تقود الجزائر، منذ أزيد من ثلاث سنوات، مساعي ودية متواصلة بغية إدخال الأموال المكدسة إلى المنظومة المالية الرسمية للبلاد، في توجه تعمل من خلاله الجزائر على تحديث وعصرنة النظام المصرفي عبر إلغاء قانون القرض والنقد الذي تحول إلى اسم قانون النقد والقرض المصرفي، والذي جاء بثورة مالية كبرى تهدف إلى الرقي والنهوض بالقطاع المالي الجزائري ككل، من خلال رقمنة الدينار وتطوير النظام البنكي، وهيكلة الممارسات والمعاملات المالية وفق الأطر المنتجة اقتصاديا، إضافة لإدخال الأموال المكدسة في العجلة المالية للنظام البنكي لتشكل رافد فعالا في مسار النمو والتقدم الاقتصادي الذي تعمل الجزائر على تحقيقه.
قال الخبير الاقتصادي عبد الرحمان هادف، لابد من إيجاد حلول لملف الأموال المكدسة على المستويين التنظيمي والعملياتي؛ لأن هذا الملف ذو بُعدين؛ بُعدٌ أخلاقي يتعلق بالمواطنة بالنسبة للأشخاص والمنظمات التي لديها هذه الأموال، وبُعدٌ اقتصادي؛ لأن هذه الأموال أصبحت تؤثر على السيرورة الطبيعية بالنسبة للاقتصاد الوطني وعلى الحلقة الاقتصادية بصفة عامة، لأن هذه الأموال أصبح لديها وزن كبير على السوق المالية والاقتصاد بصفة عامة، ما يستلزم إيجاد حلول عملية ومعالجة هذه الوضعية التي تسمح للجزائر، وهي في مرحلة تحول اقتصادي بامتياز، أن تُصلح وتنظم السوق المالية، ومن ثم الأسواق الأخرى كسوق السلع والخدمات ومن ثم السوق العقاري وكل الأسواق التي تعتبر من بين مصادر تمويل عجلة الاقتصاد.
وحول توجه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لاستعادة هذه الأموال إلى السوق المالية الرسمية، أضاف هادف أن الجزائر ماضية تحت قيادة الرئيس تبون إلى تحقيق تحول اقتصادي بامتياز، وبالتالي هناك نوايا لتطهير وإصلاح السوق والنظام المالي، التي أصبحت ضرورة، والخطوة تندرج ضمن مسعى ومشروع مجتمعي يهدف إلى جعل الجزائر قوية اقتصاديا، حيث من المفروض أن هذه الأموال المكدسة تصبح ذات دور إيجابي في الحركة الاقتصادية من خلال ضخها في مشاريع استثمارية في قطاعات استراتيجية مثل القطاع الفلاحي، الصناعي والسياحي ما يعود بالفائدة على أصحاب الأموال ذاتهم والمجتمع الجزائري والاقتصاد الوطني ككل. وأوضح ذات المتحدث، أن إرادة رئيس الجمهورية قوية ونبيلة لتقوية الاقتصاد الوطني وتحقيق توازنات في كل المجالات لتحقيق السيادة الاقتصادية الوطنية، ورفع قيمة الدينار، حيث أن بقاء هذه الأموال في هذا الوضع يجعلها تقع تحت طائلة التضخم مما يضعف قيمتها.
بالمقابل، قال هادف إن بقاء هذه الأموال خارج الإطار الرسمي والبنكي المقنّـن، سيؤثر على التوازنات المالية والنشاط الاقتصادي للبلاد بصفة عامة، من خلال تقلص إيرادات الخزينة العمومية جراء التهرب الضريبي، وإعاقة الاقتصاد من الجانب التقني، حيث سيتأثر الاقتصاد جراء وجود أزيد من 90 مليار دولار خارج أطره الرسمية، كما يؤثر هذا الوضع على صورة الجزائر كوجهة للاستثمارات، وهو وضع يُعرقل كذلك حركة الاستثمار ما يحد من النشاط الاقتصادي، بحيث أن معالجة هذه الظاهرة سيسمح بإعادة النشاط الاقتصادي تدريجيا والحصول على مصادر تمويل واستثمار في شتى القطاعات؛ لأن هذه الأموال ستستعمل بشكل منتج إذا تم ضخها في المسار الاقتصادي، وتساهم في تمويل المشاريع وتحريك العجلة التجارية وتدخل تدريجيا للمسار البنكي، ما يسمح برفع نسبة الادخار على مستوى المؤسسات المالية والبنكية.
بالمقابل، أفاد محدّثنا أن رئيس الجمهورية أولى أهمية للموضوع وقدّم ضمانات، وألقى بإشارات إلى ضرورة معالجة هذه الوضعية، كما ألقى بتحذيرات جدّية – في الوقت نفسه – وهو أمر طبيعي، بحكم درايته بوضعية الاقتصاد الكلي للبلاد، وبخبايا كثيرة تخص هذا الملف الذي يتعلق بالأموال المكدسة والمهربة والخارجة عن المسار الرسمي، حيث وجه من يكدسون الأموال لينخرطوا في المسار الرسمي، ويصبحوا فاعلين في المجال الاقتصادي، موازاة مع إجراءات عملية وتقنية تخص تفعيل دور البنوك، من خلال التحسيس والاقتراب أكثر من أصحاب الأموال والذهاب للأسواق ومحاولة تقديم استشارات ونصائح لتقبل هذا الوضع.
ودعا هادف إلى ضرورة ضبط سوق الجملة والاستيراد، لمحاربة التهرب الضريبي، خاصة مع بروز التكنولوجيا الرقمنة ما يسمح بالتحكم في الفوترة، ما يستلزم إعادة النظر في منظومة الفوترة من خلال نظام مركزي يعمل باستخدام التكنولوجيات الرقمية وفيه نظام معلوماتي مركزي، وكل ناشط في النظام التجاري أو الصناعي يتم تسجيله، وتكون هناك متابعة آنية وحقيقية لكل النشاطات، لتتبع كل النشاطات التجارية والتقليل بنسبة كبيرة من هذا التهرب والتحايل على القوانين، خاصة مع القانون المصرفي والنقدي الجديد الذي يرمي لتحديث وعصرنة النظام البنكي، بالإضافة إلى إمكانية الذهاب إلى إجراءات ردعية جذرية، منها إمكانية المتابعة القضائية والمعاقبة، إضافة إلى إمكانية الذهاب إلى تغيير العملة التي تفرض على هؤلاء الأشخاص، حيث سيلزمهم بإخراج هذه الأموال، الذي هو إجراء جذري مكلف ومجهد، لكنه سيناريو وارد إذا لم يكن هناك تجاوب إيجابي مع هذه الإرادة السياسية.
وحسب هادف، فإن عودة الأموال المكدسة يندرج ضمن توجه وقائي لمحاربة الأموال التي تستعمل خارج الإطار القانوني؛ لأنها كانت تستعمل غالبا في عمليات غير بريئة وغير سليمة قانونيا. لكن اليوم، تم سن قانون لمكافحة المضاربة، وقانون لمكافحة الإجرام المنظم وحركة الأموال المشبوهة، وعلى أصحاب الأموال المكدسة أن يعوا بأنهم تحت طائلة قوانين تعاقب حركة وتكديس الأموال، بغية استعمالها في نشاطات غير رسمية ونشاطات يمكن أن تصنف بالإجرامية وحتى بالإرهابية وينبغي الحذر من هذا الجانب، لأن هذا سيأخذ بُعدا آخر.