تجربة شراكة سلبية ومكلّفة خاضتها الجزائر مع الاتحاد الأوروبي، ولم يعد من بدّ سوى العمل لتدارك الأمر وتصحيح معادلة الشراكة لترتكز على قواعد صلبة ومتوازنة تضمن تقاسم الأعباء والمنافع وفقا لرؤية استراتيجية تحقّق النّفع العام لجميع الأطراف.
لمّا وقّعت الجزائر اتّفاق الشّراكة وقد سبقت إلى ذلك تونس والمغرب ممّا أضعف بلدان الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسّط، كانت التّطلّعات واسعة بالنظر للخطاب الذي سوّقته بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، غير أنّ السّنوات أظهرت أنّ وثيقة اتّفاق الشّراكة تحمل عيوبا وتصب في صالح الطّرف الآخر.
لقد تضاعفت صادرات بلدان الشّريك الأوروبي بشكل فلكي بينما لم يكن الطريق يسيرا أمام الصّادرات الجزائرية إلى أسواق الاتحاد، خاصة المنتجات الفلاحية بفعل فرض معايير أعدّت من جانب واحد، فيما يشكّل التفكيك الجمركي خطرا محدقا بالنسيج الاقتصادي الجزائري، ما تطلّب تأجيله إلى حين ترتيب الأرضية السليمة.
وحتى لا يبقى الطّرف الأوروبي يتعامل مع الجزائر كسوق، يجب التحول إلى شريك في قطاعات توفّر فرص النجاح والخروج من منعرج لا يليق بمعنى الشراكة، بقدر ما هو كما تبيّنه المعطيات كمين للإجهاز على الاقتصاد الجزائري، فقد أصبح حتما جلوس الشركاء حول طاولة حوار أكثر انفتاحا، وعلى أسس وقواعد مشتركة بعيدا عن أي ضغط أو ابتزاز لصياغة اتّفاق أكثر واقعية وشفافية يستجيب لمعطيات ليست تلك ما قبل سنة 2005، فالفضاء الأوروبي توسّع من حيث عدد الأعضاء والجزائر دخلت مرحلة جديدة تنسجم مع الإرادة الشّعبية المعبّر عنها في الحراك، واضعا السيادة الوطنية العنوان البارز في أي شراكة سابقة أو مستقبلية.
وتسمح بنود اتّفاق الشّراكة العرجاء بالنموذج الحالي بالدخول في علمية مراجعة تراعي مصالح الأطراف مثلما يؤكّده الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش في حوار لمجلة “الشعب الاقتصادي”، مقدّما تشخيصا لحصيلة الشراكة مع إبراز مواطن الخلل، ومن ثمّة شرعية التوجه إلى مرحلة مفاوضات جديدة تراعي التغيرات، كما يحدّد القطاعات التي يمكن البناء عليها لشراكة متوازنة وبنّاءة لا مجال فيها للابتزاز.
الدكتور عبد القادر بريش: للجزائر هامش أوسع ممّا كان سابقا لتصحيح معادلة الشّراكة
الجزائر بوّابة إفريقيا ومن مصلحة الاتحاد الأوروبي توطيد التعاون
الشعب الاقتصادي: وصلت الشّراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي إلى منعرج تطلّب التوجه إلى إعادة صياغة جانب من بنوده، ما هي المسائل التي تحتاج أكثر للمراجعة؟
الدكتور عبد القادر بريش: ينبغي أن نعود إلى وثيقة الشّراكة المبرمة في سنة 2001 بعد مسار مفاوضات توصّل فيها الجانبان إلى إبرام اتفاق شراكة دخل النفاذ في 1 / 9 / 2005.
جرى إبرام الاتّفاق في ظروف كانت الجزائر تتعافى من عشرية الإرهاب وصانع القرار السياسي كان آنذاك يتباهى بنشوة عودة الجزائر إلى السّاحة الدولية، فلم يكن المفاوض الجزائري مدافعا عن السيادة ومصالح الاقتصادية الجزائرية، إنما تمّ التوقيع على اتفاق شراكة هو بمثابة إذعان، واعتبرته السلطات السياسية حينذاك إنجازا كبيرا بالنظر إلى التأخر (المغرب وتونس وقّعتا).
لكن تقديري لم يكن الاتّفاق قائما على شراكة رابح – رابح، إنما كان رابحا للطرف الأوروبي وخسارة للطّرف الجزائري لأنّ هذا الاتفاق كان المفروض بعد 12 سنة الارتقاء به إلى منطقة للتبادل الحر في سنة 2017، غير أنّ الطرف الجزائري طالب بإرجاء الدخول في منطقة التبادل الحر بـ 3 سنوات، أي إلى 2020 لأنّه تبيـّن أنّ الاقتصاد الجزائري تكبّد خسائر كبيرة نتيجة التفكيك الجمركي بحوالي 30 مليار دولار في 15 سنة، وقامت خلاله دول الاتحاد الأوروبي بتصدير ما يعادل 310 مليار دولار بينما الجزائر لم تصدّر إلاّ 15 مليار دولار خارج المحروقات.
تبين بأنّ هذا الاتفاق لم يطبّق في كافة جوانبه بل ركّز الاتحاد الأوروبي على الجانب التجاري، معتبرا الجزائر مجرّد سوق بينما المسارات الأخرى للاتفاق (تدفق الاستثمار) كالاستثمار الأوروبي ضعيف (الرقم) ولم ينفذ تعهّداته بتأهيل الاقتصاد الجزائري.
كما لم يتم تطبيق المسارات الأخرى مثل رفع القيود على حركة الأفراد، التعاون العلمي ونقل التكنولوجيا والتعليم العالي والبحث العلمي، فلا زيادة في المنح الدراسية والبحوث الجامعية.
نلاحظ بعد 15 سنة أنّ هذا الاتّفاق لم يخدم الجزائر إنما خدم مصالح الاتحاد الأوروبي، لهذا كلّف رئيس الجمهورية وزير التجارة بإعداد تقييم ومراجعة اتّفاق الشّراكة مع الجانب الأوروبي ومنطقة التبادل الحر العربية من أجل تشخيص دقيق لمدى استفادة الجزائر منه.
حاليا نرى بضرورة إطلاق حوار استراتيجي شامل بين الجزائر والاتحاد الأوروبي يراعي المصالح المشتركة، وإعادة بناء الاتّفاق وفق شراكة قاعدتها رابح – رابح للطرفين، كما أنّ الظروف تغيّرت والجزائر أبرمت الاتفاق في 2001، وكان حينها الاتحاد الأوروبي يتشكّل من 15 دولة، والآن توسّع هذا الفضاء القاري إلى 27 دولة ممّا يتطلّب إعادة المفاوضات على أسس سليمة ومتوازنة.
وفي تقديري إنّ للجزائر هامش أوسع ممّا كان سابقا عند إبرام الاتفاق، فهي تتّجه إلى تنويع شراكاتها مع أقطاب اقتصادية بدأت تبرز مثل الصين، روسيا وتركيا ولم تعد خاضعة لإملاءات من جانب معيّن، وإنما لها قدرة على تنويع الشراكات وهو ما ينبغي أن يوظّفه المفاوض الجزائري.
في ضوء هذا المشهد، كيف ترى مستقبل مسار المفاوضات المرتقبة؟
لابد أن يرتكز على مبدأ استقلالية السيادة الوطنية، والدفاع عن المصالح الحيوية الاستراتيجية للجزائر. انطلاقا من هذا سيستند المفاوض الجزائري على أنّ للجزائر امكانيات لتنويع شراكاتها مع أقطاب ناشئة تتقدّمُها الصين، لكن يبقى التعاون الاقتصادي الواسع والشامل مهم جدا للطرفين لعدة أسباب:
الجانب التاريخي وتحديدا مع فرنسا، حيث توجد جالية جزائرية هامة (حوالي 5 ملايين نسمة)، العامل الجغرافي وقرب المسافة بين الجزائر وأوروبا الذي ينعكس إيجابا على كلفة النقل وللطرف الأوروبي تنويع النسيج الاقتصادي والتكنولوجيا، وهذا مهم لنا.
وتكمن عوامل القوة للجزائر في توفير الموارد الاقتصادية وأساسا الطاقة والمورد البشري، الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاستقرار وتطهير مناخ الأعمال لجعله أكثر جاذبية.
ومن زاوية جيواستراتيجية من مصلحة الاتحاد الأوروبي توطيد علاقاته مع الجزائر كونها فعلا بوّابة أفريقيا خاصة مع الامكانات والطاقات المستقبلية من خلال البنية التحتية على رأسها ميناء شرشال والطريق شمال جنوب، الذي يمتد إلى غاية لاغوس (نيجيريا) إلى جانب السكة الحديدية ممّا يجعل الجزائر محورا أساسيا في المبادلات التجارية مع أفريقيا.
لكن تحت ضغط عامل الزّمن، هل تدرك المؤسّسات كل هذه المتغيّرات وأبعادها؟
لم يكن اتّفاق الشّراكة متكافئا لأن الاقتصاد الجزائري لم يكن مهيّئا للمنافسة في أسواق أوروبا، حيث لم تتجاوز صادرات الجزائر خارج المحروقات 3.2 مليار دولار، علما أنّ القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على دخول السلع والصادرات الجزائرية (مواد فلاحية وصناعية) تعجيزية من خلال اعتماد معايير صعبة التحقيق بالنسبة للكثير من المؤسسات المؤهلة للتصدير.
لكن الآن مع إعادة إطلاق حوار استراتيجي ينبغي على الطرف الجزائري العمل بوتيرة أسرع لتأهيل الاقتصاد وتطهير بيئة الأعمال والقضاء على البيروقراطية، وترسيخ الرقمنة مع إصلاح القوانين ذات الصلة بالاستثمار والجباية.
البداية تتمثل في تنشيط الصناعات التي يمكن المنافسة بها في الأسواق الخارجية أولها التحويلية والبتروكيماوية ضمن تأهيل للجهاز الإنتاجي ليكون في مستوى التحدي ومواجهة المنافسة، والارتقاء بالمنتوجات الجزائرية إلى مستوى معايير الجودة.
بالموازاة للجزائر شراكة أساسية ذات بعد استراتيجي في منطقة التجارة الحرة الافريقية التي دخلت حيّز التنفيذ في 1 جانفي 2021، وبالتالي المؤسّسات الجزائرية مطالبة بتأهيل تنافُسيتها لأنّ السّوق الافريقية تتطلّب تلك القوة، إذ فيها “لاعبُون” أقوياء خاصة وأن الجزائر ستواجه في منطقة التبادل الحر للقارة السمراء تكتلات اقتصادية جاهزة لها مزايا تفضيلية فيما بينها.
نبقى في تفاصيل اتّفاق الشّراكة، هل يوفّر امكانية إعادة إطلاق مفاوضات من جديد لتقليص الفجوة؟
نعم يمكن ذلك، فالمادة 40 من الاتفاق تتيح إعادة التفاوض ومراجعة بنود الشراكة، وتفيد هذه المادة أنه في حالة تسجيل ميزان المدفوعات خسائر أو عجز لأحد الطرفين يمكنه إعادة التفاوض حول بنود الاتفاق، وهذا ما ينطبق على الطرف الجزائري.
المطلوب إعادة التفاوض مجدّدا بشكل سيادي والدفاع عن مصالح الجزائر الاقتصادية، وإعادة إطلاق العلاقات على أسس صلبة تحكمها قاعدة رابح – رابح للجانبين مع تثمين العوامل التي تعزّز هذه الشّراكة (العامل الجغرافي والعمل الدبلوماسي).
الظاهر أنّ الشريك الأوروبي يحوز على حصة 52 بالمائة في حجم المبادلات للجزائر ويتجاوز الصين، فالاتحاد الأوروبي هو الشريك الأول.
وبالرجوع إلى الدورة الـ 12 لمجلس الشراكة الجزائري الأوروبي، أكّد وزير الخارجية بوقدوم “ضرورة إطلاق حوار حول شراكة ذات طابع استراتيجي تراعي توازن المصالح بين الطرفين”.
ومن الجانب الآخر كيف ترصد الموقف الأوروبي؟
لابد أن تكون الشراكة المأمولة قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف، فتكون شراكة شاملة قائمة على أساس مبدأ احترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلة بذريعة حقوق الانسان، ومن ثمّة يجب الابتعاد عن كل ممارسات من شأنها أن تعرقل الأهداف المشتركة. لذلك يجب أن يكون الحوار على أساس الاحترام المتبادل، وبعيدا عن أي استعلاء أو إملاءات أو محاولة التدخل في الشؤون الداخلية تحت ذريعة توظيف مغرض لحقوق الإنسان، التي تستعمل أحيانا كابتزاز للجزائر رغم أنّها منسجمة مع كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان موثقة في الدستور الجديد بشكل واضح.
الاتحاد الأوروبي نفسه مرّ بأزمة، فشكّل شراكته مع أحد أقطاب الاقتصاد، ماذا عن الفرص المتاحة إثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) وكذلك مع دول “بريكس“؟
يمكن للجزائر الاستفادة من بريكست بإطلاق تفاهمات مع بريطانيا، ومن هنا أدعو إلى مباشرة حوار سياسي واقتصادي بين الجزائر وبريطانيا من خلال اللجنة المشتركة العليا لتوطيد العلاقات في عدة مجالات علمية وتجارية.
ونفس الأمر مع دول “بريكس” القوّة الصّاعدة التي تمثل 45 بالمائة من حجم الاقتصاد العالمي، علما أنّ الصين عضوة فيها يرشّح أن تكون بعد 2024 القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
للجزائر علاقات مع الصين (قوّة اقتصادية ومالية)، تركيا (طموح لرفع حجم المبادلات إلى 10 مليار دولار وحاليا 4 مليار)، البرازيل (قطب)، جنوب إفريقيا (في الاتحاد الافريقي ضمن اتفاقية التبادل الحر)، الهند (في صناعة التكنولوجيا) للرقمنة والمؤسسات الناشئة.
على ضوء مؤشّرات سنة 2020، ما هي معالم الآفاق عام 2021؟
كانت سنة 2020 استثنائية على العالم برمّته من ركود اقتصادي وأزمة حادّة أثّرت على الجزائر من خلال تراجع أسعار النفط بـ 50 بالمائة في السداسي الأول 2020 وتقلّصت إيراداتها بـ 40 بالمائة (23 مليار حصيلة مداخيل النفط).
السنة المنصرمة لم تحقّق فيها نتائج كبيرة داخليا لارتباطها مع تداعيات جائحة “كوفيد-19″، والتحول السياسي (المسار يكتمل ببناء المؤسسات)، كما لم تجد الاصلاحات طريقها إلى التطبيق، فكل هذه الظروف لم تسمح بتحقيق برنامج إرساء المؤسسات (الدستور والانتخابات) ثم المرور إلى الإصلاحات الكبرى، وتتطلب استقرارا وتجنيد موارد اقتصادية داخلية.
بالمقابل الآفاق في 2021 تطلق إشارات تفاؤل بأنّ الاقتصاد العالمي بدأ في التعافي، وسيستأنف الانتعاش والنمو لعدة عوامل منها: 1 – التوصل إلى إنتاج لقاح “كوفيد 19″، 2 – تراجع تفشي وباء كورونا، 3 – اتجاه لتعايش المجتمعات مع الوباء، 4 – فتح الاقتصاديات وعودة الأنشطة إلى الأسواق.
إنّها سنة عودة النمو لأن الكثير من الاقتصاديات تحاول مضاعفة الوتيرة لتدارك الخسائر، ما يجعلنا نتطلّع للتفاؤل بأن يكون السداسي الثاني من 2021 موعدا لعودة الاقتصاد إلى النمو، ومن ضمنه الاقتصاد الجزائري الذي سيعرف نموا بارتفاع أسعار النفط مع توقع بلوغ معدل 55 الى 60 دولارا للبرميل.
وفقا لهذه المعطيات، ما هي القطاعات التي يمكن الرهان عليها لبلوغ الأسواق الخارجية ومنه إنجاز أهداف النمو؟
اعتمادا على معطيات ومؤشرات، فإن القطاعات ذات التنافسية تشمل:
1 – الفلاحة خاصة المنتجات الزراعية الطازجة في حالة حرص الفلاح على التقيد بالضوابط المتعلقة بالجودة، السلامة الصحية وخاصة الأسمدة.
2 – الصّناعة التحويلية الفلاحية.
3 – الصّناعة المنجمية الموجّهة للتصدير (الفوسفات والحديد).
4 – الصّناعة البتروكيماوية بالشراكة مع متعاملين جادين.
للإشارة، فإنّ اقتصادات المعرفة يظهر تأثيرها من خلال القطاعات، الخدمات، التكنولوجيات والتطبيقات وبيئة تحتية رقمية تدعم القطاعات الانتاجية التي تحتاج الى البحث العلمي والابتكار لتوفير حلول لإنتاج مواد ذات كفاءة وربحية بأقل كلفة، وبأكثر جودة لكسب المنافسة. فكلّما تمّ توظيف البحث العلمي ومخرجاته جيدا مع الاقتصاد كلّما سرعنا في الاستفادة منه، فاقتصاد المعرفة يسمح باستغلال البحوث والتكنولوجيا لإيجاد حلول لمشاكل تعيق النمو.