سياسة دعم أسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية ظلّ موضوع جدل سياسي اقتصادي بكل ما يحمله الموضوع من أبعاد مالية واجتماعية.
أقدمت العديد من دول العالم على التّعامل مع مشكلة الدعم، وإصلاحها بالعديد من السياسات والآليات من أجل ترشيد الإنفاق العام، وجعل الدعم أكثر استدامة وفي خدمة النّمو الاقتصادي الشامل.
لقد نجحت بعض تلك السياسات في تحقيق المرجو منه على غرار تجارب كل من إندونيسيا، تركيا والبرازيل، حيث قدّمت نماذج جديرة بالاهتمام في إصلاح نظام الدّعم خاصة في المجال الطاقوي، غير أنّ تحقيق هذا الأمر على أرض الواقع كان صعباً بالنسبة لدول أخرى، خاصة التي توسّعت في الدعم الحكومي الشّامل لعقود من الزمن من أجل تحقيق عدّة أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، وبتوجيهها لصالح الفقراء والفئات الهشّة من محدودي الدخل، كإعادة توزيع الدخل والثّروة في المجتمع، والمحافظة على الاستقرار العام للأسعار خاصة الأساسية، وتحفيز ودعم المنتجين وتعزيز تنافسية المنتوج المحلي وحمايته.
وتُعتبر الجزائر من بين البلدان التي توسّعت في سياسة الدعم، خاصة فيما يخص المواد الطاقوية، ومع التذبذبات التي مسّت أسعار البترول العالمية وتبعية الاقتصاد الجزائري لهذا القطاع الاستراتيجي، تراجعت موارد الحكومة ورافقها توسّعا في الإنفاق، الأمر الذي شكّل ضغطاً متزايدا على ميزانية الدولة، وجعل مسألة استدامتها المالية تطرح مشاكل عويصة. ويقدّر حجم الدعم الحكومي والتحويلات الاجتماعية في الجزائر ما نسبته حوالي 10% من الناتج المحلي، وأكثر من 20% من ميزانية الدولة، وتشمل التحويلات الاجتماعية في الجزائر جميع القطاعات، وهي لا تفرّق بين القطاع الخاص والقطاع الحكومي، وغالبا ما تـأخذ طبيعة اجتماعية أكثر منها اقتصادية، مثل تحقيق العدالة الاجتماعية المتمثلة في إعادة توزيع الدخل الكلي عن طريق الموازنة العامة، تأمين السكن، الصحة والتعليم المجانيين من خلال الدعم الموجّه للكهرباء والماء والغاز، وحماية الفئات الهشة والمعوزين والمتقاعدين وذوي الدخل الضعيف وذوي الاحتياجات الخاصة، ودعم السّلع المقنّنة كالحليب والخبز والزيت والسكر عن طريق تسقيف الأسعار.
من جهة أخرى، لا يمكن اعتبار الدعم الحكومي جيداً في كل الأحوال، فقد شجّعت السياسة القائمة على التوسع في استهلاك المواد المدعّمة إلى حد الإفراط والتبذير، حيث تعتبر حصص الفرد من الحليب والقمح الأعلى عالمياً، والأمر لا يتوقّف عند هذا الحد، وإنما يتعدّى ذلك إلى تهريب هذه المواد إلى دول الجوار، ما أثّر سلباً على ميزان المدفوعات وعلى إيرادات الدولة، كما تسبّب في تشوّهات في أسعار المواد التي تقوم الدولة بدعمها، ما أدّى بدوره إلى تشوّه في القيمة الحقيقية لمعدّل الأسعار، والذي يعتبر من أهم المؤشّرات التي تبنى عليها سياسات الاقتصاد الكلي، وتشوّهات قطاعية بإزاحة الاستثمار المحلي الخاص لبعض المواد المدعمة، أو الانفاق على حساب قطاعات أخرى للاستثمار، فحتى قبيل انخفاض أسعار البترول سجّلت الميزانية عجزاً لأكثر من خمس سنوات من العقد الماضي، وزاد الضغط بعد تراجع أسعار المحروقات في العالم، جرّاء الآثار الاقتصادية التي خلّفتها الجائحة الصحية كوفيد 19 على مستوى الاقتصاد العالمي وعلى الجزائر خصوصا، حيث يكون من الصعب تمرير أجندة إصلاح الدعم، خاصة مع تراجع أسعار النفط والضغوط على الميزانية، لذا كان لابد من اختيار الظروف الاقتصادية المناسبة، لإعادة النظر في إصلاح سياسة الدعم القائمة، بجعلها أكثر عدالة وكفاءة والابتعاد عن سياسة الدعم للجميع، والانتقال التدريجي من الدعم الشامل للسلع والخدمات إلى نظام أو برنامج تحويل نقدي مبني على معايير دقيقة وآليات للانتقاء يستهدف الفقراء ومحدودي الدخل والمستحقين فعلاً، وإحصائهم ضمن منصّة رقمية يتم تحديثها دورياً وربطها بنظام مركزي، حتى تبتعد الحكومة عن آثار صدمة الأسعار واستحداث نظام للحماية الاجتماعية أكثر كفاءة وفعالية، وتحديد أولويات إصلاحها، وجعل إصلاح دعم الطاقة ضمن الأولويات بالجزائر، نظراً لتكلفتها الكبيرة وآثارها الداخلية والخارجية.
لقد اختارت نخبة نوفمبر أن تكون الدولة اجتماعية دائماً، وذلك يعني حماية الأغلبية في جميع المجالات الحياتية، تعليماً وصحة وإسكاناً وتسقيف أسعار عدد من المواد، فضلاً عن سياسات أخرى كثيرة صارت من تقاليد إدارة الشأن العام في البلاد.
إنّ ترشيد استخدام الثروة الوطنية والحد من التبذير ومن الهدر يحتّم، وذلك كان موضوع انتقادات وآراء متنوّعة، البحث في سياسات اجتماعية أكثر نجاعة تخدمُ من يستحقها، وتحد ممّا تسببت فيه من فساد ومن تحديات.
إنّه أمر ممكن ولو لم يتم التوصل لأقصى درجات النجاعة بسرعة، فترقية الرعاية الصحية في حاجة لموارد إضافية، ولكن من دون حرمان الأغلبية المحتاجة من الخدمات.
إنّها بداية جديدة في تجربة الدولة الاجتماعية ينبغي أن تكون أفضل من حيث الفعالية، ومن حيث الأثر الاجتماعي الفعلي، لأنّ الأمر ينبغي أن يندرج في إطار رؤية اقتصادية شاملة، وليس مجرّد سياسة تهدئة بمنطق ريعي.