ما تلبث أسعار المواد الاستهلاكية أن تستقر في السّوق الجزائرية بين الفينة والأخرى، لتعاود الارتفاع مرّة أخرى، في أعقاب إقرار خفض جديد لقيمة العملة الوطنية الدينار، وهو ما يربطه خبراء الاقتصاد بظاهرة “التّضخّم”، التي يصفونها بـ “بلاء الغلاء” الذي يترصّد الاقتصاد الجزائري ويهوي بمؤشّراته نحو الأسفل.
وبالرغم من اعترافهم بقدرة الحكومة على التّحكّم نسبيا في مستويات التّضخّم خلال 2020 وبداية سنة 2021، بعدما كان المختصّون يحذّرون من اختتام السنة ببلوغ التضخم رقمين، إلاّ أنّهم يؤكّدون بالمقابل، أنّ الخطر اليوم لا يزال قائما، وأنّ بنك الجزائر مطالب بإقرار خطّة محكمة، واستخدام كافة الأدوات المالية المتاحة لإيقاف مستوياته التّصاعدية المحتملة التي تهدّد القدرة الشّرائية للجزائريّين.
ويعرّف الخبراء التضخم على أنّه ارتفاع تصاعدي ومستمر لمستوى الأسعار نتيجة لانخفاض قيمة النّقود، كما أنّه يمثّل ضعف القدرة الشّرائية للعملة الوطنية، حيث أنّ ارتفاع الأسعار مقارنة مع العملة النّقدية المتداولة، يؤدّي إلى ارتفاع معدّلات التضخم. ويقول الخبير المالي الدكتور كمال سي محمد، إنّه وفقا للأرقام المعلن عنها من قبل الديوان الوطني للإحصائيات، فالتضخم خلال سنة 2020 بلغ مستوى متدنيا، مقارنة مع ما كان متوقّعاً.
بالأرقام..هكذا ارتفعت مستويات التّـضخّـم خلال السّــنوات الأخيرة
عادلت نسبة التضخم سنة 2019، 1.9 بالمائة، في حين وصلت سنة 2020 إلى 2.4 بالمائة، وأرجع الخبير سي محمد هذا الانخفاض إلى استمرار تفشّي وباء كورونا، وترك العديد من العمال لمناصب عملهم، ما أدّى لحصر نسبة التضخم بسبب تراجع السيولة النقدية في السوق، ويضيف سي محمد في إفادة لـ “الشعب الاقتصادي”: “التضخم النّقدي ناتج عن زيادة كتلة النقود في السّوق، وهنا يتدخّل البنك المركزي بمختلف أدوات التّعقيم للتحكم في الوضع، وعندما يكون التضخم ناتجا عن ارتفاع تكاليف المعيشة وأسباب أخرى، فإنّ آليات وأدوات البنك المركزي تكون محدودة، وتضطر الحكومة للتدخل عبر إجراءات أخرى لكبحه”.
ودعا الخبير نفسه إلى مراجعة طريقة احتساب سعر صرف الدينار أمام الأورو والدولار عبر قوانين المالية المختلفة التي تقرّها الحكومة في كل مرة، والتي تعد أحد أسباب عدم التحكم في التضخم بسبب تقليص قيمة الدينار الجزائري في كل سنة.
ووفقا لتقرير الديوان الوطني للإحصائيات، فقد بلغت نسبة التضخم السّنوية في الجزائر سنة 2020، 2.4 بالمائة، حيث سجّلت ارتفاعا سنة 2020 مقارنة بسنة 2019 باستثناء قطاع الخدمات الذي سجّل تراجعا، وارتفاعا في أسعار المواد الغذائية بنسبة 0.2 بالمائة والمواد المصنّعة بنسبة 5.35 بالمائة، الأمر الذي أثّر بشكل ملحوظ على الوتيرة الإجمالية للتضخم التي انتقلت نسبتها من قرابة 2 بالمائة سنة 2019 إلى 2.4 بالمائة سنة 2020.
ومن بين المواد التي شهدت ارتفاعا في الأسعار نهاية شهر ديسمبر 2020، الغذائية بزيادة عادلت 0.2 بالمائة، خاصة المنتوجات الغذائية الصّناعية بنسبة 1.07 بالمائة، رغم تراجع أسعار المنتوجات الفلاحية الطازجة بحوالي 0.7 بالمائة، كما يؤكّد تقرير الديوان الوطني للإحصائيات، أنّ أسعار مواد أخرى سجّلت ارتفاعا مثل البيض بنسبة 10 بالمائة، السّمك الطّازج بنسبة 13.2 بالمائة، الفواكه الطّازجة بنسبة 6.5 بالمائة، الزيوت بـ 1.01 بالمائة والحليب ومشتقاته بنسبة 1 بالمائة وانخفاض معتبر في سعر السكر.
وبحسب توقّعات قانون المالية لسنة 2021، يرتقب تسجيل ارتفاع في نسبة التضخم سنة 2021 ليبلغ 4.5 بالمائة، وذلك بسبب انخفاض الاستهلاك وانخفاض الدخل لكل من الأسر والشّركات، كنتيجة حتمية لتنفيذ أدوات السياسة النّقدية، كما يرتقب أن يبلغ معدل التضخم 4.05 بالمائة خلال سنة 2022 و4.72 بالمائة سنة 2023، وفقا لما أكّده نص القانون، كما أنّ قانون المالية توقّع انخفاض سعر صرف الدينار الجزائري مقابل الدولار الأمريكي ليبلغ في المتوسّط السّنوي 142.20 دينار في 2021 و149.31 دينار جزائري مقابل الدولار الأمريكي في 2022 و156.78 دينار جزائري بحلول سنة 2023، وبهذا يفترض تسجيل انخفاض طفيف في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي بنحو 5 بالمائة سنويا.
طباعة النّـقود وراء “تغوّل” التّـضخّـم
لعبت القرارات المتّخذة في حقبة النّظام السّابق، لتوفير السيولة النقدية ومواجهة الدين الداخلي، ممثّلة في اللجوء إلى التّمويل غير التقليدي، أو ما يعرف في أوساط الجزائريّين بطباعة النّقود، عبر تعديل قانون القرض والنقد شهر ديسمبر 2017، والشّروع في اعتماد هذه الطّريقة للتمويل بداية من سنة 2018، دورا كبيرا في إغراق السّوق الوطنية بأوراق نقدية دون مقابل من الإنتاج، وهو ما ساهم في خفض قيمة الدينار وارتفاع مستوى التضخم، خلافا لتطمينات مسؤولي وزراة المالية والبنك المركزي آنذاك. ويؤكّد الخبراء أنّ هذه الانعكاسات السّلبية كانت وراء عزوف رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، اليوم، عن العودة إلى طريقة التمويل هذه، ورفضه رفضا قاطعا اللّجوء إلى طباعة النّقود لتوفير السيولة النّقدية في السوق الوطنية.
ويؤكّد الخبير الاقتصادي ورئيس المركز العربي الإفريقي للاستثمار والتطوير، أمين بوطالبي، في تصريح لـ “الشعب الاقتصادي”، أنّ لجوء الحكومة خلال السّنوات الماضية إلى طباعة الأوراق النّقدية والاستدانة الداخلية من المؤسّسات والأشخاص، كلّها عوامل أثّرت على التضخم، وساهمت في إغراق السّوق النّقدية بأوراق مالية، دون أن تكون لها قيمة في السّوق.
وعاد المتحدّث ليسرد أسباب ارتفاع مستويات التضخم في السّنوات الأخيرة، وهي الظّاهرة التي وصفها بالخطيرة جدا، يتقدّمها تدنّي قيمة الدينار بنسبة كبيرة جدا تفوق الـ 14 بالمائة بين سنتي 2020 و2021، وهو ما كان له تأثير كبير وسلبي على الاقتصاد العام، وأدخله في حالة انكماش أو بالأحرى كساد، متوقّعا أن تكون المرحلة المقبلة صعبة جدّا على المدى القريب، خاصة في ظل غياب موارد مالية، ماعدا المداخيل النّفطية وغياب اقتصاد ديناميكي مبني على نمو واضح في كل المعدّلات الاقتصادية، مشدّدا على أنّ أغلب القطاعات الاقتصادية اليوم متأثّرة بذلك، وهو ما يجعل معدلات التضخم تؤثّر كثيراً على القدرة الشّرائية والسيولة المالية في الجزائر.
ويقول بوطالبي إنّ أسباب التضخم عديدة، منها غياب عامل الثّقة بين المواطن والبنك، وحتى بين المواطن وبعض مسيّري القطاع الاقتصادي بسبب الممارسات المنتهجة في حقبة النّظام السّابق، وكذا التخوف الكبير الذي يبديه الصّناعيّون والمنتجون ومحرّكو الدورة الاقتصادية بسبب عدم ثبات القوانين، واتّخاذ قرارات جديدة في كل مرة قد ترهن خطواتهم نحو الاستثمار، مضيفا “عندما يكون هناك تخوّف..سيترتّب عنه ارتفاع مستوى التضخم وتراجع مستويات الإنفاق والإنتاج”. كما تحدّث الخبير الاقتصادي عن مخلّفات كورونا عبر كل دول العالم، التي سجّلت تضخما نسبيا، لكن في الجزائر كان تأثير التضخم كبيرا بفعل عدم التحكم في أسعار المواد الاستهلاكية.
ويعتبر الخبير نفسه، أنّ غياب أقطاب صناعية تزيد من معدلات النمو كان له تأثير سلبي على تطور الاقتصاد الجزائري، وبالتالي فإنّ تأثّر الأسواق بشكل ملحوظ نتيجة انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، كان له دور كبير في تسجيل تضخم سريع.
وعاد بوطالبي ليتحدّث عن ارتفاع أسعار النقل والمواد الاستهلاكية، تكلفة الإنتاج وتكريس الاستيراد، منتقدا غياب استراتيجية واضحة للاستيراد لحد الساعة، وكمثال على ذلك، قال إنّ “الحكومة اليوم تدعّم الكمامة المستوردة كمادّة نهائية، ما يعني أنّ هذه المادة لديها امتيازات جبائية، لكن من يستورد المادة الأولية لتصنيع الكمامة يسدّد الضّريبة على المادة الأولية، ويسدّد الضّريبة على المادة النّهائية، وهذا أمر غير مقبول”، مضيفا “يجب أن تكون لدينا استراتيجية واضحة في الاستيراد والتصدير على حد سواء”.
الحل في استرجاع أموال “السكوار”
يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن عية، أنّه بالرغم من خطر التضخم على الاقتصاد الجزائري والقدرة الشّرائية للمواطنين، إلاّ أنّ الحلول تبقى متاحة و”غير مستحيلة” للتحكم في الوضع بشكل أحسن خلال المرحلة المقبلة، ويتقدّم هذه الحلول، وفقاً لـ “عية”، إدخال الأموال المتداولة خارج الإطار الرّسمي، أي المبالغ المالية الضّخمة بالعملة الوطنية والصّعبة النائمة في السّوق السّوداء لتصبح أموالا نظامية ونظيفة، قابلة للإيداع في القنوات الرّسمية، وغير متاحة للبيع بسعر صرف موازٍ، كما هو الوضع اليوم على مستوى ساحة “بور سعيد” بالعاصمة، المعروفة بـ “بورصة السكوار”، أو غيرها من النّقاط السّوداء لتداول العملة الصّعبة، متحدّثا عن تداول مبالغ مالية مهولة توازي الـ 50 مليار دولار في السّوق السّوداء.
وإضافة إلى ذلك، دعا المحلّل الاقتصادي عية في تصريح لـ “الشعب الاقتصادي”، إلى استخدام أدوات الدفع البديلة وسحب النّقود الورقية والمعدنية على المدى المتوسّط، والعودة تدريجيا إلى إلزامية استعمال الصك في كافة التّعاملات النّقدية أو بطاقات الدفع الإلكتروني، إلى جانب خلق ديناميكية في البنوك والعمل على رفع الأعباء الإدارية على سلك الضّرائب، بحكم أنّ رفع مستويات دفع الضّريبة يعني بالضّرورة القدرة على تمويل الاقتصاد والمشاريع والموازنات المالية خلال المرحلة المقبلة، والتخلي عن حاجة الحكومة لطبع النقود أو اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، أو حتى لتخفيض قيمة الدينار، مشدّداً على أنّ ضعف نسبة التحصيل الجبائي في الجزائر، أدّى إلى خلق أزمة تمويل كبيرة وتسبّب في إفراغ الخزينة العمومية، ما يفرض اليوم إلزامية إقرار إصلاحات جبائية وجمركية عميقة.
كما يطالب أستاذ الاقتصاد بخطّة استراتيجية لحماية العملة الوطنية من التخفيض المستمر، بغية التحكم بشكل أحسن في مستويات التضخم خلال الأشهر المقبلة، إضافة إلى إنعاش الإنتاج والتّصدير والاستفادة من التّجارب والسيناريوهات السّابقة، لعدم تكرار نفس الأخطاء في خطة الإنعاش الاقتصادي المقبلة.
هذا ولا يختلف اثنان على أنّ تأثير فيروس كورونا، وما أعقبه من إجراءات الحجر الصحي وانكماش اقتصادي، لم يكن محصوراً على الجزائر فقط، وإنما شمل اقتصاديات معظم دول العالم، بما في ذلك الدّول المصنّفة على رأس قائمة أكبر اقتصاديات العالم، بل وبالعكس، فقد استطاعت الحكومة الجزائرية التّحكّم بشكل حسن في المؤشّرات الاقتصادية، وهو ما يبشّر بتحسّن في الأوضاع وانفراج قريب في حال انتهاج خطط اقتصادية محكمة للإنعاش، وكبح التّضخّم الزّائد.