من يتابع القضايا على المستوى الكلي التي يجري التّركيز عليها في دول العالم، والمنشغلين بالشّأن الاقتصادي وخبرائه، وخطاب السّاسة حول الأزمات المالية، الصّراعات العنيفة، الكوارث الطّبيعية والأوبئة، يسجّل أنّ الجزائر تعيش هي الأخرى تحت وطأة ضغوط مماثلة، وأنّ ملامح السياسات الاقتصادية والسياسات العامّة والقرارات الاستراتيجية بشكل عام، ما بعد هذه الضّغوطات والأزمات ومرحلة ما بعد جائحة كورونا، ستكون كما كانت قبلها.
في الوقت الذي لا يوجد خلاف على ضرورة التخلص من التبعية البترولية، وعلى عدم إضاعة هذه الفرصة التاريخية، وذلك بإجراء تغييرات جوهرية على أسس السياسات الاقتصادية. لقد ضاعت على البلاد فرص كثيرة، منها فرصة الأزمة الاقتصادية العالمية 2007 – 2008 وما تلاها، وضعت الإقتصاد الوطني على المحك، حيث نتج عنها تفاوت اقتصادي واجتماعي كبير، وفقر واسع، وبطالة مرتفعة خاصة في فئة حاملي الشّهادات الجامعية، ومحدودية نتائج سياسات التّشغيل، وغياب العدالة في الرّعاية الصحية، وفي شتّى الخدمات الاجتماعية والتّعليمية، إضافة لنوعيتها المحدودة.
لقد ظلّت السياسة الاقتصادية – بعد تداعيات الأزمة الصحية العالمية، وانخفاض كميات الإنتاج والتصدير النّفطي خلال السّنوات القليلة الماضية – تركّز على السياسات المالية والنّقدية التّقشّفية، بغرض تقليص الإنفاق العام بحوالي خمسين بالمئة، ووقف دعم بعض السّلع الأساسية، بعد الاعتماد المفرط على استيراد السلع والخدمات من الخارج وتجميد العديد من المشاريع، ولتخفيض عجز الموازنة العامة للدولة اتّخذت إجراءات تقشّفية موجعة أقرّتها الحكومة في قانون الميزانية التّكميلي الأخير.
تبدو البدائل المتاحة للجزائر خلال الأزمة الحالية محدودة للغاية، في ضوء التّبعية الريعية المفرطة التي يعانيها الاقتصاد، والمناهضة الشديدة لجل القوى السياسية لزيادة عرض النقود عن طريق طبعها كطريقة لتحفيز النّشاط الاقتصادي والنمو، خوفا من تأجج معدّلات التّضخم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى التّجربة المريرة التي عاشتها الجزائر نتيجة تأثير قوى المؤسّسات المالية الدولية (صندوق النّقد الدولي)، باعتباره اللاّعب الأساسي في رسم وتحديد السياسات الاقتصادية، على الدّول التي ترتبط معه باتّفاقيات برامج إعادة الهيكلة والتّكييف و”الإصلاح” المالي.
لقد مكّن الحراك من بدء عملية واسعة، اتّخذت سمة تطهير أوصال الاقتصاد والمؤسّسات من أدران الفساد، وذلك لبّى بعضا من مطالب الحراك، وخفّف جملة من الضّغوط على متّخذ القرار. لكن العملية لم تكتمل بعد، ويمكن أن تكون في حاجة لفترة زمنية أخرى، ذلك أنّ استعادة الأموال المنهوبة خاصة المحوّلة للخارج ليس بالأمر الهين، إذ دونه إشكاليات كثيرة قانونية وإجرائية.
المطلوب في الوقت الحالي انتهاز هذه الفرصة لإعادة بناء السياسات الاقتصادية، بحيث يعاد النّظر في السياسات الضّريبية لتصبح أكثر عدلا، تكون تصاعدية على الدّخل والثّروات، والتّخفيف من ضرائب الاستهلاك، وإعادة النّظر في سياسات الحماية الاجتماعية وتنظيم سياسات تشغيلية ناجعة، تحول دون وقوع المزيد من النّاس في دائرة الفقر، وتأخذ بعين الاعتبار توفير أجور عادلة كافية لحياة كريمة، والتّركيز الحقيقي على تطبيق معايير العمل اللاّئق، وتقديم الرّعاية الصحية الشّاملة وفرض تعليم عام بجودة عالية، وتطهير الكثير من المؤسّسات العامّة، لوقف هدر الأموال ونهبها، واستعادة الكثير من الإدارات التي تعرّضت لفساد كبير لجديتها ومصداقيتها، لاسيما الجمارك والضّرائب وأملاك الدولة، فضلا عن إدارات أخرى متعدّدة، وإنعاش نشاط المؤسّسات الاقتصادية بتحفيز فعاليتها وتنافسيتها.
ستتخطّى الجزائر أزمة انخفاض أسعار النّفط وتداعيات جائحة كورونا، بتقليص الأعباء الاجتماعية للأزمة، ولاسيما على الطّبقات الفقيرة والمتوسطة، وكذلك تخفيف الأعباء على الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة في الأمد القصير، والتي تشكّل ما يزيد على 89 % من النّسيج الاقتصادي للبلاد، وتنويع اقتصادها للقضاء على البطالة والتّفاوت في توزيع الدخل، وبناء مؤسّساتي جديد في الأمد الطّويل، يمكنه أن يمنح الجزائر “ترتيبا مؤسّساتيا” أكثر تلاؤما مع مستلزمات الجزائر الجديدة، ومع ضرورة تلبية جل مطالب الناس في التغيير، وهو ما من شأنه أن يوفّر فرصا إضافية لـ “استعادة الثّقة” والمبادرة بالاستثمار، وجلب رؤوس الأموال الأجنبية لتفجير ديناميكية اقتصادية جديدة متعدّدة الأبعاد.
ويظل السّؤال مشروعا حول مستوى مشاركة النّخب العلمية والسياسية ومؤسّسات البحث العلمي والتكنولوجي، باعتبارها الصّفوة، في صناعة القرار ورسم السياسات الاستراتيجية، وفي التّحول الدّيمقراطي والتأثير الإيجابي في عمليات التطوير الاجتماعي والإبداع والابتكار، والارتقاء في كل أشكال الإنتاج، إضافة للمساهمة في طرح الأفكار التي تساهم في إحداث التحول الإيجابي، خاصة في هذه المرحلة ما يدفع باتجاه عملية تنمية شاملة على كافة مستويات الحياة، وتجسيد عدالة اجتماعية نافعة، ومكافحة كل أشكال الظّلم والتّهميش.
إنّ كل ما سبق ذكره مشروط بالتّمسّك الصّارم بكل غايات وأهداف المشروع الوطني، وذلك غير ممكن من دون حبّ الوطن، ومن دون النّزاهة والكفاءة والاستعداد لخدمة الجزائريّين، وحماية مصالحهم الآنية والمستقبلية.
تلك بعض شروط انطلاقة اقتصادية جديدة، وتلك شروط تحقيق انتعاش اقتصادي دائم، وتلك بعض شروط استكمال إنجاز المشروع الوطني النّوفمبري.