حمل النداء الأخير لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الموجّه إلى أصحاب الأموال المكدسة، العديد من المؤشرات حول نيّة الدولة في وضع حدّ للأضرار التي يسببها السوق الموازي للاقتصاد الوطني، وفي الوقت نفسه تحمل دعوة الرئيس تبّون بدائل وحلولا لمكتنزي أموالهم بعيدا عن السوق الرسمية.
عقب كل خرجة لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبّون، يزداد المتابعون للشأن الاقتصادي يقينا بأنّ الدولة ماضية في مخطط الإصلاح الاقتصادي، وتفكيك «الألغام» التي تعترض طريقها دون هوادة، بداية بسياسة الترغيب ومد اليد من أجل عدم تضييع الفرص. فالرئيس تبون أثبت في كل مرّة أنه ليس من دعاة الإقصاء، لكنّه يطبق كل الإجراءات القانونية التي من شأنها أن تحمي الاقتصاد الوطني.
قال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في اجتماع الحكومة مع الولاة، إنه قدّم «ألف وألف وألف ضمان لهؤلاء حتى لا تُفسِد هذه الأموال الاقتصاد وتخلق التضخم.. لكنهم لم يستجيبوا». ويرى متابعون للشأن المالي بالجزائر، أنّ محاولات الدّولة لاستقطاب الأموال المكدسة لم تقتصر على النداءات التي يطلقها المسؤولون عبر مختلف المنابر والمناسبات، بل تجسدت من خلال استحداث آليات جديدة عبر المصارف والبنوك تتماشى ومتطلبات أصحاب الأموال، بالإضافة إلى فتح المجال أمام المستثمرين ورجال الأعمال للاستثمار في قطاعات الفلاحة والسياحة والنقل وغيرها من الاستثمارات التي تضمن إدماج الأموال ضمن مسارها الرسمي.
يرى الخبير الاقتصادي المختص في الهندسة المالية والتجارة الدولية، الدكتور عبد الرحمن بن يمينة، أنه يمكن فهم دعوة الرئيس تبون لأصحاب الأموال المكدسة لإدماج أموالهم في السوق الرسمية عن طريق إيداعها في البنوك، بمثابة الدعوة إلى الرجوع للمسالك الاقتصادية المنتجة للثروة بطريقة رسمية. ويضيف محدثنا، أن الجزائر تزخر بكل مقومات الاقتصاد الرسمي من هيئات مالية ومؤسسات ذات طابع تجاري وغيرها.
وأشار الأستاذ بن يمينة، إلى تشكّل أموال مكدّسة خارج المسالك الاقتصادية الرسمية في الجزائر خلال الفترة السابقة، وهو الأمر الذي لا يمكن الاعتماد عليه في بناء اقتصاد قوي، بالرغم من الكتلة المالية الضخمة التي يتم تداولها خارج المسلك الرسمي. وذكّر محدثنا بمحاولات الحكومات السابقة استقطاب هذه الأموال ودمجها ضمن مسارها الرسمي، إلاّ أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل. وبالرغم من السياسة المالية الجديدة والآليات المستحدثة على مستوى المصارف والبنوك التي أنتهجتها الدولة في عهد الرئيس تبون، والتي تضمن لأصحاب هذه الأموال آليات تتماشى مع متطلباتهم من صيغ إسلامية محض، إلاّ أن الأموال المكدّسة خارج الأطر الرسمية، ما تزال تشكل حجر عثرة أمام النهوض بالاقتصاد بالصفة التي تنشدها الدّولة.
وأفاد الخبير الاقتصادي المختص في الهندسة المالية، أن الغالب في تعاملات الجزائريين المالية يتم نقدا، مستشهدا بمثال بسيط يتكرر أمام مراكز الجباية أين تجد طوابير لا متناهية عند الشبابيك المختصة في الدفع نقدا، في حين نجد أن الشبابيك الأخرى فارغة، ناهيك عن التعاملات التجارية، سواء عند تجّار الجملة أو التجزئة، ما يدلّ على ترسخ ذهنية التعامل نقدا لدى الجزائريين.
تغيير الذهنيات
وأضاف محدثنا، أن ما ترمي إليه الحكومة هو تغيير الذهنيات في التعاملات التجارية من المستهلك الى المنتج أولا، من خلال توفير العديد من الآليات الرقمية كالبطاقة البنكية والتطبيقات التي تسمح بإجراء عمليات مالية عن طريق الانترنت، وهو ما سيسمح بتسريع حركة الأموال، ما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني بشكل عام.
وأوضح الدكتور بن يمينة، أن التحويل السريع للأموال يضمن حركية تجارية وانسيابية في السلسلة التجارية، وأي تعطيل في حركة الأموال ضمن مسارها الرسمي قد يؤدي إلى خلل في المسلك الاقتصادي الرسمي، فما بالك بغياب كتلة مالية يصفها العديد بأنها ضخمة خارج المسالك الاقتصادية الرسمية.
وأفاد المختص في الهندسة المالية والتجارة الدولية، أن مرور كل الأموال عبر المسلك الاقتصادي الرسمي سيسمح بتوفير كتلة مالية لدى البنوك، وبالتالي ضمان تمويل للمشاريع الكبرى، بالإضافة الى انتعاش في البورصة الجزائرية، خاصة مع توفر عنصر السرعة الكبيرة في حركة الأموال، وهو ما سيؤدي حتما إلى تشكل قوة اقتصادية تملك مقومات قياس مؤشرات نمو الاقتصاد أو تراجعه.
حركية اقتصادية
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي عبد القادر سليماني، أن رئيس الجمهورية تحدث عن الأموال المكتنزة بنبرة تحمل عتابا على أصحابها، خاصة أنّ عديد الخبراء يقدّرون حجم الكتلة النقدية في السوق الموازي بصفة تقريبية بنحو 90 مليار دولار، وهي الكتلة التي بإمكانها إرساء حركية اقتصادية كبيرة في حال دمجها ضمن المسار الرسمي.
وعدّد محدثنا الفوائد الجمّة في حال ما تم دمج الأموال المكتنزة لدى التجار والمستثمرين ورجال الأعمال، كتنشيط الحركية في المصارف والبنوك، بالإضافة إلى مجال التمويلات والقروض لأصحاب المؤسسات المتوسطة والصغيرة وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الخلاّقة للثروة.
وأضاف سليماني، أنّ أغلب الاقتصادات عبر العالم لا تعتمد على التداول التقليدي للأموال وتعمل على إدماج السيولة النقدية في البنوك والتعاملات الرسمية من أجل الحفاظ على الأسعار والتحكم في التضخم، مشيرا إلى أننا في الجزائر ننتظر بفارغ الصبر قانون النقدي والمصرفي والائتماني الجديد الذي سيحلّ مكان قانون النقد والقرض، ومن المنتظر منه أن يعطي صلاحيات واسعة للبنك المركزي وأدواته من أجل التحكم في أسعار السلع والخدمات وكبح التضخم.
من جهة ثانية، وصف محدثنا الإجراءات التي شرعت، وستواصل فيها الحكومة من أجل دمج هذه الكتلة المالية المكتنزة في السوق الرسمي بالإجراءات التحفيزية، مشيرا إلى عصرنة القطاع المصرفي وفتح رؤوس الأموال للمؤسسات الاقتصادية المتعثرة وغيرها من الإجراءات التي تضمن مردودية لأصحاب الأموال ولاقتصاد البلد.