات تلبية كل المطالب بشكل نوعي ومتطابق مع مستلزمات التّنافس النوعي مع المحيط الاقتصادي الإقليمي والدولي، لأنّ الحمائية غير كافية لوحدها على توفير عوامل تطور الاقتصاد الوطني والمنتوج المحلي، ومن ذلك تنافسية القطاع المالي في تقديم الخدمات المالية الجديدة والمتلائمة مع عالم الرقمنة، الذي داهم قطاعا صار متخلّفا عن الركب بعقود زمنية كثيرة. تلك ورشة هامة من ورشات الإصلاح وفق التزامات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون. وذلك هو الملف الأساسي في العدد الثاني من مجلة “الشعب الاقتصادي”.