مسألة الأمن الغذائي تفرض نفسها قضية وطنية وعالمية، بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية، وفي كل مرحلة تدخل عوامل جديدة تساهم إمّا في تحسين أو مفاقمة تحديات الأمن الغذائي، كما هو الحال اليوم مع ما يشهده العالم من تحديات النّزاعات وتغيّر المناخ.
لخضر مداني أستاذ محاضر
جامعة البويرة
(الجزء الأوّل)
كما لا تزال الجهود لتدارك هذه التّحوّلات والتّكيّف معها مستمرّة، إذ من المقرّر خلال سنة 2021 عقد مؤتمر القمّة الأول للأمم المتحدة بشأن النّظم الغذائية، لبحث مستقبلها وإدارتها على نحو أفضل لتحقيق تقدّم اتجاه أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، ونسوق هذا الحدث للتّأكيد على القناعة بأهمية المنظور الشّامل للأمن الغذائي وارتباطه بطبيعة النّظام الغذائي ذاته؛ باعتباره مجموعة الأنشطة والعلاقات التي تتفاعل لتحديد ما يُنتَج من الغذاء، وكمية الإنتاج، وطريقة الإنتاج، ولمن ينتج الغذاء ويوزّع، من جهة، وتداخل عدّة أبعاد -على اختلاف أوزانها وأهميتها النّسبية – في التأثير على مستوى الأمن الغذائي.
ولذلك تتزايد أهمية التّحليل الشّامل لجميع النشاطات السابقة واللاّحقة للزراعة؛ ورصد وتقييم مختلف الأدوار التي تلعبها الأطّراف الفاعلة (المزارعون، الصّناعيّون، المستهلكون) بمتابعة تطوّر مستويات الإنتاج الزراعي، ومكانة وأداء الصّناعات الزّراعية الغذائية، ومستويات وأنماط الاستهلاك الغذائي، ووفرة وأداء الهياكل الأساسية (التّخزين، النّقل، المعلومات المتعلّقة بإنتاج المحاصيل الغذائية وأسعارها)، وحجم وهيكل المبادلات التجارية للمنتجات الزراعية الغذائية، وتدفّقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالقطاع الزّراعي-الغذائي، واستقرار الأسواق العالمية للأغذية.
رهانات تحقيق الأمن الغذائي
يبقى السّؤال مشروعاً عمّا إذا أصبح خيار الأمن الغذائي عبر الاعتماد الذاتي بدل الاكتفاء الذاتي خياراً استراتيجيّا أمثلا؛ في ظل اضطرابات الأسواق العالمية، أمام رهانات عدّة لا تزال قائمة، وأخرى مستجدّة تؤثّر على متطلّبات تحقيق الأمن الغذائي حسب مقاربة “الفاو” والبنك الدولي، ومنها:
ظاهرة التّركز في النّظام الغذائي العالمي؛ التي تشهد حركية كبيرة، من خلال عولمة مصادر التموين بتدويل المؤسسات الكبرى، وتوسّع المشاركة في السلاسل العالمية للقيمة بالتنسيق بين المشترين وشركات التوزيع الواسع، وتوسّع التجارة لتبادل المنتجات الوسيطية والخدمات ضمن شبكة تتقاسم الإنتاج ويرتبط فيها الموردون والمشترون في قطاع الزّراعة والصّناعات الغذائية (Agro- alimentaire) بعلاقات تجارية طويلة الأمد أو من خلال هياكل ملكية مشتركة، وتركّز في جميع حلقاتها من المدخلات الزّراعية (الأسمدة والبذور)، إلى الإنتاج، التحويل والتجهيز الصناعي، التوزيع، الإطعام السريع والمساحات التجارية الكبرى، إلى البيع بالتجزئة للمنتجات الغذائية.
الوضع غير التنافسي وبروز الطّابع الاحتكاري للأسواق الزراعية العالمية؛ نتيجة الهيمنة السوقية للشركات متعدّدة الجنسيات على مستلزمات المنتجات الزّراعية، والمنتجات الزراعية الخام والمنتجات الزراعية الغذائية المحوّلة، والتي سمحت لها بالتحكم في مراقبة حلقات السلسلة بأكملها، كالتحكم في مواصفات المنتجات وتصنيعها وتسويقها، وتنامي المضاربة في بورصات السلع الغذائية الأساسية، وأحدثت تشوّهات في الأسعار؛ أهمها عدم انتقال مكاسب الأسعار إلى المزارعين والمستهلكين؛ وذلك ما يجعل من السعر المرجعي العالمي غائبا في السوق العالمي للغذاء، الأمر الذي شكّل ولا يزال مبرراً للتدخل الحكومي في هذه السوق عبر المؤسسات التجارية الحكومية للمنتجات الزراعية وبصفة خاصة المنتجات الأساسية.
عقبات أمام إدماج الزراعة في النظام التجاري العالمي؛ لا تزال جملة من القيود تحول دون المسار التحريري للتجارة الزراعية الغذائية، وتعود في بعضها لخصوصية الزراعة كنشاط اقتصادي له أهميته العميقة بأبعادها الاجتماعية والسياسية وحتى الجيو-سياسية، وتعقيد تحقيق التوازن الداخلي لسوق الغذاء على مستوى السوق المحلي، وترجع أخرى إلى التشوه الذي تعرفه سوق الغذاء، والسياسات التدخلية الحكومية، وهيكل الأسواق المعروف بالمنافسة غير التامة.
تنامي مخاطر الاعتماد على التجارة في الإمداد بالغذاء؛ أمام تواتر الأزمات العالمية ذات الأثر على التبادل التجاري للمنتجات الغذائية؛ وما نتج عنها من عدم استقرار الإمدادات والأسعار في السوق العالمية، خاصة بعد الأزمة الغذائية العالمية 2007، والأزمة الصحية العالمية (2020) الناجمة عن تفشي وباء COVID 19.
ويمكن أن نقرأ درسا من التحديات التي أبرزتها الأزمة الغذائية العالمية (ارتفاع أسعار السلع الغذائية في 2008)؛ والمتمثل في محدودية المبادلات في أسواق الحبوب الغذائية في العالم، إذ لا يدخل إلا جزء ضئيل من الإنتاج العالمي إلى الأسواق الدولية، فصادرات القمح – على سبيل المثال – لا تمثل سوى أقل من خمس (5/1) الإنتاج العالمي للقمح، فضلاً عن سيطرة ستة بلدان على جانب العرض، حيث تشكّل معاً ثلاثة أرباع صادرات القمح في العالم، الأمر الذي يؤدي إلى تقلبات الأسواق، مع تسارع الاضطرابات الجيو-سياسية (روسيا، أوكرانيا، سوريا..)؛ ويضاعف – بالتالي – من مخاطر الدول المعتمدة على الأسواق الدولية للحصول على الغذاء.
خلفت الأزمة الصحية العالمية (2020) والتدابير المرتبطة بها وخاصة تدابير الإغلاق صدمة في الاقتصاد الكلي، وتعطّلا في سلاسل الإمداد الغذائي (انقطاعات في خدمات النقل والخدمات اللوجيستية)؛ ممّا أدى لزيادة التكاليف خاصة الإنتاج والتوزيع، والتأثير القوي على طلب المنتجات الغذائية ذات القيمة الأعلى، وتخفيض اليد العاملة المتاحة، وسيكون لذلك – حتما – تأثيرات على مستويات الأمن الغذائي، وبدرجة أكثر حدة في البلدان النامية، التي تتميز أنظمتها الغذائية بكثافة في العمالة، وضعف تطور سلاسل الإمداد الغذائي، ومفاقمة أزمة الفقر. إلاّ أنّ مستوى التأثير لهذه الأزمة على الإنتاج الزراعي وسلاسل الإمداد سيبقى مرتبطا بمدى استجابات السياسات الوطنية والدولية على المديين المتوسّط والطّويل.
مخاطر تبعية البلدان المستوردة للأغذية
تعيش هذه الدول وضعية حرجة جرّاء تبعيتها للواردات في تغطية احتياجاتها من الأغذية، وذلك مقابل معدلات نمو سكاني مرتفع، وضعف الإنتاج الزراعي المحلي مع نقص الأراضي الصالحة للزراعة والموارد المائية؛ وكلّها تحديات ستجعل من اعتمادها على الواردات الغذائية مرشّحا للزّيادة، وفي أحسن الأحوال يستمر عند مستوياته الحالية في المستقبل المنظور، ما لم تتداركه باستراتيجية عميقة وتحرّك فاعل لتحسين مستويات أمنها الغذائي.
كما سيتأثّر تأمين الاحتياجات الاستهلاكية عبر الواردات، إذا شهد العالم أزمة جديدة لارتفاع أسعار الغذاء لمستويات عالية، ذلك مع تراجع المخزونات الإستراتيجية الغذائية للدول، وتوافق ذلك مع انخفاض أسعار الطّاقة، ما يزيد من مضاعفة الأثر على الدول المنتجة والمصدّرة للنّفط، تزامن حالة تراجع العائدات النفطية وارتفاع أسعار الغذاء.
وللتذكير، كان الاكتفاء الذاتي الغذائي في المنتجات الأساسية عنصرا مركزيا في السياسات الزراعية في بعض البلدان (سوريا، إيران، الجزائر وتونس)، ولكن بعد برامج الإصلاح الهيكلي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بدأت السياسات الزراعية تتّجه أكثر للمزايا النّسبية في تخطيط وتصميم سياسات الزراعية الغذائية، وتأمين الاحتياجات الغذائية عبر الواردات. ولكن أزمة أسعار الغذاء 2007-2008 وعدم الاستقرار السياسي الذي أعقب ذلك منذ عام 2011، زادت مخاوف الحكومات وأدّت إلى إحياء الاتجاه إلى الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الأساسية كعنصر مركزي في السياسات الزراعية والتجارية.
محدّدات الأمن الغذائي
يتطلّب التّحديد الواقعي لمدى قرب أو بعد أي دولة من تحقيق أمنها الغذائي إلى تقدير مختلف العناصر المؤثّرة على الأمن الغذائي، كالموارد الزراعية والإنتاج الزراعي والتجارة الخارجية والتخزين والأسعار والسياسة الاقتصادية والغذائية والاستهلاك الغذائي والمناخ السياسي السائد في المنطقة والعالم.
وقد وضعت منظمة FAO في إطار تقدير الأمن الغذائي أربع محاور رئيسية:
– كفاية الإمدادات الغذائية (Availability)؛
– استقرار الإمدادات الغذائية (Stability)؛
– القدرة على الحصول على الأغذية (Accessibility)؛
– نوعية وسلامة الأغذية، والأمن التغذوي (Food safety, Nutrition security).
A المحدّد الأول: كفاية الإمدادات الغذائية: أي إتاحة الغذاء وكفاية المعروض منه من حيث الكم والنوع، ويشمل المتاح للاستهلاك الغذائي صافي الإنتاج المحلي
وتغيّرات الواردات والصادرات من المنتجات الزراعية الغذائية (تعمد إلى استيراد ما تعجز عن إنتاجه بتكلفة مناسبة، كما يمكن لها تصدير الفائض من إنتاجها)، ويضاف لها تغيرات المخزون زيادة أو نقصاً.
وفي هذا الإطار نذكر ثلاثة عوامل تؤثّر على إتاحة الغذاء، وهي طاقة الدول الإنتاجية، القدرة على الاستيراد وكفاءة الأنظمة التسويقية.
المحدّد الثاني: إمكانيات الحصول على الغذاء واستدامته: أي مدى توفّر فرص حصول الأفراد على التغذية من الناحيتين المادية والاقتصادية، ويقاس بتحليل العوامل المؤثّرة كأسعار السلع الغذائية، مستويات الدخل الفردي، النمو السكاني، نمو الإنتاج الغذائي، الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي، سياسات توزيع الغذاء وتشريعات وأنظمة نقل وتداول الأغذية. ويتم تقدير ذلك بجملة من المؤشّرات المتعلّقة بالمداخيل، كمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي، ومتوسط الدخل الحقيقي للأفراد، والمؤشّرات المتعلقة بالأسعار ومستوياتها (التضخم).
المحدّد الثالث: استقرار إمدادات الغذاء: يتمثّل استقرار إمدادات الغذاء في استدامة إتاحة غذاء آمن، والقدرة على الوصول إليه دون التعرض للتقلبات أو الأزمات، وضمان استقرار المعروض منه من موسم لآخر ومن عام لآخر، وخاصة في أوقات الطوارئ والظروف المناخية غير المواتية. وأهم عامل في ذلك هو توفير مخزون استراتيجي مناسب يكفي لفترات لا تقل عن 3-6 أشهر، هذا ما يتطلّب تطوير إدارة المشتريات والعقود والبروتوكولات التجارية لتوريد السلع الغذائية الرئيسية، وتطوير نظم المخزون الاستراتيجي من السلع الغذائية.
المحدّد الرّابع: السّلامة الغذائية والجودة: يجمع تعريف “الفاو” بين البعدين الاقتصادي والتغذوي بصورة متكاملة، حيث يضيف التعريف شروط “الغذاء الصحي” للمسائل المتعلقة بالشروط الاقتصادية للحصول على الغذاء الكافي (أسعار المنتجات ودخل الأسرة)، وذلك بتحقيق “السلامة الغذائية” عبر المعايير الضرورية للغذاء الآمن، وملاءمته للاستهلاك على طول السلسلة الغذائية، وتوفير الوجبات المغذية (من حيث السعرات الحرارية: معدلات استهلاك الفرد من مكونات الطاقة، البروتين والدهون). وتقاس بمتوسط نصيب الفرد من السلع الغذائية النباتية والمنتجات الحيوانية والسمكية.
كما يتطلّب معيار السّلامة الغذائية الاهتمام بالعديد من العوامل (صحة الأطفال، ومدى توفّر الماء النّظيف والصرف الصحي، والحصول على القدر المناسب من البروتين والطاقة والعناصر الغذائية الصغرى والمعادن لكل أفراد الأسرة). وتوفير الشّروط التشريعية والتنظيمية لتطبيق معايير الصحة، والتوعية والإرشاد لزيادة الوعي الصحي لدى المواطنين، تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في هذا الإطار. ويقاس الأمن التغذوي بتحديد عدد ناقصي التغذية، ووضعت لذلك مؤشرات (عدد من يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم / بأقل من دولارين في اليوم).
المشهد العالمي للأمن الغذائي في 2020
تتابع منظمة الأغذية والزراعة بصفة دورية حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم، وتصدر تقريرها السّنوي الذي يشير في هذا الصدد، أنّ عدد الذين يعانون من نقص التغذية في العالم يزداد (ليصل إلى ما يقدّر بـ 821 مليون في عام 2018)، في عام 2019، كان نحو 750 مليون نسمة – أي شخص واحد من أصل 10 أشخاص في العالم – عرضة لمستويات خطرة من انعدام الأمن الغذائي، وحوالي 690 مليون شخص يعانون الجوع، أي ما يعادل نسبة 9.8 % من سكان العالم، بارتفاع قدره 10 مليون نسمة في غضون سنة واحدة، وبحدود 60 مليون نسمة خلال خمس سنوات، كما يعجز أكثر من 5.1 مليار نسمة عن تحمل كلفة نمط غذائي يلبّي المستويات اللازمة من المغذيات الأساسية، وأكثر من 3 مليار نسمة عاجزون حتى عن تأمين أزهد الأنماط الغذائية الصحية.
وإذا ما استمرّت الاتجاهات الأخيرة على حالها، فإنّ عدد الجياع سيتخطّى عتبة 840 مليون نسمة بحلول عام 2030، ويشير تقييم أولي إلى أنّ جائحة “كوفيد-19” قد تؤدّي إلى إضافة 83 إلى 132 مليون شخص للعدد الإجمالي للذين يعانون من النقص التغذوي عالميا سنة 2020.
ورغم الوصول إلى قناعات دولية تؤكّد أنّ الأنماط الغذائية الصحية تؤدّي لتخفيض التكاليف الصحية المباشرة وغير المباشرة بنسبة تصل إلى 97 %، يبقى الوصول إلى هذه الأنماط غير ميسور الكلفة بالنسبة للعديد من الناس ولا سيما الفقراء، بحيث لا يستطيع 3 مليارات نسمة دفع كلفة تلك الأنماط الغذائية الصحية؛ ولا تزال الاحتياجات التغذية تلبى من الطاقة عبر أغذية أساسية نشوية (غير صحية)
ولذلك يتعيّن على البلدان تبنّي سياسات تستهدف الأنماط الغذائية الصحية، بتشجيع تغيير السّلوك الاستهلاكي، والسياسات الزّراعية والحوافز باتجاه الاستثمارات الزراعية، واعتماد سياسات الحماية الاجتماعية لزيادة القدرة الشرائية، وتمكين الشرائح السكانية الأكثر ضعفا من تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية.
ولكن التحول نحو اتباع نظام غذائي أكثر صحية، بالحد من استهلاك الحبوب والزيت وزيادة استهلاك البروتين من اللحوم ومنتجات الألبان قد يؤدي إلى زيادة الاعتماد على التجارة، ليس فقط لاستيراد المنتجات الحيوانية، بل أيضا استيراد الحبوب كأعلاف للماشية. وعلى الرغم من أنّ هذا السيناريو يمكن أن يؤدي إلى تحسينات في الوضع التغذوي، إلاّ أن زيادة الأسعار قد تفرض قيوداً على إمكانية حصول الفقراء على نظم غذائية محسنة، وهذا ما يؤكّد البعد الاستراتيجي لأدوار الزراعة المحلية.
نبحث في الجزء الثاني من المقال مستوى الأمن الغذائي في الجزائر والمسارات الإستراتيجية لتحسينه، على مستويات عدّة، فضلا عن الخيارات المتاحة لإدارة المخاطر التجارية المرتبطة بواردات الأغذية، ترقية الإنتاج الزّراعي والإنتاجية، إدارة الإمدادات الغذائية وضبطها، نظم تقليل الفاقد من الأغذية، تعديل السّلوك الغذائي، مراجعة الدّعم المعمّم.
..يتبع