دفع الوضع المائي بالجزائر التي تعيش منذ أكثر من 30 سنة حالة جفاف، ونقصا حادا في هطول الأمطار، إلى ابتكار تقنيات جديدة للحفاظ على مخزون المياه الجوفية، وتوسيع عملية إعادة تدوير المياه المستعملة وتبني سلوكات يومية ترسخ ثقافة اقتصاد الماء وزيادة الوعي بضرورة تغيير نمط الاستهلاك عن طريق تبني أنماط جديدة أقل استهلاكا.
الوضع المائي للجزائر حتّمت على القائمين على القطاع منذ سنوات تبني أفكار وحلول جديدة بما فيها مبادئ الاقتصاد التدويري الذي يقوم على إعادة واستخدام المواد وتحويل التدفقات المستعملة إلى مدخلات يتم الاستفادة منها لمزيد من عمليات إنتاج المياه من خلال المعالجة الثنائية والثلاثية للمياه المستعملة، أو الاستفادة من مياه الأمطار الضائعة سيما في الإطار الحضري لمواجهة ارتفاع في النمو الديموغرافي وتلبية حاجيات الصناعة والعمران والفلاحة التي تستهلك 70 بالمائة من المياه.
صبرينة طايبي: توسيع تدوير المياه المستعملة يحافظ على المخزون الباطني
وترى صبرينة طايبي أستاذة بقسم علوم المياه والطبيعة بجامعة البليدة ومديرة فرعية للمخبر حماية الموارد أدت أن التدوير هو اقتصاد المستقبل، ما يفرض القيام بأمور كثيرة من أجل ضمان الأمن المائي الذي يعني ضمان المياه حاليا وللأجيال المقبلة، مشيرة إلى أنه من بين استراتيجيات الدولة الجزائرية الذهاب إلى تحلية مياه البحر من خلال الرفع من التغطية بها إلى حوالي 60 بالمائة في حلول 2030، حتى يتم استغلال باقي مصادر المياه لتغطية حاجيات المناطق الداخلية وباقي القطاعات.
في المقابل شدّدت طايبي على إلزامية الذهاب إلى تثمين مورد الماء، خاصة وأنه يتم تضييع الكثير من المياه يوميا، ناهيك عن تداخل الفصول ما أدى بوصول الجفاف إلى غاية شهر ديسمبر، ما يفرض تجميع أكبر كمية من مياه الأمطار الثمينة لدى هطولها، وإعادة النظر في البنى التحتية المنشأة، خاصة وأن الجزائر لا تتوفر على قنوات تجميع مياه الأمطار منفصلة عن قنوات الصرف الصحي ما يتسبب في ضياع كميات هائلة على المستوى الوطني.
في هذا الإطار دعت المتحدّثة إلى تبني هذه الرؤية لدى إنشاء المدن الجديدة وإدماج العديد من الحلول المبتكرة والتطبيقات في الاستعمال اليومي والمنزلي التي من شأنها الاقتصاد في الماء وهي غير مكلفة وإعادة تدوير كل هو زائد عن الحاجة للاستفادة منه مستقبلا.
ويمكن أيضا – بحسب طايبي- القيام بإنشاء شبكة لمياه الأمطار بوضع صهاريج لتجميع مياه الأمطار فوق العمارات الجديدة، لاستغلالها في استخدامات الصرف الصحي، أو في عيد الأضحى وعمليات تنظيف المباني، وغسل السيارات، مشيرة إلى مثل هذه السلوكات البسيطة إلا أنها ناجعة جدا في حال قيام الجميع بهاما من شأنه التخفيف على مياه السدود واستغلالها في استخدامات أكثر إنتاجية.
وأكدت أستاذة علوم المياه والطبيعة أن هذه السلوكات البسيطة يمكنها إعطاء نتائج محسوسة في حال الالتزام بالقيام بها، مشيرة إلى أن ذلك يبدأ بالتربية بداية بالأطفال، لذا يتعين إدخالها في المراجع التربوية المدرسية.
وبالنسبة للتنوع البيئي الذي تأثر كثيرا بسبب الاحتباس الحراري في السنوات الأخيرة، فترى المتحدثة مثلا بعدم ترك السدود لتجف لأن ذلك سيقود إلى موت وتغير العديد من الفضاءات البيئية، على غرار الأسماك مثلا.
من جهة أخرى سيؤدي أي اخلال بخدمة الماء إلى رهن أهداف التنمية المستدامة المحددة لآفاق 2030، من بينها المحور السادس المتعلق بضمان إيصال المياه والصرف الصحي للجميع، حيث أن تحقيق هذا الهدف يكون على مستوى الكمية والنوعية وضمان استدامة الاستثمارات تحت شعار “نستثمر اليوم لنجد غدا”، مشيرة إلى أن المستقبل أصبح اليوم وليس بعيدا في ظل التسارع الذي نعيشه في كل المجالات، ولهذا سيكون شعار هذه السنة “تسريع التغيير”.
وبحسب طايبي فإن الوضعية المناخية للعالم تفرض على الجميع العمل بسرعة وبنجاعة كل في موقعه ومجاله، على المستوى الأفقي والعمودي، فمن دون أمن مائي لا يمكن تحقيق أمن غذائي، فما كان بالأمس أهداف للتنمية المستدامة أصبحت اليوم تحدّيات ورهانات لابد من كسبها.
وبما أن الجزائر اليوم مسّها تداخل الفصول فإن المواعيد الفلاحية التي كانت معروفة سابقا تغيرت هي الأخرى على غرار موسم البذر والحرث والجني وبالتالي على الفلاحين وقبلهم صناع القرار التكيّف معها من خلال تطابق استغلال المنطقة مع المناخ، خاصة فيما تعلق بمساحات الحبوب، بالإضافة إلى عوامل أخرى التي تتحكم في نجاح الفلاحة ببلادنا.
نوالي بغلي: تدوير مياه الصرف الصحي.. مورد ثمين
أكدت نوال بغلي أستاذة بجامعة عين تموشنت ومختصة في الري والمساحات المسقية بالمياه المعالجة عبر محطات التطهير، أن إعادة تدوير المياه المستعملة واستخدامها في الفلاحة له نتائج جد مهمة سواء حول مردود المنتوج أو في الحفاظ على الماء من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الصحي بعد المعالجة، ما يجعل منها مصدر غير تقليدي هام جدا ومتجدّد، يمكن الاستفادة منه مستقبلا وبكميات معتبرة ومتوفرة.
ترى المختصة في الري والمساحات المسقية أن إعادة استخدام المياه المستعملة المعالجة عبر محطات التطهير وتمكين الفلاحين من ذلك من شأنه يخفف عنهم الكثير، وخير دليل على ذلك المحيط المسقي حناية بتلمسان والذي تم تجهيزه تماما بشبكة ري، وتم القيام بالدراسات اللازمة، حيث حقق في سنة 2018 نتائج جد مرضية ومربحة بالنسبة للمساحات المسقية، وكذا للفلاحين الذين استفادوا من المياه المعالجة من محطات التطهير بعين تموشنت.
وتأسّفت بغلي لعدم الاستمرار في تطوير المشروع خاصة بعد النتائج الإيجابية المحققة وذلك بسبب أن الفلاحين لم يكن لديهم الرخصة لاستغلال المياه من طرف مديرية التطهير، ليتبين فيما بعد أن محطات المعالجة تستقبل أكثر من طاقتها ما يؤدي إلى صرفها مجددا دون معالجتها كما يجب، سواء بعين تموشنت أو بتلمسان.وأشارت المتحدّثة إلى أنه يتم حاليا إجراء توسعة بمحطة عين تموشنت لضمان معالجة أكبر للمياه المستعملة، في حين أن الأمور غير واضحة بالنسبة لمحطة تلمسان، وهو أمر مؤسف لأن ذلك سيقود إلى العودة للوراء خاصة بعد نجاح المشروع، كونه يحمل أبعاد اقتصادية كبيرة ويساهم في الأمن الغذائي والمائي أيضا.
وترى بغلي أنه من الضروري التحسيس بأهمية إعادة استعمال المياه المعالجة عبر محطات التطهير كونها تمثل موردا ثمينا وهاما، داعية إلى عدم جعله موردا ضائعا، والعمل على توسعة محطات التطهير، وتجهيزها بأحدث الحلول، وكذا تجهيز المحطات المسقية بشبكة ري، وتحسيس الفلاحين باستعمالها خاصة وأنها مجانية، قائلة: “نضرب عصفورين بحجر واحد من خلال تأمين الأمن المائي والغذائي معا والمساهمة في الاقتصاد الوطني”.
ولفتت الأستاذة إلى أن الصحراء ليست ببعيدة عن تلمسان بل على العكس هي على مقربة منها بسبب التغيرات المناخية، والتنمية المستدامة تفرض إعادة تدوير المياه المستعملة واستخدامها في الفلاحة، خاصة وأن الجفاف وتداخل الفصول والنمو الديمغرافي كلّها تحديات تفرض الذهاب لهذا الخيار بقوة، والعمل على تخزين كميات كبيرة من المياه.
من جهة أخرى أكدّت على أهمية تسريع بناء محطات تطهير وتعميم الذهاب نحو المعالجة الثلاثية بعد التحكم في المعالجة الثنائية، واستغلال الحمأة أو الطمي، وتمكين الشباب من أصحاب المؤسسات الناشئة من استغلالها لتوزيعها وفق شروط، والذهاب نحو تثمين الماء عبر الاقتصاد في استهلاكه.