ترتسم خلف المشهد الإنتخابي مؤشّرات تعكس قوّة التّحديات التي تلوح في الأفق، واضعة المسائل الاقتصادية بجوانبها الاستثمارية والإنتاجية والتسويقية مع قدرات بناء شراكات وطنية وأجنبية في ميزان المعادلة. وبعد ما ألحقته الصّدمة المالية الخارجية جرّاء انهيار أسعار النّفط والتّدمير الذي أحدثه الفساد، وكل ما انجرّ عن تداعيات وباء “كوفيد-19” تظهر فرص استعادة ديناميكية النمو، الذي لم يعد يحتمل مزيدا من الانتظار طالما أنّ الخروج من الأزمة المركّبة ليس في المنظور القريب، ممّا يتطلّب مضاعفة الجهود وتفعيل مفاتيح الأزمة.
بوادر انفراج تدريجي تحمل أملا بأن تستعيد الدّورة الاقتصادية حركيتها، والتّخلّص من هاجس الصّدمة باتجاه إطلاق جسور الإنعاش، من بينها الفتح الجزئي للحدود الجوية والبرية منذ الفاتح جوان 2021 موازاة مع توسيع نطاق التّلقيح ضد فيروس كورونا، ما يضع رؤساء المؤسّسات ورجال المال والأعمال (أصحاب مهنة الاستثمار وروّاد التّحدّي وليس قراصنة المشاريع وسماسرة الصّفقات) أمام امتحان يمكن تجاوزه بالنّظر للمناخ الايجابي، مثلما تشير إليه لوحة قيادة المسار الاقتصادي.
المهمّة ليست يسيرة بالتّأكيد، وهو ما سوف يواجهه المشرّع الجديد، الذي يكون أمام تحدٍّ مصيري بإنجاز الإصلاحات التّشريعية التي يعوّل عليها في الدّفع بعجلة الإصلاحات الهيكلية الحذرة، جوهرها تأمين الأمن المالي من بوّابة تهيئة مناخ أكثر انفتاحا للمبادرة الاستثمارية ضمن معالم الدّستور، بحيث يكون الهدف المحوري تنمية الموارد المالية من خلال تصحيح آليات الدّعم والمرافقة للمؤسّسات، معيارها تجسيد الأهداف التّنموية وفقا لخارطة الطّريق بعنوان التّخلّص من التّبعية للمحروقات، والرّفع من حجم التّصدير وإنشاء الثّروة بواسطة القيمة المضافة، التي تبقى الحلقة المتينة في معركة المنافسة.
غير أنّ المشهد يبقى يشوبه غموض إذا لم تتعزّز معركة التّصدير خارج النّفط مع الخطر المحدق باحتياطي الصّرف للعملة الصّعبة، الذي يغطّي حسب تقديرات، احتياجات لا تتعدّى 18 شهرا، ممّا يجعل القائمين على دواليب المنظومة الاقتصادية بجوانبها المالية في استنفار دائم لا يحتمل التّردّد، في وقت تشتد فيه معركة الأسواق الخارجية، خاصة تلك المتواجدة في القارّة السّمراء.
وجهة الأسواق الإفريقية خيار استراتيجي بالنّسبة للمؤسّسات الجزائرية في رحلة البحث عن مواقع مواتية للقدرات، تعطيها النّفس المطلوب في زمن عولمة شرسة أبانت عن أنيابها مبكّرا، لا تمنح فرصة لمنافستها. وبالطبع مسألة حيوية أيضا بالنّسبة للنّسيج المؤسّساتي الجزائري بكل روافده، وتنوّع فروعه التي تتوفّر على الحد الأدنى المطلوب للنّهوض من “كبوة” لا ينبغي أن تطول، فيتسرّب حينها “الصّدأ” إلى مفاصل المنظومة، وحينها تكون الكلفة باهظة بالتأكيد. لذلك فإنّ تجاوز المنعرج في وقت قياسي، وبأقل التكاليف أمر مهم يتطلّب امتلاك عزيمة والتّزوّد بالجرأة، والأكثر جدوى صياغة رؤية شاملة نابعة من صنّاع التغيير الاقتصادي ضمن الإستراتيجية الوطنية للانتقال إلى اقتصاد إنتاجي ومتنوّع حقيقي.
ينبغي توجيه العجلة نحو البوصلة الإفريقية التي عادت للاشتغال مجدّدا ترشد المؤسّسات وترافق المتعاملين، مثلما ظهر في الصّالون الإفريقي للاستيراد والتّصدير الذي انعقد في 24 ماي، وأنجز خطّة استكشافية باتجاه منطقة التّبادل الحرّ الإفريقية، التي دخلت حيّز العمل في جانفي 2021، وصادقت عليها 34 دولة إفريقية، لتكون حقيقة جسر عبور إلى العمق الإفريقي بالنسبة للمؤسّسات الجزائرية خاصة الصّغيرة والمتوسّطة والنّاشئة في الصّناعات التحويلية والصّناعة الغذائية نحو أسواق ناشئة في الجنوب، يقدّر الخبراء حجمها بما يعادل 3 آلاف مليار دولار ينبغي الفوز بحصص منها.
لكن الرّحلة إلى أدغال إفريقيا ليست سياحة بقدر ما هي مهمّة مصيرية تقتضي التزوّد بالأدوات التّنظيمية المناسبة، من بناء تكتّلات وطنية منسجمة تعطي القوّة للدخول إلى العمق الإفريقي، من بوّابات موريتانيا، مالي وليبيا، حاليا، وإرساء نظام للتبادل الرّقمي للمعطيات بتفعيل مندوبي التّمثيليات الاقتصادية الذين أعدّتهم الخارجية، وينبغي أن ينخرطوا في الميدان حتى لا يحدث انقطاع يزيد بلا ريب من الهوّة وانعكاساتها.
في هذا الإطار، فإنّ أسباب الفشل أو التّعثّر قليلة مقارنة بعوامل النجاح التي أعدّت لها العدّة على مستوى المنشآت القاعدية، أبرزها الطّريق العابر للصّحراء الذي يربط 5 دول ويتقدّم متحدّيا الرمال والجغرافيا، وميناء الوسط الذي استأنف مسار إنجازه ليكون في موعده ليعزّز موقع الاقتصاد الجزائري في الفضاء الإقليمي والجهوي، مقدّما المثال الملموس للشّراكة الوطنية الأجنبية القائمة على رؤية ذات جدوى قاعدته تقاسم الأعباء والمكاسب، مجسّدا أحد أوجه الشّراكة والتّعاون جنوب جنوب في مواجهة حسابات الشمال وابتزاز بعض أطرافه.
وإلى حين تحقيق تلك الخطوة العملاقة، وتوابلها قائمة (في انتظار انتشار بنوك جزائرية في عواصم ذات استقطاب) بما في ذلك اهتمام بلدان إفريقية عديدة بالمنتوجات الجزائرية، خاصة في الصّناعة الكهرومنزلية والإلكترونية التي تحتاج إلى مزيد من الاندماج لاكتساب مناعة صلبة، يبقى النّفط والصّناعة البترولية القلب النّابض للنمو في المدى القريب، وهو ما تُظهره الشّركة الوطنية للمحروقات “سوناطراك” رغم تعطّل مشاريع في السّوق الوطنية وفي الخارج، مثلما أوضحه مديرها العام توفيق حكار في الصّالون الـ 11 للطّاقات المتجدّدة والنّظيفة والتّنمية المستدامة (ايرا2021)، مشيرا إلى أنّ المؤسّسة أخذت المبادرة لإعطاء نفس جديد للاستثمار، الذي تأثّر حجمه بفعل جائحة “كوفيد-19″، علما أنّها فقدت حوالي 40 بالمائة من مداخيلها بسبب انهيار أسواق النّفط، الذي تأثّرت به كذلك كافة شركات الصّناعة البترولية، في انتظار انتعاش تشجّعه مؤشّرات تحسّن أسعار البرميل في الأشهر الأخيرة، وهو أمر إيجابي اللّحظة، ينبغي قراءة تفاصيله بحذر تفاديا “لمفاجآت” قد تقلب الحسابات رأسا على عقب.