تحجيم الواردات خطة تُسابق الحكومة الزمن لتطبيقها ميدانيا حفاظا على احتياطي العملة الصعبة بعد أن أكّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أنها لن تصرف مستقبلا على الاستيراد من الخارج، تشجيعا للمنتوج الوطني، الذي بدأ يشقّ طريقه في السوق الوطنية ونحو التصدير أيضا.
في هذا المنحى، باشرت الحكومة خطّة دقيقة لإحلال الواردات وتقليص نزيف العملة الصعبة نحو الخارج من خلال منح الأولية في السوق للمنتوج الوطني واستحداث قائمة مواد ممنوعة من الاستيراد، ومراجعة كافة الإجراءات التي تسبق عملية التوطين البنكي للمستوردين بالتنسيق بين مصالح التجارة والبنوك والجمارك.وتراهن وزارة التجارة على تنظيم جديد لنشاط الاستيراد بشكل يُعطي طابع احترافي للمستورد، وأيضا تخفيض فاتورة الواردات وحماية المنتوج الوطني وتحقيق التوازن في الميزان التجاري، من خلال استيراد فقط السلع والمنتجات التي تتطلّبها السوق الوطنية، والاستغناء عن الكماليات والسلع الإضافية التي لن يستفيد منها المواطن شيئا، ولا تلعب أي دور في تلبية حاجيات السوق، ولا تساهم إلا في إثقال فاتورة الاستيراد.
أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خلال اجتماع مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 8 ماي المنصرم، بمراجعة قائمة المواد الممنوعة من الاستيراد وضبطها بهدف حماية المنتوج الوطني وتشجيعه وكذا الدفع إلى خلق نسيج صناعي قادر على تلبية احتياجات السوق الوطنية، وتطوير نظام مراقبة الواردات، خاصة فيما يتعلّق بالسلع المجمركة في البند التعريفي “أخرى“، كما وجّه الرئيس تعليمات إلى الحكومة تقضي بضرورة اغتنام تقلبات السوق الدولية وغلاء أسعار المواد الأولية بالتوجّه إلى استغلال وفرة المواد المُنتجة محليا في تطوير الإنتاج الوطني، واستحداث بنك معلومات يتيح توفير الإحصائيات الدقيقة لمختلف المواد المنتجة محليا تسمح بمعرفة احتياجاتنا الحقيقية.
وسبق وأن أمرت وزارة التجارة المستوردين قبل القيام بأي عملية للاستيراد من الخارج بضرورة التأكّد بأن المنتجات المستوردة غير متوفّرة في السوق الوطنية عبر منصّة رقمية متواجدة بالموقع الإلكتروني للوزارة، تتضمّن قائمة المواد المنتجة محليا، بهدف منح الأولوية للمنتج المحلي، وأيضا تقليص فاتورة الواردات، حيث أوضح بيان لوزارة التجارة وترقية الصادرات، أنّ تقديم طلبات التحقّق يتمّ عبر المنصّة الرقمية للمنتوج الوطني.
وأكّدت الوزارة في بيان لها صادر نهاية شهر أفريل الماضي أن المنصّة “متاحة لجميع القطاعات والمتعاملين الاقتصاديين، وتسمح بالتحقّق من عدم توفر المواد والمنتجات التي يبرمج استيرادها إلى السوق الوطنية”.
وبناء على ذلك، ستتضمّن ملفات طلب التوطين البنكي لاستكمال إجراءات الاستيراد، وثيقة التحقّق التي تسلّمها مصالح الوكالة الوطنية لترقية التجارة الخارجية عبر المنصّة.
وجاء بيان وزارة التجارة وترقية الصادرات مُكملا للتعليمة الصادرة عن الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية بتاريخ 24 أفريل الجاري بترقيم 240 والموقّعة من طرف المفوض العام للبنوك رشيد بلعيد، مُوجهة لمديري البنوك والمؤسسات المالية، تحمل عنوان “تنظيم وترشيد الواردات” بناء على مراسلة من وزارة التجارة للمالية تحمل ترقيم 593 بتاريخ 18 أفريل الماضي، والتي تؤكد استحداث منصّة رقمية للمنتجات الوطنية، تشمل كافة المنتجات المصنعة وطنيا ومتاحة للاستغلال.
كما أمرت التعليمة ذاتها بقيام المستورد قبل إجراء أي عملية للتوطين البنكي، باستخراج شهادة المطابقة من الوكالة الوطنية لترقية الصادرات “ألجكس”، وتهدف هذه الإجراءات جميعها إلى تقليص الواردات وتخفيض نسبة خروج العملة الصعبة من الجزائر نحو الخارج.
وزارة التجارة: لا مساس بقوت الجزائريين
وتأتي إجراءات تنظيم الواردات وسط مخاوف للجزائريين من تسجيل أي ندرة في المواد واسعة الاستهلاك والمواد الأساسية، في السوق خلال الأيام المقبلة، لاسيما وأن قائمة الحظر تتضمن عددا كبيرا من المواد.
وفي هذا السياق، يؤكّد مدير ضبط النشاطات الاقتصادية وتنظيمها على مستوى وزارة التجارة وترقية الصادرات أحمد مقراني في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي” أن وزارة التجارة تبنّت منذ فترة سياسة إحلال الواردات وتحجيم فاتورة الاستيراد من الخارج، مع تشجيع استغلال المنتجات المحلية من طرف المتعاملين الاقتصاديين سواء المواد الأولية أو المنتجات الكاملة، ولكن هذا بعد دراسة دقيقة لحيثيات السوق، ومدى قدرة الحكومة على الاستغناء عن بعض المنتجات والمواد المستوردة من الخارج، دون حدوث أي ندرة أو اضطراب في تموين المواطنين أو عجز في السوق أو نقص في القوت بالدرجة الأولى.
ويعتبر مقراني، أن المتعاملين الاقتصاديين حتى وبعد منع استيراد المنتجات المصنّعة والمتوفرة محليا، بهدف حماية المنتوج الوطني، يقومون في كل مرة بتحيين تفقد المنتجات المسجّلة في المنصّة الرقمية، ومعاينتها، للتأكد من أنها متواجدة بكميات كافية في السوق، لضمان عدم تسجيل استيراد أي منتوج يمكن اقتناؤه محليا.
وحسب مقراني، فقد قام 1500 متعامل اقتصادي بإيداع طلبات لدى الوكالة الوطنية لترقية التجارة الخارجية “ألجكس” بهدف التحقق من عدم وفرة المواد والمنتجات المستوردة في السوق الوطنية قبل القيام بعملية استيرادها إلى غاية 10 ماي المنصرم، ويأتي هذا الإجراء في أعقاب قيام وزارة التجارة بإلزام هؤلاء بمعاينة المنصة الرقمية قبل طلب القيام بأي عملية للتوطين البنكي لاستيراد المنتجات من الخارج.
ويقول مقراني أن الهدف من هذا الإجراء هو حماية المنتوج المحلي من جهة، ومنع خروج العملة الصعبة من جهة أخرى، معتبرا أن مثل هذا الإجراء يُشجع تسويق وتطوير استخدام المنتوج المحلي بكل أنواعه، لاسيما وأن فرض منصّة رقمية للمنتجات الوطنية تمنع على المستوردين طلب التوطين البنكي قبل معاينته.
ويُطمئن مسؤول وزارة التجارة، أن عملية مراجعة وفرة المنتجات في السوق الوطنية تتمّ بشكل دوري، كما أن إجراءات ضبط توفر السلع بالكميات اللازمة متواصلة في حين أن المنصة الرقمية تخضع للتعديل في قائمة المنتجات بشكل مستمر دون انقطاع وأيضا قائمة المواد الممنوعة من الاستيراد، ما يعني بأن المواطن بمنأى عن أي أزمة.
مطالب بالإفراج عن رخص الاستيراد
بالمقابل، يطالب رئيس لجنة التجارة الخارجية على مستوى الجمعية الوطنية للتجّار والحرفيين الجزائريين، حميد بن زاوي الحكومة بضرورة مراجعة قائمة المواد الممنوعة من الاستيراد، والتعجيل في منح الرخص المسبقة لاستيراد العديد من المواد التي قد تشهد ندرة حادة على مستوى السوق الوطنية، في حال عدم رفع الحجر عنها في الظرف الحالي، ويتعلّق الأمر بالدرجة الأولى بالمكيفات الهوائية، خاصة وأن موسم الاصطياف على الأبواب.
ويقول بن زاوي أن الحكومة ملزمة اليوم بمنح رخص استيراد مسبقة للمكيفات الهوائية والمبردات وقطع الغيار المتعلقة بها لضمان عدم ارتفاع أسعار هذه المواد في السوق الوطنية، وأيضا الأدوات المدرسية التي قد تشهد ندرة حادة وارتفاع كبير في الأسعار شهر سبتمبر المقبل، خاصة إذا علمنا أن آخر الرخص تمّ منحها شهر سبتمبر الماضي، ما يكشف عن ندرة حادة لهذه المواد في السوق الوطنية ونفاذ المخزون المحلي والحاجة مُلحة اليوم للاستيراد قبل بداية أو اقتراب الموسم الدراسي المقبل.
ويُشدّد المتحدث في تصريح لـ”الشعب الاقتصادي” على أن الأمر يتعلّق أيضا بمواد التجميل التي تشهد ندرة حادة نتيجة توقف استيرادها منذ مدة دون تموين السوق الوطنية بها، في حين أن الإنتاج المحلي لهذه المواد غير قادر على تغطية طلبات السوق، وهو ما قد يُحدث ندرة وعجز وارتفاع غير مقبول للأسعار خلال المرحلة المقبلة دون بديل.
ويرفض المتحدّث تجريم المستوردين أو تصنيفهم ضمن خانة “شياطين الاقتصاد” معتبرا إياهم حلقة مهمة وأساسية في التجارة الخارجية وعامل رئيسي لضمان استقرار السوق والمحافظة على القدرة الشرائية للمواطن الجزائري بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم حتى في الدول الأكثر تطورا في القطاعات الصناعية والفلاحية، فكافة الدول في العالم تستورد والجزائر لا يمكن أن تعيش بمنأى أو معزل عن ذلك.
كما يلعب هؤلاء المستوردون وفق رئيس لجنة التجارة الخارجية دورا كبيرا في التوظيف وإنعاش مختلف وسائط السوق، مؤكدا أنه لم يتبقّ اليوم إلا 11 ألف سجل تجاري للمستوردين في الجزائر من أصل 48 ألف سجل في السابق، اختفوا في إطار عملية الغربلة التي مسّت قوائم المستوردين خلال الأشهر الماضية، فهؤلاء يساهمون في نشاط أزيد من مليون سجل تجاري آخر، ويتعلق الأمر بالتجّار والموزعين والوسطاء، وغيرهم من عناصر العملية التجارية ومموني السوق، ما يفرض اليوم ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار معهم والاستماع لانشغالاتهم وإعادة تقييم حاجيات السوق الوطنية بإشراكهم، باعتبارهم أحد أهم العارفين بخبايا العرض والطلب في الجزائر.
ضبط الواردات دون إفراط!
وفي السياق، يعتقد خبراء الاقتصاد أن ضبط الواردات أصبح اليوم أكثر من ضرورة لحماية المُنتج الوطني من جهة، وتقليص نزيف العملة الصعبة نحو الخارج من جهة أخرى، إلا أنهم يؤكدون أن العملية يجب أن تتمّ في سياق منظّم، وبعيدا عن الطرق الفوضوية التي من شأنها خلق ندرة في السوق وإحداث أزمة في أوساط المواطنين.
ويؤكد الخبير الاقتصادي كمال خفاش في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي” أن عملية ضبط الواردات يجب أن تتمّ بشكل تدريجي، دون المغالاة في منع الاستيراد، خاصة وأن الشعب الجزائري تعوّد خلال السنوات الماضية على نمط الاستهلاك المفرط واستيراد كل صغيرة وكبيرة من الخارج، بحيث لا يمكن، حسبه، الغلق على الواردات دفعة واحدة، دون مراحل.
ويقول خفاش، أن عملية ضبط الاستيراد، يُفترض أن تستغرق 5 سنوات، عبر المنع التدريجي للمواد الكمالية غير المنتجة محليا، والمواد الأساسية التي يمكن إيجاد بديل لها في السوق الوطنية، وهو ما سيُمكّن مع الوقت من ادخار أزيد من 10 مليار دولار سنويا، إلا أنه طالب بالمقابل بنشر حملات تحسيسية وتوعية للمواطنين، لإدراك أهمية وضرورة ترشيد النفقات وخفض الواردات وتغيير النمط الاستهلاكي، إذ لا يمكن ـ حسبه ـ استبدال عادات استهلاكية رافقت المجتمع لعقود من الزمن بين ليلة وضحاها.
ووفق ذات الخبير، يُمكن توعية المواطنين عبر القنوات التلفزيونية والجرائد وفي المساجد والجامعات والمدارس والمعاهد بأهمية ترشيد النفقات وتقليص الواردات، في المرحلة الأولى، ثم الشروع بعدها تدريجيا في تقليص قائمة المواد المستوردة من الأقل أهمية إلى بعض الكماليات الأخرى.
ويجب وفق كمال خفاش، أن تسبق هذه العملية تحفيز الإنتاج الوطني وتشجيعه، ومنحه التسهيلات اللازمة، لينوب عن الاستيراد، وتشجيع المواطنين على اقتناء كل ما هو محلي بأسعار تنافسية وأقل تكلفة، وتحفيز المتعاملين الاقتصاديين على العمل ومنحهم كل ما يحتاجونه من مرافقة ودعم وتخفيف الرسوم والأعباء.
تحجيم الواردات مقابل رفع الصادرات
من جهته، يرى رئيس الجمعية الوطنية للمصدّرين الجزائريين علي باي ناصري في تصريح لمجلة “الشعب الاقتصادي” أن سياسة تقليص الاستيراد يجب أن تقابلها عملية رفع الصادرات خارج المحروقات، من خلال تحقيق رقم 7 مليار دولار، مثلما أمر به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في توجيهاته الأخيرة بمجالس الوزراء.
ويعتقد المتحدث، أن ذلك لن يتحقّق دون منح المزيد من التسهيلات للمُصدّرين في مجال العمل والنشاط وأيضا حركة الصرف داعيا إلى دراسة وضعية التصدير بشكل أكثر دقة خلال المرحلة المقبلة وفتح مشاورات مع المُصدّرين، و تحفيزات أكبر.
هذا، وتبقى فاتورة الاستيراد المرتفعة عبئا على الخزينة الجزائرية، وجب التخلّص منه بشكل تدريجي خلال المرحلة المقبلة، من خلال رفع الإنتاج الوطني ومنح الأولية لما يُصنع في الجزائر، وتقليص اللجوء إلى الاستيراد المفتوح الذي كان سبب اختلال الاقتصاد الجزائري في الماضي.
إيمان الطيب