نادرة هي المصادر التي تعمقت في دراسة دور الفرد والعامل البشري في تطوير الدول والأمم أو العكس.
قلة من كتبوا عن الموضوع واعتبروا أن العوامل البشرية من المعالم الأساسية المؤثرة في مستقبل أي دولة أو أمة، نظراً لتأثر الإنتاج (المادي والمعنوي) بها.
نعني بالعوامل البشرية كل ما يتصل بالإنسان لأنه من وجهة نظر جغرافية واقتصادية والسياسية، العامل الأساسي، في النشاط الاقتصادي وبالتالي السياسي فالاجتماعي.
منذ مدة ونحن الجزائريون أصبحنا لا نعمل، وربما أحياناً نتقاعس عن العمل وفي فنية أخرى نعمل كرد فعل لغيرنا الذي يعمل.
وكنتيجة لذلك أصبحنا مستهلكين لكل شيء ولا ننتج شيئاً وأصبحنا مفعولاً به لا فاعلاً، وهذا هو ما أسميته (التخلف المستدام).
إنّ بناء الإنسان من شروط النهضة الأساسية، إذ لا تتكون الحضارة إلا إذا اجتمعت العناصر الثلاثة التي ربطها العلامة الجزائري مالك بن نبي في معادلة أساسها: الإنسان + التراب + الزمان = حضارة.
كما يرى أيضاً مالك بن نبي، أنّ المشاكل التي تحيط بالإنسان تختلف باختلاف بيئته، فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة، بل مشاكل متنوعة تبعاً لتنوع مراحل التاريخ.
لا يمكن لنا أن نوازن في الوقت الحاضر بين الفرد الغربي المستعمِر، والفرد الجزائري القابل للاستعمار والاستعباد، لأنّ كليهما في طور تاريخي خاص به، إذ تعود أزمة الفرد الجزائري أو حتى في العالم الإسلامي إلى ركوده وإلى العزوف عن الحركة والعمل، وارتضى لنفسه القعود عن السير في ركب التاريخ، ومنه أصبحت وضعية الفرد الجزائري في خمول تام، لا يبحث إلا عن الربح السريع والسهل من خلال الاحتيال والنصب.
بينما الفرد الأوروبي أو الغربي على نقيض ذلك، نجد أزمته تكمن في الحركة السريعة نتيجة تيار الإنتاج الصناعي المتسرع والمتطور، ما يجعله في توازن مضطرب جراء الحركة.
دعونا نركز حديثنا على الفرد الجزائري الحالي، لقد عرف جيل من المجتمع الجزائري عشرية سوداء وعشرين عاماً من التسلط والفساد السياسي والاقتصادي في معادلة قاتلة للقيم والأخلاق النبيلة كان قوامها المال الفاسد وتكريس الرداءة كنظام حكم.
طغت المادية على المجتمع الجزائري، في نسق معياري يسوده الانحطاط الأخلاقي، مما جعلت من العلم والقيم والأخلاق الحميدة منبوذة من طرف مجتمعٍ أسيرٍ في رغباته الفاحشة والفتاكة وأصبحت السبع الموبقات نظام حياة لدى المجتمع الجزائري.
بيّنت الأرقام الرسمية ارتفاعا كبيرا في نسبة وشدة الأحداث الإجرامية في الجزائر بمعدل 700 جريمة يومياً من اغتصاب وقتل وحرق للجثث.
كما تحتل الجزائر المرتبة 31 عالمياً في عدد المسجونين في المؤسسات العقابية، إضافةً إلى هروب الأُسَر الجزائرية من مسؤولية التربية، مما نتج عن ذلك تزايد في نسبة الطلاق إذ تشير التقارير أنّ كل 8 دقائق توجد حالة طلاق في الجزائر. فما سبل التحرر والخلاص من هذا الوضع؟..
يجيبنا العلامة الجزائري مالك بن نبي بضرورة التوجيه الثقافي والأخلاقي للفرد الجزائري، من خلال ضرورة تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الأخلاقي والاجتماعي الحالي، مما فيه من عوامل قاتلة ومعتقدات لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل والثقافة الحية الداعية إلى الحياة.
إنّ هذه التصفية لا تتأتى إلا بفكر جديد قائم على القيم والأخلاق الحميدة المستنبطة من ديننا الحنيف وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، نستطيع من خلاله تحطيم الوضع الحالي الموروث عن فترة تدهور مجتمعٍ أصبح يبحث بعد صحوة 22 فبراير 2019 عن وضع جديد، هو بناء الجزائر المنشودة، لكن العام والخاص يعلم أننا لن نتمكن من بناء الجزائر الجديدة إلا بعد بناء الفرد الجزائري الجديد.
لن يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها، هذه الجملة التي قال فيها شيخنا العلامة محمد البشير الإبراهيمي: إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها.
الجزائري الذي درس في الكتاتيب والزوايا وحفظ القرآن وتعلم التفسير والفقه، وتلقن المتون كالأجرومية وابن عاشر، هو الذي ثار على المستعمر الفرنسي الغاشم وحرر وطنه من بطش فرنسا الجائرة، فهذه المناهج والبرامج هي من أنشأت لنا فرداً جزائرياً متشبع بتراثه وراغباً في الحرية لأنه آمن على أنّ لا معبود بحق في هذه الحياة إلا الله.
إنّ المناهج والبرامج الحداثية وما بعد الحداثة المستعملة في التدريس اليوم برهنت أنها تُكرس في استمرارية التبعية والهيمنة وصناعة فرداً جزائرياً منهزماً نفسياً، من خلال ضرب علاقة الفرد الجزائري بخالقه والأخرى بطبيعة خلقته وحتى بموروثه ورموزه، إذ أصبحنا نشاهد ظواهر وآفات اجتماعية يندى لها الجبين.
أصبح الآن من الضروري أولاً تحرير المدرسة والجامعة من هذه المناهج والبرامج المستوردة والموروثة عن المستعمر، والتي بنت ولازالت تبني فرداً جزائرياً وظيفياً يعمل بإدراكه أو بدونه على استدامة التخلف واستمرارية التبعية.
د. يحي محمد لمين مستاك
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدّولية