لا تخلو قائمة أثرياء العالم من أصحاب مؤسّسات ناشئة أو “ستارت آب”، جعلوا اسمهم يتردّد في كافة ربوع العالم بعد فترة قصيرة من تأسيس شركاتهم، وأصبحوا يديرون رقم أعمال بمليارات الدولارات.
يقول خبير التكنولوجيا يونس قرار إنّ المؤسّسة النّاشئة ما هي إلاّ فكرة مبتكرة، تتغذّى على نسبة نمو سريعة جدا، ففي ظرف سنتين بإمكان “ستارت آب” إحراز أرباح لا تحقّقها مؤسّسات كلاسيكية في 10 سنوات، وعادة ما يخوض هذه التّجربة الشباب، بالنظر إلى روح المغامرة التي يمتلكونها.
إيمان الطيب
وتنطلق الـ “ستارت آب” من فكرة إبداعية مبتكرة تحمل في ظاهرها مخاطرة، وباطنها فرص نجاح، ولا تعتمد على تمويل كبير في البداية، حيث يتم تجسيد المشروع في مجال تجريبي، ثم يتوسّع في المرحلة الثانية بعد نجاحه نسبيا ولكن في إطار ضيّق، ليتمدّد بعد نجاحه بشكل خارق ويصل للمستوى العالمي، وقد يحقّق رقم أعمال يتجاوز التريليون دولار.
“فايسبوك“، “علي بابا” وآخرون..مغامرة تحصد مليارات الدولارات
لا يختلف اثنان على أنّ “فايسبوك” يظل الأب الروحي للشّركات النّاشئة، فهو قصّة نجاح بطلها طالب أمريكي اسمه مارك زوكربيرج، انطلق سنة 2003، حينما أراد تسهيل التواصل بين زملائه في جامعة هافارد، ليتجاوز عدد مستخدمي الشبكة سنة 2012 المليار مستخدم، أما اليوم فعدد مستخدمي “فايسبوك” شهريا يصل 2.45 مليار شخص.
أمّا قصّة “سناب شات” سنة 2011، فقد لاقت الكثير من السّخرية، حيث تساءل الكثيرون عند إطلاقها حول الإضافات التي يمكن أن يقدّمها تطبيق “سناب شات” لمفهوم الرسائل النصية، ولكنه تحوّل مع مرور الوقت إلى التطبيق الأكثر طلبا من طرف المستخدمين، ويعتبر إيفان شبيجل صاحب فكرة تطبيق “السناب شات”، أصغر ملياردير في العالم، بعد ابتكار تطبيق يقوم بعرض صور لمدة 10 ثوان ثم تختفي، وقد لاقى رواجا في تلك الآونة.
كما لا يمكننا استعراض أهم قصص نجاح المؤسّسات النّاشئة في العالم، من دون الحديث عن “أمازون”، فالبداية كانت عام 1994 حينما قرّر صاحب الفكرة جيف بيزوس إطلاق موقع إلكتروني لبيع الكتب عن طريق الإنترنت، وقد اتّخذ بيزوس وصديقه ماكينزي من منزلهما مقرا للنّشاط، ولم يكونا يتوقّعان كل هذا النّجاح السّاحق، حيث وصلت المبيعات خلال أسبوع واحد فقط إلى عشرين ألف دولار، ليوسّعا نشاطهما بشكل أكبر على مر الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات، أما اليوم فقد أصبحت “أمازون” تحاكي قصة نجاح أكبر متجر إلكتروني، يبيع كل ما يخطر على بال الزبائن في العالم، ويحقّق رقم أعمال تخطّى التريليون دولار.
ويُعَدُ “علي بابا” الصّيني المنافس الأول لـ “أمازون” الأمريكي، فصاحب الموقع “جاك ما” رجل اعتقد لفترة من الزمن أنه قليل الحظ بسبب رفض 16 طلبا له للهجرة إلى أمريكا، وبعد أن اشتغل في عدة مهن، خطرت على باله فكرة منافسة موقع “أمازون”، بتأسيس سنة 1999 موقع جديد بدأه من الصفر وأطلق عليه اسم “علي بابا”، وتضمّن الموقع معلومات عن الصين والمنتجات الصينية، وهو ما كان غائبا عن المواقع الأخرى، أما اليوم فيصل رأس مال “علي بابا” 29 مليار دولار.
منافسة أمريكية صينية..ورقم أعمال بـ 1000 مليار دولار
يقول يونس قرار في حديث لمجلة “الشعب الاقتصادي”، إن الولايات المتحدة كانت ولا تزال الرائدة في هذا المجال، وهو ما تترجمه أسماء أشهر وأكبر الشركات التي انطلقت من فكرة “ستارت آب”، وأصبحت اليوم تتحكّم في مليارات الدولارات، كما أن أمريكا كانت مهد المؤسّسات النّاشئة سنوات التسعينيات، واليوم بحلول سنة 2021، فإنّ مجموع رقم أعمال هذه الشركات الكبرى يتجاوز الـ 1000 مليار دولار.
وتحظى أمريكا بمنافسة صينية شرسة، فنجد “علي بابا” تلاحق “أمازون”، و”وي شات” يقلّد “فايسبوك” و”واتساب” وآخرين، وهو ما يكشف الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، أما بقية الدول التي قطعت أشواطا هامة في مجال المؤسسات الناشئة، فنجد – وفقا ليونس قرار – اليابان، كورويا الجنوبية، ماليزيا، أندونيسيا والهند، وألمانيا بأوروبا، وفي أفريقيا نجد بعض النماذج على غرار كينيا، رواندا، إثيوبيا وجنوب أفريقيا.
ويضيف قرار “الستارت آب ظاهرها مؤسّسات صغيرة من صنع شباب مغامر، ولكن في الحقيقة وراءها دعم حكومات وتنافس لاقتحام أسواق جديدة والسيطرة على العالم”.
برلين وإيطاليا..تجربتا نجاح عنوانهما “التّسهيلات“
يرى رئيس الاتحاد الوطني للمستثمرين الشباب رياض طنكة، أنه قبل التطرق إلى “كيف استطاعت الكثير من الدول تحقيق نمو اقتصادي مهم في تطوير المؤسسات الناشئة أو بما يسمى الستارت آب، يجب التأكد من أنها عملت على توفير البنية القانونية التي تناسب كيانها، خاصة من خلال تسهيل إنشاء المؤسسات وتسجيلها باعتبار أن المؤسسات الناشئة تحتاج الى استثمار الوقت والمال في مرحلة البحث الأولي لتحديد نوعية السوق وحجم الطلب أو نوعية الخدمة”.
ويؤكّد طنكة في إفادة لمجلة “الشعب الاقتصادي”، أنّ هذه الميزة تساعد روّاد الأفكار وحاملي المشاريع على انشاء الشركات الناشئة التي لا تتطلّب قرضا كبيرا مقارنة بالأنواع الأخرى من المؤسسات، وهو ما سعت إلى تطبيقه الكثير من البلدان لتشجيع الشباب على ولوج عالم المقاولاتية من بوّابة المؤسّسات الناشئة.
ويتوقّف المتحدّث عند التجربتين الإيطالية والألمانية، باعتبارهما من الدول الرائدة في مجال المؤسسة الناشئة، خاصة ألمانيا التي تشتهر بـ “مراكز برلين للمؤسسات الناشئة”، حيث طوّرت هذه المراكز الكثير من المؤسسات التي يتعدى رقم أعمالها اليوم المليار دولار، وهي مؤسّسات تنشط في المجال الرقمي والخدماتي بالدرجة الأولى، مشدّدا “لولا استفادة الشركات الناشئة في إيطاليا وألمانيا من تحفيزات وامتيازات قانونية لما كانت ستحقّق نجاحا باهرا اليوم”.
وبالرغم من أنّ إيطاليا كانت إلى وقت قريب متأخرة في مجال دعم المؤسسات الناشئة، ولكن بفضل المجهودات والتسهيلات التي قدمتها لهذه المؤسسات، صارت أحد أهم الأماكن لترعرع الشركات الناشئة في العالم، وتعد أهم ثلاث شركات ناشئة ناجحة في إيطاليا لسنة 2021 كل من “سوبرميركاتو” وهي سوق للبقالة ببضعة نقرات على الهاتف حقّقت نجاحا داخل إيطاليا وخارجها، شركة “ساتيسباي”، وهي منصة للدفع الرقمي تعد الأكثر إقبالا بالمنطقة، وشركة “ميزمون” التي تعد منصة عروض للبيع والحجز والخدمات تتواجد بـ 1100 مدينة مع أكثر من 35 ألف نشاط غير حصري.
كما تجاوزت استثمارات الشركات الناشئة في ألمانيا 6.2 مليار أورو السنة الماضية، وهو رقم قياسي، وتعد “أوميو” أغنى الشركات الناشئة الناجحة في ألمانيا، وهي شركة سياحية تعتمد على الهاتف الذكي لاختصار المصاريف في السفر والتنقل نحو مختلف بقاع العالم، ويتجاوز رقم أعمالها اليوم المليار أورو، إضافة إلى شركة “فرايتهوب” للشحن الرقمي ونقل البضائع بعيدا عن التعقيدات، وتجمع هذه الشّركة خدمات ألف جهة ومؤسسة في مجال الشحنين البحري والجوي، وشركة “ريلاير” التي تعتمد على الربط مع “إنترنت الأشياء”، حيث شهدت هذه الشركة استثمارات تفوق الـ 300 مليون أورو، واليوم تحقّق أرباحا عالية جدا.
الإمارات تحتل الرّيادة عربيا
تجربة المؤسّسات الناشئة عرفت قفزة نوعية في الدول العربية بداية من سنة 2011، ويقول الخبير في مجال الاتصالات والتكنولوجيات الحديثة، يونس قرار، إنّ الدول العربية التي حققت أعلى نسب نجاح في مجال رعاية وتطوير المؤسسات الناشئة أو الـ “ستارت آب” هي الإمارات العربية المتحدة التي قدمّت تمويلا ضخما لهذه الشركات متبوعة بالأردن والمملكة العربية السعودية”.
وبدرجة أقل حقّقت كل من لبنان، مصر والمغرب ـ وفقا ليونس قرار ـ نجاحا في تطوير المؤسسات الناشئة، إذ شهدت بعض الشركات الناشئة بهذه البلدان نجاحا وانتشارا عربيا واسعا، تعدى حدود الدولة المؤسّسة، ولكن ليس بنفس التطوّر والقوة اللذين عرفتهما “الستارت آب” بالإمارات التي احتضنت سنة 2020 لوحدها 33 شركة ناشئة مصنّفة ضمن الأكثر تمويلا بمنطقة الشرق الأوسط.
وتعد أقوى الشركات الناشئة في العالم العربي لسنة 2020، شركة “أرابوت” بالأردن التي تمّ تأسيسها بعمان سنة 2016، وهو تطبيق يسمح بإجراء محادثات باللغة العربية بلهجات مختلفة، وأيضا “ﭘاي تابس”، وهي شركة سعودية في مجال حلول الدفع، تعمل على تقديم خدمات أفضل وأسعار أقل، وحلول سريعة بتقنية مضمونة، وتعتمد على سرعة ربط المتاجر بخدمة الدفع، لكسب ثقة الزبائن ومواجهة المنافسة.
كما تعد شركة “نيم كارد” من أهم الشركات الناشئة أو نموذج لـ “ستارت آب” ناجحة عربيا، وهي شركة لبنانية تأسّست عام 2016، ومتخصّصة في مجال الدفع الإلكتروني، وشركة “إيريكا” التي تأسّست عام 2013 بدبي بالإمارات العربية المتحدة وهي منصّة جماعية للاستثمار العالمي، وتعمل على بيع وشراء الأسهم، إضافة إلى شركة “بيزات” بالإمارات العربية أيضا، وهي شركة تقنية مختصة بتوفير حلول التأمين والموارد البشرية.
ومن جهتها تداولت مجلة “فوربيس” الأمريكية العديد من أسماء الشركات الناشئة العربية، وصنفتها ضمن أقوى تجارب الـ “ستارت آب” للسنة الماضية على غرار “فيتشر” المتأسّسة بالإمارات العربية المتحدة عام 2012 والمختصّة في توزيع الطرود، و”هوليداي مي” التي بدأت نشاطها بالإمارات أيضا، وهي منصة رقمية تقترح عروض السياحة والسفر، وشركة “فيزيتا” المصرية وهي منصة رقمية تقترح حلول العلاج، تأسّست سنة 2012 وحقّقت نجاحا مبهرا بمصر، و”لمسة” التي تأسّست سنة 2013 بالإمارات العربية المتحدة المختصة في مجال الترفيه والتعليم والمتعة للأطفال عبر تطبيق للهاتف النقال.
الجزائر..الخطوة الأولى
الإجراءات والخطط التي انتهجتها الدول الغربية وحتى العربية الناجحة في مجال تطوير المؤسسات الناشئة، هي نفسها التي تقتبسها اليوم الحكومة الجزائرية، من خلال سن الكثير من القوانين التي تحمل العديد من التحفيزات والتسهيلات التي تسمح للشباب الذين يتمتّعون بالقدرات الابتكارية بتحقيق نجاحات عديدة.
وأصبحت الشّركات الناشئة رهانا حقيقيا للاقتصاد الحديث والرقمي، وفقا لرئيس الإتحاد الوطني للمستثمرين الشباب رياض طنكة، مضيفا “كيفية إنجاح هذه المؤسسات يعد تحديا كبيرا، فالرقمنة تفرض التوجه نحو هذا المجال الذي سيضع التنمية في مسارها الصحيح، ويساعد في القضاء على الذهنيات السلبية والمحبطة لعزائم الشباب وأفكارهم الابتكارية”، وأردف قائلا “سيسمح ذلك أيضا بتصحيح الوجهة والمفهوم الحقيقي للمؤسسة الناشئة في تعاملها مع السوق من منظور عالمي باستغلال التكنولوجيات الحديثة التي لا تزال تستهلك من طرف الشباب في أمور هامشية”.
ويختم طنكة “هذه المؤسّسات، تخفي وراءها جدوى وفاعلية كبرى لبلوغ الاقتصاد الرقمي وحتى اقتصاد المعرفة..كما أن المؤسسات الناشئة إذا ما شقّت طريقها في أوساط الجزائريين قد تكون “البترول الجديد” للمرحلة المقبلة”.