اعتمدت الجزائر “الاكتفاء الذاتي” كمفهوم معبر عن الاستقرار التغذوي، بشكل موسع إلى غاية أوائل التسعينيات، حيث تم التخلي عنه لصالح مفهوم الأمن الغذائي، الذي تم التوافق على تعريفه في مؤتمر القمة العالمي للأغذية عام 1996. وسعياً منها لتقوية وتعزيز أمنها الغذائي استهدفت مختلف المخططات الحكومية الجزائرية منذ سنة 2000 توسيع القاعدة الغذائية والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية.
تعددت أدوات السياسة التغذوية من البرامج الاجتماعية والاقتصادية، التي ارتبطت بجزء من خطط التنمية وفي مختلف القطاعات كالطاقة، الصحة العامة، السكن الاجتماعي، الحماية الاجتماعية والتضامن الوطني، وحافظت الدولة خلال العقود الماضية على تغطية عجز الإنتاج الوطني في تلبية الطلب على الغذاء بتوفير الإمدادات من السوق الأجنبية.
كما عملت الجزائر على حماية القوة الشرائية، عبر تدابير رئيسية تتعلق بالإعانات وتحديد هوامش الأسعار لعدد من المنتجات الأساسية مثل الخبز والحليب، السكر وزيوت الطعام، علاوة على ضبط الإنتاج والتسويق لمنتجات الأساسية واسعة الاستهلاك (SYRPALAC)، ودعم القطاعات الأساسية (القمح والحليب) من خلال مساعدات الإنتاج أو المعالجة، وأخيراً المعونة الغذائية المباشرة المعهودة في شهر رمضان.
بحسب الدراسة التي أعدها الدكتور لخضر مداني، أستاذ محاضر بجامعة البويرة، فإن المؤشرات الدولية للأمن الغذائي تطلعنا إلى تحسن الوضع في الجزائر -بين الستينيات وسنوات الألفية الجديدة – بشكل ملحوظ من الناحيتين الكمية والنوعية، حيث تضاعفت حصة الفرد من الغذاء -معبراً عنها بالسعرات الحرارية – لتصل إلى 3112 سعرة حرارية عام 2011، وتحسنت -من الناحية النوعية- الحصص الإجمالية للبروتين (من 77 إلى 92,3 غرام / الفرد / يوم بين 2002 و 2017)، وبصفة أخص سجل البروتين الحيواني بعض التقدم (من 19 إلى 25,3 غرام /الفرد/ يوم بين 2000/2002 و 2017)، إلاّ أنه ورغم هذا التقدم يبقى أقل بكثير مقارنة ببعض دول الجوار مثل اسبانيا أين يصل إلى 65.2 غرام / الفرد / يوم.
كما يشير مؤشر الجوع العالمي Global Hunger Index لسنة 2022 أن الجزائر تحتل المرتبة 32 من بين 121 دولة عالميا، محققة نتيجة 6.9 نقاط ، ما يصنفها ضمن الدول التي لديها مستوى الجوع منخفض جدا، وذلك استنادا إلى مؤشرات تقيس نقص التغذية وتلتقط الوضع الغذائي للسكان ككل، وكذا مؤشرات الحالة التغذوية لمجموعة فرعية معرضة للخطر ألا وهي فئة “الأطفال”.
وبحسب ذات الدراسة فإن هذه المؤشرات تمثل الغابة التي تخفي الوضعية الحقيقة لاستدامة أمن الجزائر الغذائي، الذي لا يزال يواجه تحديات اقتصادية، واجتماعية وديمغرافية، على رأسها تحدي الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين أمام أهمية النفقات الغذائية في ميزانية العائلة الجزائرية، وتحدي تلبية احتياجات الفئات الاجتماعية الهشة، وتوفير القدرات التمويلية للدولة لهذا النهج على مستوى الميزانية العامة للدولة، والعملة الصعبة لتغطية الواردات الغذائية، وتحدي انقطاع أو تذبذب الإمدادات الغذائية في الأسواق الدولية والتغيرات غير المتوقعة في مستويات الأسعار في فترات الأزمات، ويزيدها تعقيدا تحدي الحفاظ على الموارد الطبيعية في ظل التغير المناخي الذي لم يستثن منطقة من العالم وما يفرضه من معالجة عميقة لقضايا إدارة الموارد المائية والأراضي الفلاحية.
ملف الأمن الغذائي العربي في قمة الجزائر
يؤكد البروفيسور إبراهيم آدم أحمد الدخيري، المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الزراعية في لقاء مع “الشعب”، أن الأمن الغذائي، ملف بات يفرض نفسه على طاولات النقاشات الإقليمية بعد نشوب النزاع بين روسيا وأوكرانيا، وتسجيل ضمور في سلاسل الإمداد، وسيكون من بين أهم الملفات التي يُنتظر التطرق إليها في القمة العربية الـ 31، بحيث يُتوقع أن تواجه المنطقة العربية عموما، على غرار باقي دول العالم، صعوبات في ضمان أمنها الغذائي نظراً لاعتمادها بشكل كبير على واردات الغذاء من مناطق مختلفة من العالم تبقى أبرزها روسيا وأوكرانيا، ويتابع المدير العام للمنظمة حديثه بالقول إن “هناك العديد من الملفات الراهنة جُمعت كلها تحت تسمية الأمن الغذائي، وفيها أكثر من تدخل على مستوى زيادة الإنتاج والإنتاجية والرفع من التبادل التجاري بين الدول العربية، علاوة على تسجيل اهتمامات كبيرة بمسألة ضرورة اعتماد العالم العربي على موارده وطاقاته الطبيعية والمالية والخبرات البشرية ضمانا للأمن الغذائي من داخل منظومة المنطقة العربية”.
من جانبه يؤكد الدكتور خالد الحنفي، أمين عام اتحاد الغرف العربية، في تصريح لـ “الشعب” أن القمة العربية التي ستحتضنها الجزائر تتيح فرصة حقيقية للعرب للجلوس معا بعد أن أعادت الأزمة الروسية الأوكرانية الاستقطاب الدولي من جديد وأعادت معها ملفي الطاقة والأمن الغذائي للواجهة الدولية. ويرى ذات المتحدث أن التحديات الماثلة تستدعي اتخاذ إجراءات عملية وعاجلة لتفعيل العمل الاقتصادي العربي المشترك بناء على إستراتيجية جديدة تحاكي لغة الحاضر والمستقبل وتستهدف المواطن العربي وأولوياته واحتياجاته وطموحاته وتطلعاته المستقبلية، وعليه فإن ضمان الأمن الغذائي والمائي العربي يستوجب اليوم التركيز على التكنولوجيا الزراعية الحديثة والزراعة الذكية وترشيد الاستهلاك المائي، وتطوير مناطق لوجستية للتجارة والاستثمار الغذائي، وإطلاق مبادرات جديدة لتشجيع الشباب العربي على ريادة الأعمال في الابتكارات الزراعية الرقمية وفي تنمية الموارد المائية.
دور الجزائر في ضمان الأمن الغذائي العربي
وفي سياق متصل، يوضح البروفيسور أحمد الدخيري، المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الزراعية، أن للجزائر مقدرات زراعية جد معتبرة، تمكنها من ضمان أمنها الغذائي والمساهمة في دعم الأمن الغذائي العربي، وقد أنجزت المنظمة دراسة المعمقة في هذا الشأن، تندرج ضمن برنامج خاص أطلق عليه تسمية “البرنامج العربي لاستدامة الأمن الغذائي”، وقد خلصت الدراسة إلى أن الجزائر أحدى الدول التي يعول عليها بشكل كبير للمساهمة في توفير الأمن الغذائي العربي، بالنظر إلى توفر الموارد المائية والمساحات الزراعية، والتنوع المسجل في الزراعات المطرية التي تحتاج إلى معالجات محددة تمكنها من المساهمة بشكل فعال في تزويد المنظومة العربية بموارد غذائية، وبالأخص القمح الذي يعد من المحاصيل التي تسجل المنطقة العربية عجزا كبيراً فيها، وتقترح المنظمة في دراستها لرفع هذا العجز، استعمال التقنيات الزراعية الحديثة وتأهيل المزارعين وتكوينهم والاستفادة من الطاقات المتوفرة.