يعود تاريخ صناعة الاسمنت في الجزائر المستقلة إلى سنة 1962، حيث أعادت السلطات الجزائرية إطلاق مصانع الاسمنت الثلاث التي كانت تناهز طاقتها الإنتاجية آنذاك 850 ألف طن سنويا، موزعة بين مصنع رايس حميدو بالعاصمة، مصنع زهانة بولاية معسكر، ومصنع مفتاح بولاية البليدة.
عرفت هذه الصناعة تحولا تاريخيا في مسارها خلال سنتي 1967 و 1968، حيث تم في السنة الأولى إنشاء الشركة الوطنية لمواد البناء الجزائرية SNMC، وأممت صناعة مواد البناء في الجزائر في السنة الموالية، وقد كانت هذه الخطوة مرحلة فاصلة في مخطط تطوير صناعة الاسمنت الجزائري الذي قفزت قدرتها الإنتاجية من 850 ألف طن إلى 11.5 مليون طن سنويا.
في سنة 2008 وبعد إدراك السلطات العمومية لتزايد الطلب بشكل معتبر على الاسمنت، ما أدى إلى حدوث ندرة فيه، قررت إطلاق استثمارات موسعة في هذا المجال، ومنحت تراخيص الاستثمار حتى للقطاع الخاص، لتعرف عقبها صناعة الاسمنت ازدهاراً كبيراً، وانتقلت الطاقة الإنتاجية لهذه المادة من 19 مليون طن سنة 2008 إلى 39 مليون طن سنويا في 2017، وتحقق بذلك الجزائر الاكتفاء الذاتي وتتحول من مستورد إلى مصدر سنة 2018، حيث أنجزت أول عملية تصدير لمادة الكلنكر.
في هذا المقال سنسلط الضوء على مدى تطور صناعة الاسمنت في الجزائر بالمرور على أهم الراحل التنموية التي مرت بها وصولا إلى آفاقها المستقبلية وطموحاتها في تحقيق الريادة القارية.
بين الماضي والحاضر
يؤكد رئيس قسم الشراكة-التسويق-التجارة والاتصال بالمجمع الصناعي لإسمنت الجزائر “جيكا”، عز الدين أسفيران في لقاء صحفي أجرته معه مجلة “الشعب الاقتصادي”، أن صناعة الاسمنت الجزائرية ساهمت طيلة سنوات نشأتها بصفة فعالة في دعم مسار التنمية في البلاد، حيث وفرت إحدى المواد الأساسية لتشييد مختلف البنى التحتية الوطنية، كالطرق السريعة والعمارات والمساكن والجسور وحتى المعالم التاريخية والوطنية التي بنيت غداة تأميم مصانع القطاع، كلها أُنجزت بإسمنت جزائري مثلما حول الحال بالنسبة لمقام الشهيد، وقد كان لمجمع “جيكا” الذي يعود وجوده إلى ما يزيد عن نصف قرن، حصة الأسد في هذه الإنجازات.
ويقول أسفيران إن هذه الصناعة المزدهرة لا تزال واليوم تساهم بصفة فعالة في تنويع الاقتصاد الوطني وصادراته خارج المحروقات، فمصانع الاسمنت التي يصل عددها إلى 20 (14 عمومي تابع لمجمع “جيكا” و16 خاص) صدرت خلال عام 2021 ما قيمته 6 ملايين و 200 ألف طن من الأسمنت، في حين تم تصدير ما قيمته 4.7 ملايين خلال السداسي الأول من العام الجاري 2022، أما إجمالي القدرات التصديرية الوطنية فيتراوح ما بين 10 إلى 15 مليون طن سنوياً.
“جيكا” الحديثة
يؤكد رئيس قسم الشراكة-التسويق-التجارة والاتصال أن تراكم الخبرات والتجارب التي اكتسبها المجمع الصناعي لإسمنت الجزائر “جيكا”، انعكس على جودة منتجاته التي عرفت تنوعاً يتماشى مع مختلف القطاعات والصناعات، فعلى غرار اسمنت 32.5 الموجه لمختلف الاستعمالات اليومية والذي أطلقت عليه تسمية حديثة وهي “جيكا بنيان”، استحدثت “جيكا” اسمنت 42.5 أو “جيكا بيطون” وهو نوع من الاسمنت البورتلاندي الجيري موجه للأشغال التي تفوق قوة مقاومتها 32.5 ، بالإضافة إلى اسمنت 52.5 والمسمى “جيكا إنجازات” وهو نوع من الاسمنت البورتلاندي الجيري أيضاً، موجه للأشغال الكبرى، كما ابتكر المجمع اسمنت “جيكا مضاد” والذي تصل قدرة مقاومته إلى 42.5، وهو مقاوم للكبريتات والأملاح ويستعمل خصوصا في الجنوب الجزائري والأراضي التي قد تسبب تربتها تآكلا في الخرسانة، وفي 2019، أنتجت “جيكا” نوعاً جديدا من الاسمنت المخصص للأشغال البترولية وهو “جيكا بتروليوم”، يستعمل تحديداً في تثبيت آبار البترول ورصها، وقد تمكن هذا المنتج من حيازة شهادة المطابقة من المعهد الأمريكي للبترول API بعد مطابقته للمعايير الدولية، وبهذا تمكنت الشركة من تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه المادة التي كانت تستورد في وقت مضى، وشرعت في التفكير بتصديرها إلى الخارج، بعد ضمانها لتلبية كل الطلب الوطني المقدر بنحو 200 ألف طن سنويا.
تطور التصدير
يقول عز الدين أسفيران، رئيس قسم الشراكة-التسويق-التجارة والاتصال بالمجمع الصناعي لإسمنت الجزائر، إن نشاط التصدير عرف تطورا سريعاً ونوعياً، بحيث انتقلت الشركة في أول عملية تصدير قامت بها سنة 2018، من 272 ألف طن من مادة الكلنكر، إلى 520 ألف طن سنة 2019، لتتضاعف الكمية خلال سنة 2020 وتصل إلى 1 مليون و325 ألف طن، أما عام 2021 فقد صدرت “جيكا” خلاله ما يناهز 2 مليون و 250 ألف طن، في حين يتوقع إحراز رقم قياسي جديد في التصدير بالوصول إلى 3 ملايين طن خلال 2022، خصوصاً بعد توقع اختتام السداسي الأول، بتصدير قرابة 2 مليون طن.
ويؤكد ذات المتحدث أن للمجمع قدرات تصدير أكبر، غير أن نقص الوسائل اللوجستية وقدرة استيعاب الموانئ الضئيلة، كبح نوعاً ما وتيرة نمو صادراتها، التي يمكن أن تصل إلى 4 ملايين طن بحلول 2025.
وتصدر الشركة منتجاتها إلى بلدان إفريقيا الغربية بالأخص السنغال وساحل العاج وموريتانيا، غانا، وغينيا الاستوائية والكاميرون، وفي 2020 تمكنت من اقتحام أسواق أمريكا الجنوبية لتدخل بذلك البرازيل، البيرو والكرايبي، جمهورية الدومينيكان، هاييتي ، كولومبيا. أما في 2021، فقد استطاع الاسمنت الجزائري دخول أوروبا عن طريق إيطاليا و اسبانيا، وتسعى “جيكا” إلى ولوج بلدان أوروبية أخرى من خلال عملها للحصول على شهادة المطابقة الأوروبية CE، “خصوصاً إذا علمنا أن حجم الطلب الأوروبي على الأسمنت سيصل إلى 10 ملايين طن سنويا بداية من العام القادم، ولهذا فنحن أولى بهذه السوق” –يقول أسفيران-. وبالإضافة إلى هذا التنوع في الأسواق، تطمح “جيكا” إلى اقتحام السوق الأمريكية، ولأجل تحقيق ذلك، هي تعمل لنيل شهادة المطابقة الأمريكية ASTM.
وتقدر عائدات المجمع من عمليات التصدير التي أنجزها خلال سنة 2021 بـ 75 مليون دولار أمريكي، في حين يصل الرقم الإجمالي لصادراته منذ 2018 إلى غاية السداسي الأول من سنة 2022 إلى 180 مليون دولار أمريكي.
وكان عملاق الاسمنت الجزائري قد حاز خلال هذه الفترة على جائزة أفضل مُصَنِعِ للاسمنت في البلاد، ويعود ذلك حسب ذات المتحدث إلى الجهود الحثيثة التي بذلها كل عمال المجمع بمختلف مناصبهم ووظائفهم، والذين اكتسبوا خبرة كبيرة طوال ما يزيد عن نصف قرن من النشاط، والتي عززت بالعديد من البرامج التكوينية التي تم توفيرها.
صناعة الرخام.. نشاط جديد
علاوة على مصانع الاسمنت الـ 14 النشطة، وسع مجمع “جيكا” استثماراته لتشمل صناعة الرخام أيضا، وجاءت هذه الخطوة بعد إفلاس شركة وطنية متخصصة في استخراج واستغلال الرخام، قام المجمع على إثرها بشرائها وضمها لفروعه، واستفاد بهذا من محجرة رخام في “ماهونة” بولاية قالمة إضافة إلى مصنع تحويل للرخام في بومهرة في نفس الولاية، وقد سمح هذا بالحفاظ على 97 منصب شغل. وفي الوقت الراهن يتم العمل حاليا على تطوير استغلال الرخام في المحجرة، إضافة إلى إقامة استثمارات خاصة بعمليات تحويل الرخام، الذي تستورد الجزائر كميات كبيرة منه.
وتعول “جيكا” من خلال هذه الخطوة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني من هذه الصخور الكلسية المتحولة ذات الاستخدامات المتنوعة والتوجه بعدها إلى تصديرها، وكذا تحقيق عائدات اقتصادية كبيرة، وبهدف تحقيق ذلك، أطلقت طلب عروض وطني مفتوح لتقديم خدمات تحديث المصنع الخاص بتحويل الرخام.
“جيكا” صديقة البيئة
تعتمد مصانع المجمع الصناعي لإسمنت الجزائر على تقنيات حديثة صديقة للبيئة، تمنع تسرب الانبعاثات الغبارية الملوثة وتطايرها في الهواء، حيث تسترجع كميات الغبار التي تطلقها الأفران ويعاد إدخالها في الدورة الإنتاجية، وقد سمحت الاستثمارات الكبيرة التي تم تخصيصها لهذا الشأن، من خلال تحديث المصافي الكهربائية واستبدالها بواحدة من أكثر الوسائل فعالية وأحدثها، لفصل الغبار المنقول عن طريق تيار الهواء، من تحقيق أهداف بيئية فاقت المقاييس المعتمدة في الجزائر وكذا المعايير المعمول بها عالمياً، والتي تُجمِعُ على أن حجم الانبعاثات الغبارية المقبولة نتيجة عملية إنتاج الاسمنت هي 30 ملغرام في المتر المكعب الواحد، بينما تمكنت “جيكا” من خفض حجم هذه الانبعاثات إلى 10 ملغرام في المتر المكعب الواحد، ما يعتبر إنجازا صناعياً وبيئياً نوعياً، وقد ساهم هذا في خفض قيمة الطاقة والمياه المستهلكة في عملية تصفية الهواء، فالتقنية الحديثة اقتصادية.
زيادة على هذا، جهزت الشركة بعض مصانعها بمحطات لتحلية وتصفية المياه المستعملة في العمليات الصناعية، والتي يعاد استغلالها صناعيا فيما بعد، ما يحد من تبذير المياه ، فضلا عن اعتمادها على الطاقة الشمسية (المنتجة عن طريق الألواح الشمسية) في إنارة مصانع الاسمنت الجديدة، كمصنع عين الكبيرة ومصنع سيقوس، ولـ”جيكا” حملات بيئية أخرى تتمثل في التشجير وحملات حرق النفايات وغيرها من الأنشطة التي تسعى من خلالها إلى المحافظة على سمعتها البيئية والصناعية الجيدة.
آفاق
بعد استكمال المشاريع الاستثمارية الحديثة التي أطلقها المجمع السنوات الأخيرة، والمتمثلة أساساً في إنشاء مصنعين جديدين، الأول في منطقة سيقوس التابعة لولاية أم البواقي، والثاني في ولاية بشار، علاوة على إجراء عمليات توسعة في ثلاث مصانع أخرى وهي مصنع زهانة الواقع بولاية معسكر ومصنع الشلف ومصنع عين الكبيرة التابعة لولاية سطيف، ما رفع من قدرات المجمع الإنتاجية من 11.5 مليون طن إلى 19 مليون طن سنوياً، تسعى “جيكا” إلى اقتحام مزيد من الأسواق الخارجية خاصة في أوروبا وأمريكا، ويؤكد رئيس قسم الشراكة-التسويق-التجارة والاتصال، أن الشركة لديها كل الإمكانيات اللازمة لزيادة إنتاجها وتنويعه تلبية لطلب السوق الوطنية أولاً ثم الخارجية.
ويوضح أسفيران، أن من بين الأهداف الكبرى التي يعمل المجمع على تجسيدها مستقبلاً، هو الحفاظ على الريادة الوطنية في صناعة الاسمنت وكذا السعي إلى الظفر بها إفريقياً، والوصول بالاسمنت الجزائري إلى مختلف بقاع العالم، وهذا تماشيا مع إستراتيجية السلطات العمومية الرامية إلى تطوير وتنويع الاقتصاد الوطني خارج قطاع المحروقات.
ويختم محدثنا لقائه بمجلة “الشعب الاقتصادي” بالتأكيد على أن المجمع الذي يوفر 12400 منصب شغل مباشر، لا يهتم بصناعة الاسمنت والرخام فحسب، بل له اهتمامات مواطناتية غير ربحية أيضاً، تتمثل أساساً في دعم الأنشطة العلمية خاصة الجامعية، والمسابقات التكنولوجية والتقنية، مثل المسابقة الوطنية للمهندسين المعماريين الشباب لأقل من 28 سنة، ويشارك فيها مهندسون من 43 ولاية ويرعاها المجمع بهدف تشجيع المبادرة والابتكار، إضافة إلى دعم الأنشطة الرياضية، من خلال مساندة ودعم الفرق، زيادة على الدعم المخصص لقطاع الصحة، وقد برز ذلك جلياً خلال الأزمة الوبائية التي مرت بها الجزائر، حيث منحت “جيكا” سيارات إسعاف لبعض المستشفيات وأشرفت على تجهيز أخرى بمولدات الأكسيجين، علاوة على توفير المستلزمات الطبية ذات الاستعمال الواسع لبعض المراكز الإستشفائية التي كانت بحاجة للدعم.