يشهد العالم اليوم تطورا متسارعا في تكنولوجيات المعلومات والاتصال أدى إلى قيام اقتصاد جديد يعتمد على التكنولوجيا والتقنيات الرقمية، وهوما أحدث تأثيرات كبيرة مست كل جوانب الحياة وأدت إلى تغيير هيكل الاقتصاد العالمي، والمفاهيم الاقتصادية العالمية التقليدية، لاسيما تعريف الموارد الاقتصادية وكيفية استخدامها في ضوء التحديات الاقتصادية والاجتماعية القائمة.
لقد صار الاقتصاد الرقمي في العصر الحالي أساس تحقيق التنمية الاقتصادية وأهم محرك للنمو الاقتصادي. وقد حاول العديد من الاقتصاديين دارسة أثر التقدم التكنولوجي على النمو الاقتصادي، والبداية كانت مع “Robert Solow” الذي أثبت أن النمو الاقتصادي يخضع بشكل كبير للتقدم التكنولوجي، واعتبره متغيراً خارجياً، أما الاقتصادي “Paul Romer” فقد خرج عن إطار النموذج النيوكلاسكي بإضافة متغيرين داخليين هما رأس المال البشري ومعدل التكنولوجيا واللذان اعتبرهما أهم العوامل المفسرة للنمو الاقتصاد.
وكنتيجة لهذه الدراسات والانفجار المعرفي وبروز مجتمع المعلومات والمعرفة، انتشر وعياً متزايداً في جميع دول العالم بأهمية التحول نحو الاقتصاد الرقمي بسبب ما يوفره من فرص جديدة لتحقيق نمو اقتصادي مستقر ومستدام، وما له من انعكاسات ايجابية في تحسين معيشة الأفراد وتوفير فرص عمل ومعالجة الفقر والحد من عدم المساواة، وتيسير توصيل السلع والخدمات والوصول بالمجتمع لتحقيق الرفاهية والازدهار المنشودين.
الاقتصاد الرقمي جزء من اقتصاد المعرفة
يمكن القول إن الاقتصاد الجديد نشأ نتيجة التداخل الكبير بين مجموعة من المصطلحات، والتي تدل على مفاهيم مختلفة، ولكنها تشترك كلها في الجوهر باعتبارها تتجه نحو اقتصاد غير تقليدي، وقد أطلق عليه العديد من التسميات: “الاقتصاد القائم على المعرفة” و”الاقتصاد بلا حدود” و”الاقتصاد الخالي من الوزن ” و”الاقتصاد الشبكي” و”الاقتصاد الرقمي” و”الاقتصاد القائم على لمعلومات” وغيرها من التسميات، والتي تعني في مجملها أننا في مرحلة اقتصاد جديد معرفي رقمي يقوم على التكنولوجيات المتطورة، ويحول العالم إلى كوكب رقمي متصل.
اقتصاد المعرفة: Knowledge Economy
يعتبر الاقتصادي Peter Drucker أول من استعمل مصطلح اقتصاد المعرفة سنه 1969، والعديد من المصطلحات
الجديدة كعمال المعرفة، ومجتمع المعرفة، حيث اعتبر أن الاقتصاد الجديد يقوم على صناعة المعرفة التي ترتكز بدورها على إنتاج وتوزيع الأفكار والمعلومات بدلاً من السلع والخدمات، جعل مجتمع المعرفة أكثر إنتاجية وفعالية، وباختصار يمكن القول إن مصطلح اقتصاد المعرفة يشير إلى اثنين على الأقل من الخصائص المفترضة للاقتصاد الجديد، أولا: أن تكون المعرفة أكثر أهمية من الناحية الكمية والنوعية من ذي قبل، وثانياً: اعتبار تطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات محفزات للاقتصاد الجديد.
ويعرف اقتصاد المعرفة حسب البرنامج المعرفي للأمم المتحدة الإنمائي لسنة 2003 بأنه: نشر المعرفة وانتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي، الاقتصاد، والمجتمع المدني، والسياسة أو الحياة الخاصة، وصولاً إلى ترقية الحالة الانسانية باطراد، أي اقامة التنمية الانسانية ”
الحديث عن اقتصاد المعرفة يقوم على التمييز والتحديد الدقيق بين المعرفة والمعلومات والبيانات، فالمعرفة شكل من أشكال رأس المال البشري وإنتاج المعرفة يقوم ويعتمد على تحليل وتطبيق ومعالجة المعلومات، وبدوره يتم إنتاج المعلومات في إطار توجيه المعرفة والوعي والمفاهيم في مجال معين.
الاقتصاد الرقمي (Digital Economy):
يعرّف أنه الاقتصاد الذي یوظف التقنیات الرقمیة في تطویر الأنشطة الاقتصادیة والاجتماعیة من خلال زیادة كفاءة إنتاج السلع وإنجاز الخدمات وتحسین نوعیتها وتوفیر فرص لخلق سلاسل قیمة جدیدة وزیادة رفاه الفرد. ویُعرّف التحول الرقمي على أنه التحول إلى اقتصاد رقمي أي اقتصاد يتعامل مع البیانات الرقمیة، الزبائن الرقميين والشركات الرقمية، التكنولوجيا الرقمية )مثل تكنولوجيا الاتصال عن بعد، الوسائط المتعددة والتكنولوجيا الخلوية والحوسبة(، والمنتجات الرقمية) قواعد مستودعات البيانات، البرمجيات، كتب ودوريات الوَيب، الألعاب الإلكترونية، والموسيقى على الوَيب( بالإضافة إلى المنتجات المادية المزودة بالمعالجات المصغرة وقدرات التشبيك
وخلاصة القول أن الاقتصاد الرقمي هو ذلك الجزء من الاقتصاد المعرفي الذي يختص بتقنيات المعلومات، التي تعرف أيضا بالتقنيات الرقمية. وعلى ذلك فإن تعبير )اقتصاد المعرفة( يستوعب في مضمونه تعبير )الاقتصاد الرقمي(، بمعنى أن اقتصاد المعرفة يتمتع بمدى أوسع، ومع ذلك فإن )اقتصاد المعرفة( بمفهومه المعاصر لا يتحقق من دون التقنيات الرقمية، أي من دون الاقتصاد الرقمي، فهذا الاقتصاد يمثل قاعدة رئيسية لاقتصاد المعرفة ، ولهذا يمكن القول إن هناك تداخلاً كبيراً بين اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي، مما ينتج عنه صعوبة كبيرة في التفرقة بين المفهومين.
موارد لا تنضب
یحتل تطویر الاقتصاد الرقمي مرتبة عالیة في سُلم أولویات صانعي القرار في مختلف دول العالم المتقدمة والنامیة، ووفق الدراسات العالمية فإن الاقتصاد الرقمي لم يعد يشكل المورد الاقتصادي الأهم وحسب، بل سيزداد أهمية في المستقبل القريب. فعلى عكس الموارد الاقتصادية التقليدية، التي تتسم بالندرة أحياناً أو النضوب مثل الذهب والنفط والمياه والزراعة، يعتمد الاقتصاد الرقمي على المعرفة الإنسانية غير المعرضة للنضوب والتي تعتبر مكمن ومحور الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الحالية، ولعل ازدهار العديد من الدول مثل دول شرق آسيا كسنغافورة وماليزيا، والتي صارت تمتلك اقتصادا رقميا شبه كامل وذو مستوى عال من التطور، خير مثال على ذلك، مما جعلها تحتل المراتب الأولى في العديد من المؤشرات العالمية.
إن نجاح تطبيقات الاقتصاد الرقمي، مثل التجارة الالكترونية، التي تمثل واحد من موضوعات الاقتصاد الرقمي، جعله يقوم على حقيقتين: التجارة الالكترونية وتقنية المعلومات. وتعتبر كل من الولايات المتحدة، اليابان وأوروبا الأكثر تطورا في هذا المجال، وذلك بفضل زيادة الاستثمارات المباشرة في تكنولوجيا الاتصالات وتقنية المعلومات، بالإضافة إلى النمو السريع للإنترنت الذي سمح بتقديم العمليات التجارية في العالم بصورة تفوق توقعات العملاء والمستهلكين وقدرتها على خفض التكاليف والأسعار وجعل الأعمال التجارية أكثر كفاءة، بما في ذلك تسريع النمو وخفض التضخم وربط الشركات ببعضها البعض عبر المعاملات بالأنترنت،
وتحقيق وفرات كبيرة في التكلفة بين الشركات من خلال الصناعة التحويلية والتوريدات الصناعية والخدمات الذي تترجم إلى زيادة سرعة نمو الانتاجية مما يدعم الزيادة المستدامة في الناتج المحلي الإجمالي.
إن تقنية المعلومات أو صناعة المعلومات في عصر الحوسبة والاتصال هي التي أنتجت الوجود الواقعي والحقيقي للتجارة الالكترونية، باعتبارها تعتمد على الحوسبة والاتصال ومختلف الوسائل التقنية وسمحت بظهور الحكومة الالكترونية، وهي عبارة عن تشكيلة من المجهودات التي يقصد منها استخدام التكنولوجيا الحديثة لدعم عمليات التحول أو التغيير في العمل الحكومي وأدائه. إن قيام وإقامة الحكومة الالكترونية لا يتوقف على شراء الكمبيوترات أو بناء مواقع للمعلومات، إنها عملية تحول في العلاقة بين الحكومة والمواطنين من خلال تقديم الخدمات الحكومية باستخدام التقنية الإلكترونية والتي تسمح بانتقال تقديم الخدمات العامة في جميع القطاعات، (الصحة ، التعليم ، النقل…) والمعاملات من شكلها الروتيني التقليدي إلى الشكل الإلكتروني عبر الإنترنت وغيرها، وهي تعتبر خطوة أساسية في تعزيز التحول الرقمي الذي يعتمد على دمج تكنولوجيا المعلومات في كل القطاعات حتى تصبح المعاملات الالكترونية أساس المعاملات اليومية، سواء بين الأفراد أو بينهم وبين الشركات أو في ادارة وتسيير عمل الحكومة وأداء أعمالها على المستوى الداخلي والخارجي من دون حاجة طالب الخدمة إلى التنقل إلى أي إدارة حكومية.
وحسب ما تشير إليه الدراسات فإن العائد من تبني الاقتصاد الرقمي لن يقف فقط عند معالجة التحديات والمشكلات الحالية والمتمثلة في استنزاف الاعتماد على الموارد الطبيعية، والبطالة، والكفاءة والفاعلية الحكومية، وإنشاء وظائف جديدة وغيرها ، ولكنه سيساهم في تحسين القدرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة
الاقتصاد الرقمي… صعوبات وتحديات:
منذ تسعینيات القرن الماضي يشهد العالم فترة من التغیرات الجذریة والتحولات التقنیة العمیقة مدفوعة بثورة في مجال تقنیات المعلومات والاتصالات ليعيش حالیا حقبة أُطلق عليها حقبة الثورة الصناعیة الرابعة، ليواجه من خلالها تحديات كبيرة رقمية جديدة، وفي الوقت الذي تدرس فيه العديد من دول العالم وخاصة النامية، منها امكانية التحول إلى الاقتصاد الرقمي، فالعالم المتقدم قطع أشواط كبيرة في طريقه إلى بناء مجتمع قائم على المعرفة، مما خلق تحديات كبيرة بالنسبة للدول المتخلفة عن التحول الرقمي، وتعتبر أهم هذه التحديات في تخطي الصعوبات المطروحة أمام الدول النامية في سبيل سعيها للتحول نحو الاقتصاد الرقمي أبرزها :
الفجوة الرقمية والصراع نحو البقاء
- الفجوة الرقمية: تتسع يوماً بعد يوم بين العالم المتقدم والنامي بسبب الاختلافات الكبيرة في القدرة على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والوصول إليها ((ITC واستخدامهم للأنترنت، والوصول والى وسائل الإعلام التي يمكن أن تستخدمها مختلف شرائح المجتمع.
محو الأمية الرقمية، الخيار الاستراتيجي لتحول نحو البيئة الرقمية
تعتبر أحد افرازات التحول نحو الاقتصاد الرقمي، فاليوم يجب أن يتمتع الفرد بمجموعة من المهارات والكفاءات الرقمية للعيش والتفاعل في المجتمع، وانعدام هذه المهارات يؤدي إلى انتشار أمية جديدة تختلف عن الأمية التقليدية، وأكثر تعقيداً منها باعتبارها تحتاج إلى نظام تعليمي واستراتيجيات خاصة تتماشى مع التطور التكنولوجي المتسارع، وبالتالي تمثل الأمية الرقمية أحد أكبر التحديات الناتجة عن التحول نحو الاقتصاد الرقمي بالنسبة للبلدان النامية، حيث تؤدي إلى زيادة الفجوة الرقمية من خلال عدم قدرة الأفراد على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتي تؤدي بدورها إلى ارتفاع نسبة البطالة في المستقبل بسبب تغير هيكل ومتطلبات سوق العمل في العصر الرقمي.
الكفاءة الرقمية ودينامكية البيئة الرقمية
يعتبر توفير الكفاءة الرقمية من أهم المتطلبات للتصدي لتحديات الاقتصاد الرقمي، ومحاربة الأمية الرقمية من خلال توفير الكفاءات اللازمة والأساسية لجميع الأفراد، ويتم ذلك من خلال تعليم الكفاءات والمهارات الرقمية في مختلف المدارس والجامعات اللازمة في العصر الرقمي، وفي الوقت الحاضر، يعتمد الحضور الرقمي على المعرفة والمهارات والمواقف أكثر من الاعتماد على الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واستخدامها فقط، وعدم وجود الكفاءات الرقمية اللازمة له عواقب مباشرة على التوظيف، ففي الاتحاد الأوروبي 42 % من الأشخاص الذين لا يمتلكون مهارات الكمبيوتر الأساسية غير نشطين في سوق العمل.
ووفقا لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مكان العمل مطلوبة الآن في جميع الوظائف، فمن المحتمل أن يكون للمهرات الرقمية الغير كافية تأثير سلبي على قدرة المستخدمين على العمل، وتظهر بيانات الاتحاد الأوروبي أن 169 مليون أوروبي.( 44%) و86 مليون شخص في قوة العمل الأوروبية ( 37 %) ليس لديهم المهارات الرقمية الكافية، وحسب المفوضية الأوروبية تم تجميع الكفاءات الرقمية في خمسة مجالات تتمثل في: محو أمية المعلومات والبيانات، التواصل والتعاون، وانشاء المحتوى الرقمي، السلامة وحل المشكلات.
خطر البطالة وعدالة توزيع الدخل … العمالة ضحية:
على الرغم من مميزات الاقتصاد الرقمي لكن صناعة المعلوماتية برزت كتهديد كبير للعمالة والتشغيل بسبب قلة حاجتها لعمالة كثيفة، نظرا لقدرتها الفائقة على توفير الوقت والجهد خلال الإنتاج، ويؤدي التحول الرقمي إلى تغيير هيكلي في سوق العمل وطبيعة العمل، وهناك مخاوف من أن تؤثر هذه التغيرات على ظروف التوظيف ومستوياته وتوزيع الدخل كما يتوقع أن يكون للرّقمنة المتزايدة آثار عميقة على نوعية الوظائف الموجودة في الوقت الحالي، ومهن جديدة في مختلف القطاعات، بما في ذلك إنتاج سلع وخدمات جديدة أو منتجات قائمة تستجيب للطلب المتزايد.
ومن المتوقع أن ينمو الطلب على العمل في مجالات مثل تحليل البيانات والبرمجيات والتطبيقات والشبكات والذكاء الاصطناعي، وتصميم وإنتاج آلات ذكية جديدة، والروبوتات.
وفي هذا الاطار توقع خبراء المنتدى الاقتصادي العالمي، أن يفقد نحو5 ملايين شخص في العالم وظائفهم التقليدية بحلول سنة 2020، بسبب إحلال التقنية والذكاء الصناعي محل اليد العاملة، مع ظهور وظائف جديدة متعلقة بالكمبيوتر والبرمجيات، بالإضافة إلى تقليص فرص العمل بنسبة %50 تمس الفئات المتوسطة والدنيا من الأيدي العاملة وأمام الارتفاع الكبير في معدلات البطالة في البلدان النامية، فإن تحولها الرقمي إذا لم يتم الارتقاء برأس المال البشري سيؤدي إلى تفاقم أوضاعها الاقتصادية، وبالتالي قبل تقرير التحول لابد من بناء الأساس المتين لنجاح هذا التحول.
تهديدات العالم الافتراضي
تعتبر الثقة في المعاملات التي تتم في العالم الافتراضي أهم تحدي لتسهيل عملية التحول الرقمي، وفي هذا الاطار يواجه الاقتصاد الرقمي العديد من المخاطر الناتجة عن صعوبة التحكم في المعاملات الرقمية، وتعرضها للعديد من الاحتيال والقرصنة واستخدام المعلومات الشخصية في التجارة الإلكترونية، وأدى انتشار تقنيات المراقبة الشاملة في السوق إلى انتهاك الخصوصية التي تتعدى حماية البيانات الشخصية على الإنترنت إلى ما هو أعمق، من خلال ضمان الحريات الأساسية للمواطنين في العالم الافتراضي، وظهور الحرب السيبرانية كإحدى العناصر المؤثرة في السياسة والإقتصاد على الصعيد الدولي نتيجة انتقال جزء كبير من الصراعات بين القوى العظمى في العالم، إلى شبكة الإنترنت والوسط الرقمي، لذلك من الضروري التشديد على تطوير الأمن السيبراني الفعال.