يحتاج المستهلك دوما إلى وجود أجهزة رقابية فعّالة تحمي تعاملاته التّجارية، فعنصر السّعر في المعاملات التّجارية بالأسواق الجزائرية يرتبط ارتباطا وثيقا بدخل الأسر الذي تهاوى في الآونة الأخيرة.
تعاني كثير من الأسر من فرض السّوق لأسعار لا تنسجم مع مستوى الدّخل الأسري، في ظل استغلال فرص نقص بعض المنتوجات في السّوق، وحاجة المستهلك الضّرورية لها.
ويشكو المستهلك الجزائري ارتفاع أسعار الكثير من المواد الواسعة الاستهلاك خصوصا مطلع السنة الجديدة، فالإرهاصات التي سبقت هذه الزّيادات كانت واضحة المعالم في نظر العديد من الخبراء ومتتبّعي الشّأن الاقتصادي بالجزائر.
وبغض النّظر عن تداعيات الأزمة الصحية السنة الماضية، لم تكن سنة 2019 أقل سوءاً في تداعياتها على الاقتصاد الجزائري، إثر ركود تام في مختلف القطاعات الاقتصادية، وترقّب في المشهد السياسي عقب حراك 22 فيفري المبارك، الذي أطاح بالعديد من رجال أعمال المال الفاسد وأصحاب مؤسّسات اقتصادية كانت تشغل السّوق التجارية، ما فسح المجال للاحتكار من قبل المنتجين المنافسين في سوق الصّناعة الغذائية والاستيراد.
معركة المعلومة
يرى الخبير الاقتصادي، الدكتور حميدوش محمد، أنّ التحكم في أسواق الجملة هو بمثابة القبض على عصب المضاربين، الذين يتعمّدون رفع الأسعار وتركها في سقف المضاربة، دون رجوع سعر المنتوج إلى طبيعته في كثير من الحالات.
وفيما يخص السّلع المحلية الموجّهة للاستهلاك المباشر كالخضروات، فيؤكّد محدّثنا على ضرورة تجنّب بيعها خارج أسواق الجملة، ما يسمح باحتساب كمية السّلع الموجّهة للاستهلاك، وهو ما كان معتمداً بمداخل أسواق الجملة في الماضي البعيد، لذا فمن خلال الإلمام بحجم السّلع التي تدخل السّوق نتمكّن من التحكم في العرض بأسواق الجملة، وهو أحد أطراف المعادلة التي تخضع لها جميع الأسواق (العرض والطّلب).
وبالعودة إلى واقع الحال، فإنّ المضاربة في أسعار السّلع تستمد قوّتها من خلال تغييب معلومة كمية العرض، التي تبنى عليها أسعار السّلع بما أنّ الطّلب تستطيع الجهات المختصّة تحديده من خلال دراسات استشرافية متعلّقة بنمو الطلب على السلع.
لذا فتنظيم السّوق يضيف محدّثنا، لا يكون بإرسال فرق الرّقابة إلى أسواق التجزئة أو الجملة، وإنما بالفوز في معركة المعلومة أولاً وتحديد كل مدخلات ومخرجات السوق، والتحكم في حجم كل السلع.
سبل الاحتكار
بالنّسبة للسّلع المستوردة، فيؤكّد حميدوش أنّ اقتصار عملية الاستيراد سابقاً على فئة معيّنة، مكّنها من فرض منطقها في تحديد الأسعار، وعلى الوصاية التدخل هنا لتحديد هوامش الربح بالاعتماد على الأسعار المتداولة عالمياً، كما يمكن فرض سلاح الجباية على كل من يتجاوز هامش الرّبح المحدّد، مع الأخذ بعين الاعتبار جودة المنتوج المستورد، ويضيف حميدوش أنّه يمكن مجابهة الاحتكار أيضا، من خلال فتح مجال الاستيراد لإنشاء منافسة تخضع كلها لتحديد هامش الربح
عين على السوق
رغبة في تقصّي حقيقة الزّيادات في أسعار المواد الغذائية مطلع السنة الجديدة، وجسِّ نبض التجار بشكل مباشر حول حقيقة المضاربة التي لطالما شكّلت هاجسا بالنسبة للمواطن، نزلت “الشعب الاقتصادي” لسوق الجملة الخاصة بالمواد الغذائية بـ “السمّار”. هذه السّوق المعروفة بأسعارها التّنافسية، وبكونها مصدر كل ندرة أو وفرة في المواد الغذائية، حيث اقتربنا من بعض التجار الذين أجمعوا على براءتهم من كل التهم التي تكال لهم.
يجتمع في هذه السّوق الواقعة ببلدية جسر قسنطينة بالعاصمة، أكثر من 700 تاجر مواد غذائية بالجملة، ورغم تحفّظهم على التّصريح لوسائل الإعلام بشكل مباشر، إلاّ أنّ “الشعب الاقتصادي” استطاعت الاقتراب من بعض التجار، وانتزاع اعترافات حول المضاربة في أسعار بعض المواد.
أوّل تاجر صادفناه في جولتنا، تحدّث بأسف عن أهم العوامل التي أدّت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، يتقدّمها الارتفاع الرّهيب لأسعار الشّحن والنّقل الدولي للبضائع والسّلع، الذي تضاعف بأكثر من ثمان مرّات، فبينما كان متوسّط شحن السّلع من الخارج يتراوح ما بين 800 أورو و1500 أورو، أصبح الآن بين 8000 و15000 أورو، إضافة إلى تدهور قيمة الدينار مقابل العملات الصّعبة، إضافة إلى أثر الجائحة الذي لازال يلقي بضلاله على سوق الجملة بركود غير مسبوق شهدته طيلة سنة 2020، ولازال متواصلاً بدرجة أقل إلى غاية الشهر الثالث من العام الجديد.
وقد أثّر تدهور قيمة الدّينار منذ سنة 2014 بشكل كبير وواضح على أسعار السّلع، فحتى وإن لم يرتفع سعر الشّحن وأسعار المنتوجات في الأسواق العالمية – يقول محدّثنا – فقد كان منتظرا ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية بشكل آلي إثر تراجع قيمة صرف الدينار الجزائري مقابل العملات الصّعبة.
سلسلة المضاربة
يجمع الكثير من التجار ممّن التقينا بهم، على أنّ العرض والطلب أقوى معادلة تفرض منطقها في السّوق، وبإمكانها كذلك قلب ميزان الرّبح والخسارة لدى التّاجر، فالسّوق التي تعرف حالة ركود منذ أكثر من سنتين، زادها نقص الموردين الذين أوقف كثير منهم عمليات الاستيراد، إثر الإجراءات الجديدة المفروضة مؤخّراً من قبل الوصاية فيما يتعلّق بطريقة الدفع مقابل استيراد أي سلعة، واعترف التجار تعمّد تغييب التّعامل بالفاتورة لتجنّب ضريبة القيمة المضافة على السّلع، فالاعتماد على الفاتورة يؤدّي بطريقة آلية لارتفاع غير مسبوق في أسعار كل المواد الغذائية، إذ يؤكّد هؤلاء أنّ تفادي دفع هذه الضّريبة هو السبب المباشر في ندرة بعض الأحجام من مادة زيت المائدة على سبيل المثال، إذ رفض جلّ المتعاملين الخضوع للفاتورة دون زيادة في أسعار السّلع.
ويرى تاجر آخر أنّ بوادر المضاربة في أسعار بعض السّلع الأخرى بدأت تلوح في الأفق في الآونة الأخيرة، خاصة تلك التي يكثر الطّلب عليها خلال شهر رمضان، فالتّعاملات التّجارية تختلف من سلعة لأخرى، بعضها تصل لتاجر الجملة مباشرة من طرف المنتج، في حين تمر أخرى عبر عدّة وسطاء، وهو ما يفسّر الزّيادة في سعرها مقارنة بالأسعار التي يعتمدها المنتج.
وناشد الكثير من التجار، الجهات الوصيّة لتبنّي الرّقمنة في عمليات جرد السّلع خاصة فيما يتعلق بالنّظام الجبائي، إذ أكّد من التقت بهم “الشعب الاقتصادي” بسوق السمّار، أن هناك من يعرقل مشروع الرّقمنة في قطاع التجارة الحسّاس، هذا المشروع الذي يمكن أن يؤثّر على سعر السلع، ويسهم بشكل كبير في الحد من المضاربة، ويتيح للتجار استعمال الفاتورة في التّعاملات التجارية دون خوف من الزّيادات التي تفرضها ضريبة القيمة المضافة، بحيث يرى بعضهم أنّه “من غير الممكن ونحن في عام 2021 أن نعتمد على الطّريقة التّقليدية في جرد سلع التاجر، ومن ثمة تقدير جباية خيالية في كثير من الأحيان يعجز التاجر عن دفعها، ما يضطرّه إلى دفع رشوة تجنّباً لدفع الضّريبة بشكل نهائي”، حسب بعض التجار.
سلوكيات محفّزة على المضاربة
يرى كريم وهو تاجر بسوق الجملة بالسمّار، أنّ سلوك المستهلك غالباً ما يشجّع على المضاربة، إذ ينكبُّ الكثيرون على استهلاك أنواع محدّدة من السّلع، بينما توجد بدائل عديدة بشكل وافر وبأسعار أقل، لكن التّرويج لبعض السّلع إلى درجة المبالغة، سريعاً ما يؤثّر على سلوك المستهلك الذي غالباً ما يكون العامل المباشر في المضاربة، ويكفي على المستهلك تغيير سلوكه ونمط استهلاكه لكبحها.
المستفيدون من الفوضى
يؤكّد رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيّين الجزائريّين، طاهر بولنوار، أنّ الجزائر لا تملك سوقاً واحدة مختصّة في بيع وتوزيع المواد الغذائية بالجملة، وأنّ ما هو موجود بـ “السمّار” ليست بسوق للجملة وفق المقاييس المتعارف عليها دوليا. وحسب تقديرات الجمعية، فإنّ نحو 150 إلى 200 تاجر ينشطون دون سجلات تجارية من أصل ما يقارب 700 تاجر جملة بهذه السوق إن صحّت تسميتها حسب بولنوار، فلا يمكن وصف تجمّع سكني وسط مدينة بالسّوق، والأخيرة لا تخضع لأي جهاز إداري يمكن أن يتحكّم فيها أو يقدّم إحصائيات بسيطة حولها، يضاف إلى هذا ارتفاع تكاليف الكراء والتي تصل إلى 30 مليون سنتيم شهرياً، الأمر الذي يزيد من أعباء التجار الذين يلجأون إلى تعويضها بزيادة أسعار سلعهم لتحقيق الموازنة على حساب المستهلك، الذي يعتبر آخر سلسلة التّعاملات التجارية، فغياب الشّفافية وإدارة تنظّم وتسيّر هذا الفضاء، يفتح بالضرورة الباب على مصراعيه للاحتكار والمضاربة.
وطالبت الجمعية الوطنية للتجار والحرفيّين الجزائريّين، بضرورة التّعجيل في إنشاء أسواق جملة جهوية خاصة بالمواد الغذائية وفق معايير عالمية، تسمح بضبط ومراقبة السّوق في كل مراحل المعاملات التّجارية، عبر مقترحات قدّمتها لوزارة التجارة، التي تبنّت الفكرة وشرعت في اختيار الأرضيات المناسبة لإنشاء خمس أسواق موزّعة على خمس ولايات هي بومرداس، باتنة، ورقلة، بشار وتيارت، حسب رئيس الجمعية، الطاهر بولنوار.
ويؤكّد بولنوار أنّ المضاربين من فئة كبار التجار، هم من يقومون باحتكار منتوج معيّن، وفرض ندرة تعجّل بانتشار دعاية حول زيادات في المنتوج مشروع المضاربة، لذا يسارع المستهلك لاقتنائها بغض النظر عن ثمنها، الذي يتضاعف في كثير من الأحيان، كما أنّ القانون لا يمكنه فرض هامش ربح معين على المواد التي لا تسقِّف الدولة سعرها، فالاتّفاقيات الدولية ومبتغى الجزائر في ولوج منظّمة التجارة العالمية، يحتّم عليها تبنّي سياسة الاقتصاد الحر، والخضوع فقط لمبدأ العرض والطّلب، لذا فلا سبيل لخفض الأسعار سوى عن طريق الزّيادة في العرض والإنتاج.
كما اشتكى ممثّل التجار من كثرة الوسطاء في كل عملية تجارية، ما يرفع من سعر المنتوج قبل وصوله إلى المستهلك، هذا الأخير قد يضطر للعزوف عن الاستهلاك، وبالتالي التّسبّب في تكديس السّلع وتراجع الإنتاج، والتأثير بشكل غير مباشر على الاقتصاد الوطني.
“TVA” ضريبة يدفعها المستهلك
يرجع بولنوار حصول ندرة في بعض السّلع في الآونة الأخيرة، لتخوّف المنتجين الذين يُعتبرون أوّل حلقة في التعاملات التجارية، من فرض الفاتورة في تعاملاتهم، وهو ما يدفعهم لزيادة أسعار السلع بداعي تعويض الضريبة على القيمة المضافة، والتي لم تكن تحتسب في تكاليف المنتوج حسب محدّثنا، إذ يفترض اعتماد التّعامل بالفاتورة بالنسبة للمنتجين بالدرجة الأولى قبل تجار الجملة، حتى يحدّد السّعر الحقيقي لكل منتوج، وهو الأمر المستبعد حالياً بداعي أثر اعتماد الفواتير على الأسعار، كما طالب رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين بضرورة مراجعة حجم ضريبة القيمة المضافة المقدّر بـ 19 بالمائة، وهو ما يمثّل خمس سعر المنتوج تقريبا.
ومن جهته، دعا رئيس جمعية الأمل لحماية المستهلك عيسى منوار، لإسقاط ضريبة القيمة المضافة “TVA” على بعض المنتوجات الأساسية أو تخفيضها على الأقل، لأنّ فرض التّعامل بالفواتير بدل وصل الاستلام كما هو شائع الآن، ينبغي أن يعمّم على كل الأطراف في سلسلة التّعاملات التجارية من المنتج إلى بائع التجزئة، وإلاّ فإن عائدات “TVA” تذوب في سلسلة التوزيع والبيع العشوائي دون أن تستفيد منها خزينة الدولة.
في المقابل، أكّد عضو جمعية حماية المستهلك، علي بن صالح، أنّ الجمعية قد تتفهّم ارتفاع أسعار بعض المنتجات المستوردة على ضوء الأسباب المذكورة سلفاً، لكن ارتفاع أسعار بعض المواد المصنّعة محلياً وعلى قلّتها فلا مبرّر له، خاصة تلك التي تعتمد على مواد أولية محلية. ولمجابهة المضاربين، كشف محدّثنا عن اقتراح طرق ناجعة من طرف جمعية حماية المستهلك لمعرفة أماكن تخزين السّلع الموجّهة للمضاربة، بالاستعانة بشركة سونلغاز لتحديد أماكن غرف التّبريد غير المعلنة عن طريق فواتير الكهرباء.