بإصدار المرسوم الرئاسي الذي يحدد القانون الأساسي النموذجي للمؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري التابعة للقطاع الاقتصادي للجيش الوطني الشعبي سنة 2008، عرفت الصناعة العسكرية الجزائرية تحولاً جوهرياً.
مكن المرسوم من استحداث مؤسسات عمومية ذات طابع صناعي وتجاري تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، تلحق في وصايتها إلى وزير الدفاع الوطني.
وعليه، تحويل مصانع الصناعات العسكرية إلى مؤسسات عمومية ذات طابع صناعي وتجاري، كان بمثابة دعوة صريحة لتضافر جهود الجميع لدفع مسيرة التصنيع العسكري إلى مجالات أكثر تطورا، وكانت أهداف إنشاء هذه المؤسسات هي: بناء قاعدة صناعية متكاملة للصناعات العسكرية تكفل إقامة وإنماء وتطوير هذا المجال الحيوي، وتتولى مسؤولية توفير احتياجات القوات المسلحة والقطاعات العسكرية الأخرى بالأسلحة والذخائر والصناعات المكملة والمساندة لها، وبأيد وطنية.
نسلط الضوء على جزء من الصناعة العسكرية الجزائرية التي عرفت تطوراً ملحوظاً منذ انطلاق أولى محاولاتها إبان الثورة التحريرية، ونتطرق رفقة فاعلين في الصناعة العسكرية في أبرز مستجدات هذا القطاع وبالأخص ما تعلق بصناعة المركبات.
الصناعة العسكرية إبان ثورة التحرير
بحسب مقال نشر في مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية الصادرة عن جامعة الجزائر 1، في عددها الأول بعنوان “الصناعة العسكرية: رافعة اقتصادية للنهوض بالاقتصاد الوطني”، عرف تاريخ الصناعة العسكرية نشاطاً وتطوراً كبيرين خلال الثورة التحريرية.
الجيش يؤسس لقاعدة صناعية نموذجية
حاولت جبهة التحرير الوطني تأمين السلاح بالاعتماد على صناعته محليا. وحسب محضر جلسات مؤتمر الصومام 1956، كان السلاح المتوفر قليلا بالمناطق الست التي شهدت اندلاع الثورة، وقد استمد جيش التحرير الوطني أسلحته في الداخل من مصادر مختلفة، كما اشترت جبهة التحرير الوطني مزارع في الأرياف المغربية، وأنشأت فيها مراكز بغرض صناعة السلاح وهي: “سوق الأربعاء” لصنع الرشاشات وبعض قطع المدافع، إضافة إلى “بوزنيقة” التي أنشأت فيها مسبكة لصناعة القنابل والأخمس الخاصة بالرشاشات، و”تمارة” لصناعة ماسورات الرشاش وتركيب قطع الأسلحة، “المحمدية” لصنع قطع خاصة بالمدفع والرشاش، وكان بها مخبر للمواد الكيميائية.
وبفضل الجهود المكثفة للثورة في التسليح – حسب المجلة ذاتها- استطاع قادتها توزيع الأسلحة على فرق جيش التحرير الوطني وفق متطلبات العصر وتنظيمه في شكل فيالق.
بعد انفجار مصنع باتنة لم يجد مسيرو الثورة حلا إلاّ اللجوء إلى قدماء المنظمة الخاصة في المتيجة، حيث دشنت مراكز لصناعة القنابل التي فجر جزء منها ليلة أول نوفمبر بمتيجة والجزائر العاصمة.
صُنعت القنابل بالتعاون مع مناضلين من العاصمة، حيث تم تحضير دفعة أولى متكونة من 350 قنبلة تقليدية، وقامت القيادة اللوجستيكية للجبهة الشرقية بتركيز نشاطها في هذا الميدان على إيجاد مراكز لصيانة وإصلاح العتاد العسكري للثورة التحريرية من شاحنات وس
يارات عسكرية، حيث ثم إنشاء مركزين بليبيا وتونس، قاما بإصلاح 100 سيارة وشاحنة عسكرية في مدة 18 شهرا.
على مستوى الجبهة الغربية، ركزت صناعة الأسلحة قبل جانفي 1960 على صناعة المتفجرات، ويمكن تحديد إجمالي الإنتاج الذي حققته ورشات الأسلحة بين جانفي 1960 وأوت 1961 بـ1990 رشاشا و2500 قنبلة في الفصل، علاوة على 1800 قذيفة “موريتي”.
الصناعة العسكرية بعد الاستقلال
بدأ تجسيد فكرة إنشاء صناعة عسكرية، بتشكيل خلية تفكير مكلفة بتحديد تصور حول تنمية هذا القطاع الحيوي، فانطلقت الصناعات الوطنية للدفاع، موازاة مع إنجاز دراسات تقنية في فروع الصناعة العسكرية، ليتم تدعيم هذا القطاع تدريجياً بقدرات جديدة لإعادة البناء والتصنيع، وقد توجت هذه المجهودات بإنشاء مندوبية الإنجازات والصناعات العسكرية.
ووفقا لنفس المقال الصادر في مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية، انطلقت المؤسسات العسكرية والمدنية بعد الاستقلال في تجسيد برنامج خاص بالصناعات العسكرية، والذي شمل مختلف المواد، منها المتفجرة ذات الاستعمال الصناعي والتوابع النارية وغيرها، في حين شملت نشاطات تنمية الصناعة، الشروع في إنشاء معامل الأسلحة والذخائر للمشاة.
وظهرت المؤسسات الاقتصادية العسكرية التي تكونت نتيجة للتأميمات التي قامت بها الدولة، في فترة لاحقة ممثلة على الخصوص في المكتب الوطني للمواد المتفجرة والطباعة الشعبية للجيش ومؤسسة الأحذية والألبسة.
ظهرت المؤسسة العسكرية ذات الطابع الصناعي والتجاري كهيئة وزارية، لا تختلف عن باقي الوحدات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الوطني، لها تنظيم عسكري مركزي يخضع لنص قانوني خاص وسلطة رئاسية، وهي مقيدة من حيث نشاطاتها المادية وتصرفاتها القانونية.
فحسب المرسوم 56 -82، إنشاء المؤسسة العسكرية ذات الطابع الصناعي والتجاري وتحديد مقرها وإعادة هيكلتها لا يكون إلاّ بمرسوم وبقرار من وزير الدفاع الوطني على اقتراح السلطة الوصية المفوضة، فيما يخص تنظيمها وأهدافها. فحسب المادة الثانية من قانونها الأساسي النموذجي، مهامها العمل من أجل تحقيق الأهداف التي يقرها وزير الدفاع الوطني لفائدة الجيش الوطني الشعبي والسوق الوطنية عموما، والتعامل بصفة تفضيلية وامتيازية مع الجيش الوطني الشعبي، حسب نص المادة الرابعة من نفس المرسوم .
كانت أولى خطوات الجيش في التصنيع العسكري عندما فرضت دول عديدة حظرا على بيع السلاح للجزائر، أثناء العشرية السوداء، فقام الجيش بإنشاء وحدات لصناعة ذخائر الأسلحة الخفيفة والقذائف المدفعية وإنشاء وحدات لصناعة السفن وأخرى لصناعة طائرات التدريب.
تجربة صناعة المركبات
شرعت الشركة الجزائرية لصناعة السيارات من علامة “مرسيدس بنز” في نشاطها بعد تدشينها في 24 أكتوبر 2014، بينما تعود فكرة إنشائها إلى سنة 2008، وهي عبارة عن شراكة ثلاثية: الطرف الجزائري وشركة “آبار استثمار PJS” الإماراتية والشريك التكنولوجي الألماني “دايملر”. تمكنت الشركة منذ نشأتها من تطوير وتكثيف قدراتها الإنتاجية ومعها نسبة الإدماج.
تنتج الشركة الجزائرية لصناعة السيارات من علامة “مرسيدس بنز” حالياً المركبات النفعية وسيارات الإسعاف والعربات الخاصة، مثل تلك الموجهة لمكافحة الحرائق، وللشركة فرع آخر بالمنطقة الصناعية لرويبة بالجزائر العاصمة، يُعنى بصناعة الشاحنات.
ينتج مصنع رويبة شاحنات ACTROS وZETROS وACCELO وغيرها من المنتجات التي يصل عددها الإجمالي حوالي 30 مركبة.
ويؤكد مصطفى تلمساني، وهو ملازم أول تابع لمديرية الصناعات العسكرية في تصريح لـ”الشعب”، أن نسبة الإدماج ارتفعت بصفة معتبرة منذ انطلاق المصنع، خصوصا وأن إدارة الشركة تتجه نحو الخوض في نشاط هيكلة السيارات.
وبحسب المتحدث، ارتفع الطلب بشكل كبير على العربات التي تصنعها الشركة، خاصة السيارات النفعية وسيارات نقل الأفراد وسيارات نقل البضائع، التي تلاقي رواجاً كبيراً.
ويؤكد الملازم الأول أن الجزائرية لصناعة السيارات تعمل على تطوير تجهيزات المركبات من حيث مكونات الراحة والشكل الخارجي لجعلها أكثر حداثة، على أن يتم هذا بالتعاون مع شريك جزائري.
فروع الشركة
للشركة العديد من المؤسسات الفرعية التي تؤدي مهام مختلفة، مثل الشركة الجزائرية لإنتاج الوزن الثقيل مرسيدس بنز، وAMS الجزائر، مهمتها تسويق العربات المنتجة من طرف المؤسسة الجزائرية لصناعة المركبات ذات العلامة مرسيدس بنز، إضافة إلى مؤسسة تطوير صناعة السيارات، وهي مؤسسة مكلفة عن طريق المؤسسة الجزائرية لصناعة المركبات ذات العلامة مرسيدس بنز، والشركة الجزائرية لإنتاج الوزن الثقيل مرسيدس بنز، بضمان تصميم، دراسات، تطوير، إنتاج وتسويق السيارات النفعية والسيارات الخفيفة للعلامة الألمانية مرسيدس بنز، ودراسة وتطوير منتجاتها.
تحوز الجزائرية لصناعة السيارات شركة فرعية أخرى هي الشركة العريقة SNVI أو “سوناكوم”، التي أصبحت تابعة للجيش الوطني الشعبي. تصنع هذه الشركة شاحنات وحافلات “سوناكوم” وتلبي حاجيات مختلف المؤسسات الوطنية من هذه المركبات.
دور ريادي في دعم اقتصاد سيّد وصلب
ويؤكد الملازم الأول تلمساني مصطفى، أن الأداء الاقتصادي لـSNVI التي عرفت في وقت مضى العديد من المشاكل المالية والتسييرية وحتى البشرية، تحسن بشكل ملحوظ بعدما أُلحقت بمؤسسة الجيش الوطني الشعبي، ويظهر ذلك جلياً من خلال المنتجات الجديدة التي تصنعها والتطويرات التي طرأت عليها، إضافة إلى عدد المركبات المنتجة والذي عرف تزايداً معتبرا. ويوضح المتحدث أن الطلب على عربات الشركة في تنامي مستمر وهي تلاقي استحساناً كبيراً من طرف مقتنيها، كما تعول على ترقية منتجاتها وتحسين جودتها للمحافظة على مكانتها الرفيعة في سوق المنافسة.
البناء والتصليح البحريين
تصنع مؤسسة البناء والتصليح البحريين التابعة لمؤسسة الجيش الوطني الشعبي بفرعيها في ولاية عنابة وبني صاف بولاية عين تموشنت، الزوارق الخدماتية الموجهة للعمل في الموانئ الجزائرية والمصالح المينائية، إضافة إلى زوارق الإنقاذ وقوارب نصف صلبة وزوارق خاصة بحرس السواحل والموجهة للعمل في قيادة القوات البحرية الجزائرية بواجهاتها الثلاث.
يؤكد المقدم عبد الكريم رحو، وهو إطار بمؤسسة البناء والتصليح البحريين، في حديث لـ “الشعب”، أن المؤسسة التي توفر منتجاتها للمتعاملين الخواص والعموميين على حد سواء، تواكب التطورات التكنولوجية الحاصلة في بناء وتصليح السفن، من حيث الأجهزة المستعملة على المتن، وتقنيات البناء وكل هذا يتم بسواعد جزائرية مئة بالمائة.
من جانبه، يوضح المقدم حمدي رياض، وهو إطار أيضا بمؤسسة البناء والتصليح البحريين، أن المؤسسة تنتج حالياً ستة نماذج بحرية، بين تلك الموجهة للمصالح المينائية المدنية والعسكرية، وتتكفل بكل مراحل الإنجاز، من إعداد التصاميم، مروراً بمرحلة بناء الهيكل وتلحيمه في الورشات، ووصولاً إلى مرحلة تجهيز الزوارق بالأجهزة والمعدات اللازمة، كالرادارات وأجهزة الرفع ومختلف أنواع المحركات، ثم المحطة الأخيرة وهي المرحلة التجريبية، حيث يُعوّم النموذج المنجز ويتم التأكد من كل القياسات، وتجرب مختلف الأجهزة والمحركات التي ينبغي أن تعمل وفق معايير الجودة الضرورية قبل أن يسلم إلى الزبون أو المتعامل النهائي.
من ناحية مدى قدرة مؤسسة البناء والتصليح البحريين على منافسة مختلف المتعاملين الوطنيين والعلامات الأجنبية، يؤكد المقدم عبد الكريم رحو، أن إستراتيجية المؤسسة ترتكز أساساً على البحث المستمر عن أسواق وشراكات مع متعاملين اقتصاديين عموميين أو خواص، إضافة إلى العمل الحثيث على الرفع من نسبة الإدماج، مما يساهم في تطوير الأداء الاقتصادي للمؤسسة.
زيادة على ذلك، تعمل الشركة بصفة مستمرة على مواكبة الحداثة التكنولوجية في الصناعة البحرية من خلال الاستفادة من تراكم الخبرات لدى إطاراتها وكذا تكوين الأطقم البشرية العاملة في مختلف الورشات، وقد آتت عمليات التحديث والترقية المستمرة لمنتجات المؤسسة أكلها، حيث عرف الطلب على زوارقها وقواربها تزايدا مستمراً.
التجديد والعصرنة
ولأن لكل عتاد عمراً حركياً معيناً، طورت الصناعة العسكرية الجزائرية مؤسسة خاصة تعنى بتجديد عتاد السيارات، وهي تابعة للمديرية المركزية للعتاد، وتتمثل المهمة الرئيسية للمؤسسة في تجديد العتاد العسكري وعتاد الأشغال العمومية بمختلف أنواعه وعصرنته.
تنتج وحداتها قطع الغيار المخصصة لتغذية سلاسل التجديد للعتاد التابع لها، وتنجز أيضا غرفا صحراوية تستعمل قاعات تدريس ومطاعم ومراقد للأفراد أو كنوادي.
لمؤسسة تجديد عتاد السيارات مهام أخرى، تتمثل أساساً في انجاز غرف التبريد بمختلف الأحجام بدءً بـ 30 متر مربع، وصولاً إلى غرف ذات 100 متر مكعب، وهي مقسمة إلى قسمين: قسم سالب، وآخر موجب، علاوة على إنتاج حاويات التبريد من خلال استرجاع القديمة منها وتحويلها إلى حاويات تبريد ذات حجم 20 قدم و40 قدم.
وفي هذا الصدد، يوضح المقدم لخضر بوقبيلة لـ”الشعب”، أن “المهمة الرئيسية لمؤسستنا تتمثل في تجديد العتاد، غير أنها تعمل أيضا على عصرنته، والعصرنة في مفهومها العام هي إدخال كل ما هو جديد على الأجهزة القديمة وإعطاء نفس جديد يواكب التطورات التكنولوجية الحاصلة، والمتابعة الدائمة لكل ما هو موجود في السوق بغية ضمان الديمومة والفعالية لعمل مركباتنا”.
حرصٌ وتوجيهات السلطات العليا
حرصاً وضماناً للفعالية والرقي المستمر للصناعة العسكرية الجزائرية، سبق لرئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أول السعيد شنقريحة، أن شدد على ضرورة توسيع دائرة اهتمامات الصناعة العسكرية، لتشمل احتياجات الجيش والأسلاك المشتركة والسوق المحلية وولوج الأسواق الإقليمية والدولية، إضافة إلى تأكيده على الأهمية القصوى التي توليها القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي لقطاع الصناعات العسكرية في البلاد، سواء تعلق الأمر بصناعة الأسلحة والذخائر أو بالصناعات الميكانيكية والعربات العسكرية أو بالألبسة وبمختلف الأغراض العسكرية والتي تمثل مشهدا آخر من مشاهد العمل الميداني الرصين المبني على رؤية استشرافية وبعيدة النظر.
وفي السياق، كان الفريق أول أكد في إحدى تصريحاته على أن تحقيق النوعية من المنتجات الصناعية العسكرية يتم شريطة الحرص على جودتها ومطابقتها للمعايير الدولية المعمول بها في هذا المجال، فضلا عن اعتماد الشفافية وأحدث طرق التسيير العصرية، والرفع من نسبة الإدماج.
وأبرز رئيس الأركان “الحرص الشديد” الذي يوليه لتقييم الخطوات المقطوعة في الصناعات العسكرية بفروعها وتخصصاتها قائلا: “يأتي حرصنا على تقييم الخطوات المقطوعة في هذا المجال، بكل موضوعية وتجرد، لأننا ورغم تقديرنا وتثميننا للإنجازات المحققة إلى غاية الآن، في هذا المجال الهام، إلاّ أننا نعتقد أنه بإمكاننا تحقيق المزيد من الإنجازات، إذا ما تم الاستغلال الأمثل والاستعمال الأوفى لمخزون الطاقات البشرية، التي تتوفر عليه مديرية الصناعات العسكرية، وإذا ما استطاعت المؤسسات الصناعية أن توظف كما ينبغي الوسائل والتجهيزات الموجودة في الحوزة، فبذلك، ستنجح لا محالة في تحقيق الأهداف المنتظرة منها”.