على الرّغم من تأثّر البنوك في جميع أنحاء العالم بالأزمات المالية المتتالية، إلاّ أنّ البنوك الإسلامية لم تتأثّر بها بشكل جوهري، وهو ما دفع بعدد من دول العالم إلى تعميم الصّيرفة الإسلامية التي أثبتت نجاعة كبرى حتى لدى الدّول الغربية، ولم تَحِد الجزائر بعيدا عن هذا التوجه، حيث صدر القانون المنظّم للتّمويل البنكي المطابق للشّريعة سنة 2020، لتعمّم هذه الخدمة عبر كافة البنوك العمومية بسلّة منتجات مختلفة، منها ما هو مُوجّه للأفراد ومنها ما خصّص للاستثمارات بحلول شهر جانفي 2022.
واستمرارا لجهود الجزائر في تعميم خدمات الصّيرفة المالية الإسلامية، بادر بنك الجزائر إلى توقيع اتّفاقية تفاهم وتدقيق مع هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسّسات المالية الإسلامية “أيوفي”، فما هدف هذه الاتّفاقية؟ وماذا ستضيفه للخدمات البنكية المطابقة للشّريعة في الجزائر؟
وقّع بنك الجزائر مذكّرة تفاهم مع هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسّسات المالية الإسلامية “أيوفي” بهدف التّعاون والتّنسيق لتطوير صناعة التّمويل الإسلامي في الجزائر.
وحسب بيان لبنك الجزائر، فإنّ مذكّرة التّفاهم التي وقّع عليها البنك المركزي وهيئة “أيوفي” التي تتّخذ من البحرين مقرّا لها، تُعنى بـ “وضع معايير التّمويل الإسلامي، في إطار جهودهما الرّامية لتعزيز الصّيرفة الإسلامية وسوق التّمويل الإسلامي في الجزائر، وتقوية الرّوابط بين المنظّمتين”.
وبموجب هذه الاتّفاقية، يعمل الطّرفان “في المجالات ذات الاهتمام المشترك التي تدعم تطوير صناعة التمويل الإسلامي في الجزائر”، وهو ما يشمل “التّبادل الفعّال للمعلومات، تنفيذ برامج بناء القدرات المشتركة في الجزائر والمتعلقة بمعايير هيئة “أيوفي”، فضلا عن استضافة الفعاليات والأنشطة لتعزيز الوعي بالتمويل الإسلامي في السوق المحلية لصالح مختلف المعنيّين، بما في ذلك المهنيّين العاملين في المجال التنظيمي والإشرافي في البنوك والمؤسّسات المالية، وكذلك الأكاديميّين وعلماء الشريعة وغيرهم”.
ضمانات جديدة لزبائن الخدمات الإسلامية
يعتبر الرّئيس المدير العام لمصرف “السّلام” الجزائر، ناصر حيدر، أنّ هيئة التّدقيق والمحاسبة للمالية الإسلامية “أيوفي” هيئة شرعية مرجعية تختص في التّدقيق وضبط المعاملات والعقود والأدوات التي تستخدمها المؤسّسة البنكية، وفق المعايير الشّرعية لتعميم الخدمات المالية الإسلامية.
ويؤكّد حيدر في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي”، أنّ بنك الجزائر بإمكانه الاستفادة من الاتّفاقية مع “أيوفي” في تحديد القواعد والضّوابط التي يجب تنفيذها ومراعاتها في العقود والمعاملات المالية والمنتجات المطابقة للشّريعة، وأيضا في تحديد المعايير المحاسباتية، وطريقة معالجة الهوامش وفق منطلقات شرعية، وبالتالي منح ضمانات أكبر للزّبائن.
ويمكن لـ “أيوفي”، وفقا للرّئيس المدير العام لمصرف “السّلام” عبر اتّفاقية التعاون مع بنك الجزائر، أن تساعد هذا الأخير في تحديد وتصميم الأدوات والإطار التنظيمي الذي يراعي خصوصيات التّعاملات المصرفية الاسلامية، ويأخذ بعين الاعتبار شروط التّعاملات الشّرعية التي تختلف في بعض النقاط والنواحي عن المعاملات المالية التّقليدية.
ويمكن أن تساعد الاتّفاقية بنك الجزائر في صياغة قواعد العمل وفق شروط الصيرفة الإسلامية، علما أنّه سبق وأن صدر عن المؤسّسات الرّسمية في الجزائر، تعليمة تحدّد صيغ التّمويل والاستثمار المعمول بها في الصيرفة الإسلامية، لكن هناك بعض الجوانب مثل ضمان الودائع، أو قضية الشّروط المصرفية المطبقة في الصيرفة الإسلامية، أو إعادة تمويل المؤسّسات المالية الإسلامية، تطرح جملة من الإشكاليات التي تختلف عن النّمط التّقليدي للتّمويل، بحيث يجب اعتماد صيغ خاصة في معالجتها، يمكن لهيئة “أيوفي” أن تساعد في تحديد الإطار والصّيغ التنظيمية الخاصة بها، وفقا للمتحدّث.
وعن شرعية الخدمات المالية الإسلامية المطبّقة من طرف البنوك الجزائرية، والتي تمّ تعميمها اليوم على مستوى 6 بنوك عمومية، يرفض ناصر حيدر التّشكيك فيها، ويقول إنّ المجلس الإسلامي الأعلى أصدر فتواه لمنع أيّة مزايدات، بحيث “يمكن أن تخصّص البنوك التقليدية جزءا من مواردها المالية للشبابيك الإسلامية، ولكن بشرط معاملة هذه الشبابيك وفق القواعد والضّوابط الإسلامية، أي أن تكون منفصلة بشكل تام عن الشّبابيك التقليدية”، وهو ما يشترطه التنظيم رقم 02/20 لبنك الجزائر الصّادر سنة 2020، بحيث يستلزم أن يكون هنالك فصل تام بين نشاط الشّبابيك الإسلامية والشّبابيك العادية أو الرّبوية، وهذا يندرج في مرحلة الانطلاقة إلى أن يتم تعميم المعاملات المصرفية الملتزمة بالقواعد الإسلامية بشكل تدريجي، وتتكفّل البنوك العمومية مستقبلا بفتح وكالات متخصّصة في الصّيرفة الإسلامية ومستقلّة، يقول حيدر.
وعن مدى نجاح الصّيرفة الإسلامية في الجزائر اليوم بعد أزيد من سنة من إطلاق هذه الخدمات بشكل جدي على مستوى البنوك العمومية، يؤكّد مسؤول مصرف “السّلام”، أنّه يجب منح المزيد من الوقت لانتشار هذه التعاملات قبل الحكم عليها بالنّجاح أو الفشل، وأيضا منح فرصة لموظّفي البنوك والشّبابيك للتمرّس في هذه الخدمات الجديدة، والتي تعتمد على آليات وتقنيات مصرفية تُصوّر البعد الشّرعي لهذه التّعاملات، كما يجب تبنّي خطّة تسويقية لإقناع المتعاملين بهذه الخدمات، وتبسيط إجراءاتها ليستفيد منها المواطنون، وتوسيع شريحة المنتجات المعروضة على المتعاملين، وأن لا تبقى منحصرة فقط في السيارات والتجهيزات الكهرو منزلية والعقار، مضيفا “البداية كانت محتشمة، لكن الآن بدأت الخدمات البنكية الإسلامية تشهد انتشارا ووتيرة أسرع، وبفضل الجهود المبذولة في مجال التّسويق والتدريب والتأهيل، ستشهد هذه المنتجات مستوى أعلى في الانتشار، واكتساحا للسّوق المالية خلال المرحلة المقبلة”.
وعن سبب ارتفاع تسعيرة الخدمات المالية الإسلامية في الجزائر، يقول حيدر إنّها مرتبطة بكلفة الودائع، بحيث أنّ فتح وديعة استثمارية مثلا يفرض هوامش ربح مجزية، وبقاء عوائد كافية لرأسمال البنك، إلاّ أنّه توقّع انخفاض الأسعار مستقبلا، قائلا: “باشتداد المنافسة بين البنوك في مجال الخدمات الإسلامية، ستتحسّن جودة العروض، وسيؤدّي ذلك أيضا بشكل تدريجي إلى تخفيض الأسعار”.
التّدقيق في شرعية شبابيك البنوك الجزائرية
من جهته، يؤكّد المدير العام لبنك “البركة” في الجزائر، خرشي النوي، بخصوص الاتّفاقية المبرمة بين بنك الجزائر وهيئة التّدقيق والمحاسبة للمالية الإسلامية “إيوفي”، أنّها تهدف إلى توسيع خبرة البنوك الجزائرية في مجال التدقيق، مضيفا في إفادة لمجلة “الشعب الاقتصادي”: “إنّ التدقيق المعني هو تدقيق شرعي، ويقصد به النّظر في مطابقة المعاملات البنكية المبرمة وفق صيغ الصّيرفة الإسلامية لمبادئ الشّريعة، وعلى هذا الأساس لا علاقة للاتّفاقية بتحسين الخدمات البنكية في عمومها، وإنما هدفها ضمان سيرها وفق ما تنص عليه الشّريعة الإسلامية”.
وحسب مسؤول بنك البركة في الجزائر، فإنّ اللجوء إلى التدقيق الشّرعي فرضه نزوح البنوك إلى فتح نوافذ للتّعاملات اللاّ ربوية، وما يتبع ذلك من ضرورة وجود هيئة شرعية لتدقيق المعاملات.
ويؤكّد المتحدّث أنّ الجزائر شهدت منذ عقود من الزّمن ولوج الصّيرفة الإسلامية للبنوك عبر خدمات بنك “البركة” بالجزائر في البداية ثم مصرف “السّلام” لاحقا، أمّا عن مدى منافسة النّوافذ المدشّنة عبر البنوك العمومية الستة، للبنوك الإسلامية المتخصّصة، التي سبقت العمل في هذا المجال، على منوال “البركة” و”السّلام”، فإنّ الفرق يكمن في كون معاملات هذين البنكين معاملات في مجملها تبحث عن الاقتراب من المطابقة للشّريعة، وبالتالي فالمال المتداول في مجمله يفترض فيه “التّعاملات الحلال”، أمّا البنوك العمومية التي قامت بفتح نوافذ إسلامية، فتتّجه هذه الأخيرة تدريجيا إلى الفصل نهائيا بين المال اللاّ ربوي والمال الرّبوي في نفس البنك، وذلك في مسار المال ادّخارا وتمويلا، ورغم أنّ هذا الأمر صعب التّحقيق إلاّ إذا قامت البنوك العمومية بخلق بنوك لا ربوية مستقلّة ماليا ومعنويا، إلاّ أنّه يرتقب القيام به خلال المرحلة المقبلة، رغم تواصل العمل في الظّرف الراهن عبر النّوافذ أو الشّبابيك الإسلامية، وهو ما يفتي بجوازه المجلس الإسلامي الأعلى.
قفزة خلال 2022
ثمّنت مديرة التّسويق والاتصال على مستوى بنك الفلاحة والتنمية الريفية، كنزة لربس، الخطوة الأخيرة لبنك الجزائر، الذي وقّع مذكّرة تفاهم وتدقيق مع هيئة المحاسبة والتدقيق للمالية الإسلامية “أيوفي”، وقالت إنّ مثل هذه المبادرة ستساهم إلى حدّ بعيد في تعميق خبرة البنوك الجزائرية في مجال الصناعة المالية الاسلامية التي لا تزال تعتبر حديثة في الجزائر، وتسهل إطلاق خدمات مالية جديدة تشبع حاجة المواطنين، وتستجيب لطلبات مختلف الفئات وتطابق أصول الشّريعة، كما هو متعامل به في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وحتى بعدد من الدول غير الإسلامية التي تسوّق هذه الخدمات المطابقة للشّريعة.
وتقول كنزة لربس في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي”، إنّ بنك الفلاحة والتنمية الريفية الذي استحوذ على 20 بالمائة من المعاملات البنكية الإسلامية خلال سنة 2021، يعتزم توسيع خدماته بشكل أكبر خلال سنة 2022، مشدّدة على أنّ عدد الوكالات البنكية التي تتوفّر على شبابيك إسلامية نهاية السنة الماضية عادلت 35 وكالة، في وقت سيتم تعميم هذه الخدمات عبر 58 ولاية بنهاية شهر مارس المقبل، كما سيتم إطلاق خدمات جديدة، إضافة إلى 14 منتجا مُسَوّقا في الجزائر من طرف بنك “بدر” سواء للمهنيّين أو الأشخاص، وفق صيغ جديدة لا تقوم فقط على المرابحة وإنما عروض تعتمد الإجارة وأشكال تمويل مختلفة، مطابقة للشّريعة الإسلامية، ما يجعل الاتفاقية الجديدة لبنك الجزائر مرجع جديد تعتمد عليه البنوك لمطابقة شرعية عروضها المقبلة.
ويسعى بنك الفلاحة والتنمية الريفية وفقا لمديرة التسويق والاتصال باقتراح خدمات تُشجّع الاستثمار في قطاع الفلاحة والصيد البحري، وأيضا عرض خدمات ادّخارية للأفراد والمؤسّسات، وتقول المُتحدّثة: “رغم أنّه لم يمض اليوم وقت طويل على إطلاق خدمات الصيرفة الإسلامية في السوق الجزائرية، ولم نكن الأوائل الذين شرعنا في تسويق هذه المنتجات، ولكن حقّقنا الرّيادة خلال سنة 2021”.
وبالرغم من أنّ مديرة التسويق لم تكشف عن حصيلة الادّخار في الودائع الإسلامية على مستوى بنك “بدر”، ولكنها أكّدت أنّها تجاوزت الأرقام المسطّرة قبل إطلاق هذه الخدمات، في حين توقّعت أن تتضاعف المدخرات خلال السنة الجارية.
وتذكر المتحدّثة بـ 14 منتجا مطابقا للشريعة الإسلامية ساري التسويق على مستوى بنك الفلاحة والتنمية الريفية منذ شهر ماي المنصرم، منها 8 منتجات تعتمد صيغة المرابحة لتمويل اقتناء وسائل النقل والمواد واللّوازم والسّلع، وتشييد بنايات لتربية المواشي ومستودعات ومناطق التخزين، وتحديث المعدّات واقتناء الماشية والأسمدة والبذور، و4 دفاتر للادّخار وحسابين للأشخاص الطّبيعيّين والمعنويّين.
منتجات جديدة تنتظر التّأشيرة
من جهتها، أكّدت مديرة التسويق والاتصال على مستوى الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط “كناب بنك”، بهية قيساوي، في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي”، أنّ اتّفاقية بنك الجزائر مع هيئة التدقيق والمحاسبة للمالية الإسلامية “أيوفي” ستساهم بشكل إيجابي في توضيح الرّؤية في مجال العروض والخدمات المالية الإسلامية بشكل مطابق للشريعة بصيغة أحسن، ويمكن للجزائر اكتساب خبرة واسعة في مجال الصيرفة الإسلامية من هذه المنظّمة.
وتضيف المتحدّثة “نحن كبنك عمومي جزائري، كنّا ضمن المؤسّسات المالية السباقة لإطلاق خدمات الصيرفة الإسلامية في الجزائر، وفي مقدمة البنوك التي أطلقت عروضها لتعميم الخدمات المطابقة للشّريعة”، مضيفة “نعترف بأنّ خبرة الجزائر رغم الجهود المبذولة من طرف السّلطات، لا تزال صغيرة مقارنة مع الدول الرّائدة في هذا المجال، ولذلك فمثل هذه الاتفاقيات – أي مع هيئة التدقيق والمحاسبة للمالية الإسلامية “أيوفي” – ستساهم إلى حد بعيد في توسيع استخدام الصيرفة الإسلامية في الجزائر، وتلعب دورا كبيرا في تعميم الصّناعة المالية الإسلامية عبر كافة المؤسّسات المالية الجزائرية سواء العمومية أو الخاصة”.
وبشأن الخدمات والعروض الجديدة التي يعتزم “كناب بنك” إطلاقها قريبا، أوضحت المتحدّثة أنّها عديدة ومتنوّعة، وتحمل صيغا مختلفة حيث يفترض أن تكون جاهزة أمام الزّبائن في القريب العاجل، ويتعلق الأمر بأربع خدمات جديدة، ينتظر حصول الموافقة عليها من طرف بنك الجزائر قريبا. وحسب مديرة التسويق فإنّ الأمر يتعلق بمرابحة السيارات وحسابات الادّخار المدفوعة وودائع حسابات الاستثمار، ومنتج تمويلي خاص بالخواص للظفر بعقار أو سكن، وفق صيغة المرابحة يحمل تسمية “تمويل عقاري”، مضيفة “مذكّرة بنك الجزائر مع هيئة أيوفي ستكون مصدرا جديدا لمطابقة خدماتنا مع الشّروط الشّرعية”.
وصرّحت قيساوي: “نسعى إلى طرح منتجات تنال إعجاب الزّبائن، وتحوز على القبول في السوق الجزائرية”.
أمّا عن حصيلة الصّندوق الوطني للتوفير والاحتياط خلال سنة 2021، تؤكّد المتحدّثة أنّها كانت محفّزة، لاسيما فيما يتعلق بالادّخار، محصية فتح 3400 حساب بنكي منذ إطلاق هذه الخدمات شهر نوفمبر 2020، وتتعلّق الخدمات المطروحة بالتمويل العقاري عبر صيغة الإجارة، في حين تحصي إيداع 170 ملفا للاستفادة من تمويل السكن والعقار، وفق صيغ مطابقة للشّريعة الإسلامية، أي الإجارة المنتهية بالتمليك، متوقّعة أن يحقّق البنك رقما قياسيا في تسويق الخدمات الإسلامية، وأيضا في الادّخار وفق الصّيغ الشّرعية خلال سنة 2022.
إيمان الطيب