تحوّل الازدحام المروري في السنوات الأخيرة إلى مشكل عويص يعكّر صفو حياة المواطن البسيط، ويؤرق أصحاب المركبات، بعد أن بات التنقل إلى العمل يستغرق ما متوسطه ساعتين من الزمن لقطع بضعة كيلومترات في العاصمة.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن ظاهرة “زحمة المرور” تكلّف السلطات الجزائرية ملياري دولار سنوياً، وتبذّر نصف مليون لتر من الوقود المدعّم، وهو ما يتطلب اليوم ضرورة دقّ ناقوس الخطر ومباشرة برنامج مكافحة الازدحام المروري، الذي بقي حبيس أدراج وزارة النقل والأشغال العمومية لأزيد من 14 شهراً، فهل ستنجح الحكومة الجديدة في مجابهة الظاهرة التي ما فتئت تتفاقم؟
ملياري دولار خسائر الازدحام المروري
بحسب تقديرات الخبير الاقتصادي عبد المالك مبارك سراي فإن الازدحام المروري يكلف الخزينة الجزائرية مبلغ ملياري دولار سنوياً، وفقا لدراسة سابقة أعدها مكتبه الخاص بالدراسات الاقتصادية الدولية بالجزائر العاصمة بالشراكة مع مكتب إسباني، بناء على معطيات تحصّل عليها من وزارة النقل والأشغال العمومية، وهو مبلغ وصفه بالضخم، والمكلّف جدا، خاصة في ظل الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمر به الجزائر اليوم، مصرحاً “في الماضي كنا نعيش مرحلة بحبوحة اقتصادية، لكن اليوم نحن مطالبون بترشيد النفقات، وهذا لن يتأتى دون امتصاص هذا المبلغ الذي يضيع هباءً منثورا نتيجة عدم معالجة ملف الازدحام المروري بجدية”.
ويقول سراي إن ظاهرة الازدحام المروري مستمرة على مدار السنة في الجزائر، وليس في مراحل معينة ومناسبات خاصة ترتبط بالدخول الاجتماعي وتقلّ في فصل الصيف كما يتداوله البعض، كما أنها ظاهرة عامة تشمل كافة الولايات والمدن ذات الكثافة السكانية الكبرى على رأسها الجزائر العاصمة، البليدة، عنابة، وهران، وقسنطينة، مشدداً على أن أكبر خسائر الازدحام المروري مسجلة على مستوى ولاية الجزائر وضواحيها والمدن المحيطة بها نظراً لكثافتها السكانية المرتفعة.
ويؤكد سراي أن برنامجاً خاصا بمحاربة الازدحام المروري على مستوى الطرقات تم الكشف عنه قبل 14 شهراً من طرف وزارة النقل والأشغال العمومية، حيث يتضمن هذا الأخير إعداد دفتر شروط لتقليص الازدحام على مستوى ولاية الجزائر، وبناءً على ذلك تم إجراء مناقصة وفقاً لسراي، واختيار ثلاث متعاملين الأول من جنسية ماليزية ـ صينية، والثاني والثالث عبارة عن مجموعات جزائرية صينية، لتجسيد المشروع، ورغم أن الشركات الصينية اقترحت التمويل من طرف بنوكها إلاّ أن البرنامج لم ير النور لحد الساعة ولا يزال حبيس أدراج وزارة الأشغال العمومية والنقل، مضيفاً “كان حرياً أن تكون هنالك وزارة نقل متخصصة، بدل إدماجها مع وزارة الأشغال العمومية، التي لم تجعل الملف يكتسح أولوياتها”، وطالب سراي حكومة أيمن بن عبد الرحمن ـ الوزير الأول الجديد ـ بإيلاء أهمية قصوى لملف الازدحام المروري الذي بات يرهق ميزانية الدولة، ويتسبب في خسائر اقتصادية وانعكاسات مناخية وبيئية ضارة، ويؤثر سلباً على نفسية وصحة المواطن.
6.5 مليون مركبة تحدث ازدحاماً بطرق الجزائر
ويقول الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي إن أحد أسباب الازدحام المروري في الجزائر وبصفة خاصة في العاصمة، هو ارتفاع عدد المركبات المتواجدة في الطرقات وفي الحظيرة الوطنية للسيارات، والتي تجاوزت وفقاً لآخر تقرير للديوان الوطني للإحصائيات 6.5 مليون مركبة، وهذا رغم قرار منع استيراد السيارات الجديدة منذ سنة 2017، وتتمثل الولايات التي شهدت أعلى نسبة من المركبات الجديدة وفقا لآخر تقرير في كل من الجزائر العاصمة ثم البليدة، فقسنطينة والمسيلة ثم سطيف.
وحسب الخبير نفسه فإن ارتفاع عدد المركبات المتواجدة بالحظيرة الوطنية للسيارات إضافة إلى اعتماد نفس شبكة الطرقات التي كانت مستعملة في الماضي أحدث ضغطاً كبيراً في حركة المرور وتسبب في الازدحام الذي ما فتئ يشهد تفاقما أكبر يوماً بعد الآخر.
كما أن أحد أسباب الازدحام المروري وفقا للمتحدث، هو الدراسات الخاطئة لنقاط مفترق الطرق، مسجلاً على مستوى ولاية الجزائر لوحدها وجود 200 نقطة مفترق طرق، تتضمن أخطاء في التصميم وغير منجزة في المكان المناسب لها، وقال “200 مفترق طرق يشكل نقطة سوداء للازدحام المروري على مستوى ولاية الجزائر، وأبلغنا مصالح مديرية النقل بذلك منذ فترة طويلة لكن الوضع لم يتغيّر لحد اليوم”، مشيراً إلى أنه كان يفترض تضييق هذه النقاط أو إنجاز أنفاق سفلية بدل نقاط مفترق الطرق.
ويرى سراي أن من بين الأسباب التقنية أيضاً لتفاقم مشكل الازدحام المروري بالجزائر، هو طريقة تصميم وإنجاز الدورات الإجتنابية على مستوى الطرقات، المنشأة بطريقة خاطئة، مشدداً على أن دفتر الشروط المتواجد على مستوى وزارة النقل يتطرق إلى هذا الملف، ويعتمد التجربة الاسبانية الرائدة، من خلال معالجة اختلالات هذه الطرق الاجتنابية، داعيا إلى الإفراج عنه في أسرع وقت.
وصرح الخبير الدولي قائلا: “النموذج الاسباني معتمد عبر عدد من دول العالم لمكافحة وتقليص حوادث المرور، نظرا للنجاح الكبير الذي حققه، ومن بين الدول التي انتهجته الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك نأمل أن تأخذه السلطات الجزائرية بعين الاعتبار وأن تعتمد عليه”.
نصف مليون لتر من الوقود يضيع في اكتظاظ الطرق
ينعكس الازدحام المروري بشكل بارز على نسبة استهلاك الوقود في الجزائر، الذي يكلّف هو الآخر الحكومة فاتورة 900 مليون دولار سنوياً، في حين يستهلك الجزائريون ما مقداره 5.14 مليون طن من الوقود من مختلف أشكاله وفقاً لرئيس نادي المخاطر الكبرى عبد الكريم شلغوم الذي يرى أن نصف مليون لتر من الوقود يضيع سنوياً في الجزائر بسبب زحمة المرور، الأمر الذي يفرض اليوم ضرورة دق ناقوس الخطر ومسارعة الحكومة جديا للتصدي لظاهرة الازدحام.
ويشدد شلغوم في تصريح لـ”الشعب الاقتصادي” على أن مخاطر الازدحام المروري لا تنعكس فقط على الاقتصاد وإنما أيضا على البيئة وصحة المواطن، فتوقف السيارة في الاكتظاظ المروري لمدة ساعة من الزمن، يستهلك لترا من الوقود، وارتفاع نسبة استهلاك الوقود يتسبب في ارتفاع نسبة انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، ما يزيد من خطورة رفع نسبة الاحتباس الحراري، كما أن الازدحام يتسبب في مشاكل صحية قاتلة على غرار الضغط والتوتر والقلق، وذهب المتحدث أبعد من ذلك قائلا إن الازدحام المروري ” يهدد النمو الاقتصادي ويؤثر على نوعية حياتنا”.
ويرى شلغوم أن الغازات السامة المنبعثة نتيجة توقف السيارات لساعات في الازدحام المروري تؤثر بشكل بالغ على صحة الانسان وتسبب أمراضا مزمنة وقاتلة في بعض الأحيان، وهو ما يفرض وجود استراتيجية واضحة المعالم للحد من هذه الظاهرة التي ما فتئت تتفاقم، إذ يقول “الازدحام المروري أحد المخاطر الكبرى في الجزائر التي يجب إيلاء أهمية قصوى لها، ووضع مخطط ضخم لمجابهتها”.
ويعتبر رئيس نادي المخاطر الكبرى أن اكتظاظ السيارات في الطرقات يسبب مشاكل اقتصادية وبيئية وصحية، ويظل أحد الملفات التي لم توليها الحكومات المتعاقبة اهتماماً واسعاً خلال السنوات الماضية، رغم أن الوضع شهد تفاقماً حاداً خلال الثلاث سنوات الأخيرة، الأمر الذي يتطلب اليوم التدخل العاجل لوزارة النقل، ووضع مخطط دقيق لمجابهة الظاهرة.
النادي الاقتصادي الجزائري: “لدينا برنامج خاص لتفكيك أزمة الازدحام المروري”
يرى مسؤولو النادي الاقتصادي الجزائري أن أزمة الازدحام المروري في الجزائر، من أكبر المشاكل التي تجابه الاقتصاد، نتيجة الخسائر الكبرى التي يتكبّدها جراء ارتفاع استهلاك الوقود بنوعيه المازوت والبنزين، وأيضا تأخر الموظفين في الالتحاق بالعمل، وهو ما دفع بهم إلى رسم خطة مكونة من مجموعة من المقترحات سيتم تقديمها قريباً لوزارة الأشغال العمومية والنقل.
ويؤكد سعيد منصور رئيس النادي في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي” أن أهم هذه الحلول تتمثل في إدخال نظام النقل الذكي من خلال معاينة مناطق الانسداد وتبليغ السائقين بها، لعدم المرور عليها على غرار ما هو متعامل به في عدد من دول العالم، وتشجيع استخدام الدراجات والدراجات النارية وتخصيص رواق لها على مستوى الطرقات، وأيضا تشجيع استخدام طريقة النقل عبر “كو-ترانسبور”
(co-transport) أو استخدام سيارة جماعية للنقل إلى العمل، على غرار ما هو متعامل به في أوروبا، وتحسين وتعزيز وسائل النقل العمومي من ميترو وترامواي وقطارات وتفعيل السكك الحديدية، وإنشاء الطرق الجديدة وتحسين تدفق حركة المرور عبر تأشير أفضل للطريق، وبالتالي فإن هذه الإجراءات حسبه، ستساهم إلى حد بعيد في التقليص من الازدحام المروري.
ويرى المتحدث أيضا أن الحل لمجابهة أزمة الازدحام المروري وخسائره هو الوقاية منه، بتوعية المواطنين بضرورة تفادي أوقات الذروة في الطرقات وهي ساعات التحاق العمال بمكاتبهم أو أماكن العمل وساعات مغادرتها، خاصة وأن أحد أهم أسباب الازدحام المروري هي اكتظاظ السيارات في الطرقات، نتيجة خروج المواطنين في أغلب الأحيان في نفس الوقت، ناهيك عن ارتفاع عدد سكان الجزائر، الذي أصبح يزيد اليوم عن 45 مليون نسمة وسوء حالة البنية التحتية للطرقات، وعدم إبلاغ السائقين بوضعية الطرقات قبل ركوبهم السيارة، واستخدام النقل الفردي بدل النقل الجماعي، ناهيك عن أسلوب القيادة العدوانية الذي يلجأ إليه البعض، والذي يتسبب عادة في حوادث مرور تضاعف من حدة الاكتظاظ والازدحام بالطرقات.
وفي النهاية يعوّل الخبراء والأخصائيون بقوة على الحكومة الجديدة ممثلة في وزارة النقل والأشغال العمومية، لإعطاء أهمية قصوى لملف الازدحام المروري وإخراجه من الأدراج التي بقي حبيسا لها، وتطبيق فعلي للبرنامج الذي سعت إلى تجسيده سنة 2020، ولكنه لم ير النور الحد الساعة.
إيمان الطيب