يعود تاريخ صناعة الكوابل في الجزائر إلى عام 1942، عندما باشر “LATRAF” وهو أول مصنع للأسلاك والكابلات المكشوفة في البلاد نشاطه بجسر قسنطينة بولاية الجزائر العاصمة، وبعد فترة وجيزة تم إنشاء شركة “CABLAF” ، المتخصصة في تصنيع الكابلات الكهربائية من الموصلات العارية التي تنتجها LATRAF، وفي عام 1968، عند إعلان الرئيس الراحل هواري بومدين عن تأميم كل المنشئات والمصانع التي كانت تحت إمرة الاحتلال الفرنسي، نقلت جميع أصول هذه الشركات إلى شركة “SONELEC”.
في 1983، أدت إعادة هيكلة شركة “SONELEC” إلى ولادة الشركة الوطنية لصناعة الكابلات (E.N.I.CAB)، والتي تم إلحاق ثلاث وحدات أخرى بها وهي: وحدة صناعة كوابل الهواتف بواد السمار، ووحدة صناعة الكوابل الكهربائية بجسر قسنطينة وكذا وحدة صناعة الكوابل الكهربائية ببسكرة.
لتسليط الضوء على هذه الصناعة ومدى مساهمتها في النسيج الاقتصادي لجزائر ما بعد الاستقلال، أجرت مجلة الشعب الاقتصادي لقاء مع عادل دردار، وهو دكتور ومهندس في الالكترونيات الدقيقة، ومهندس دولة في الإعلام الآلي والرئيس المدير العام السابق لشركة “Enicab” ، وهي أعرق شركة وطنية متخصصة في صناعة الكابلات بالبلاد ومثال ناجح للشراكة بين القطاعين العام والخاص (مجمع ايليك الجزائر وشركة كوندور)، كما تقلد ضيف المجلة العديد من المسؤوليات داخل وخارج الوطن منها المدير العام السابق لشركة “أونجو كوربورايشن” الأمريكية، والرئيس المدير العام لمجمع الصناعات الكيماوية “Acs”.
تطور صناعة الكوابل في الجزائر
تعد صناعة الكوابل فرعا من الصناعة الكهربائية التي تضم بدورها عدة تخصصات قطاعية، مثل صناعة الكهرباء وصناعة معدات إنتاج الكهرباء وصناعة العتاد الكهربائي الخ. في الجزائر، ينشط عدد هام من الشركات المختصة في هذا المجال، 140 منها خاصة، و15 عمومية، و 3 مؤسسات أخرى تأسست في إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص، وتكتسي صناعة الكوابل حيزا كبيراً من نشاط هذه المجموعة الصناعية.
عرفت صناعة الكوابل في الجزائر نوعا من الرقي والتطور في مسارها خلال سنوات الثمانينات، بعد إنشاء مجمعات جديدة مثل مجمع “CABEL” و “CATEL”، “SONELEC” وغيرها، و قد استطاعت هذه الصناعة خلق نسيج مناولاتي كبير ومتنوع، حيث نجدها في قطاع صناعة وإصلاح السفن، النقل الجوي والسككي، نقل الطاقة والاتصالات وغيرها من المجالات، وكذا اكتساب مكانة هامة في المزيج الصناعي الجزائري ، حيث تتراوح القدرات الإنتاجية الوطنية للكوابل اليوم ما بين 250 ألف و 300 ألف طن سنوياً، ما أسهم في التقليل من حجم الواردات وكذا مرافقة المنتجين والمناولين المحليين واستحداث مناصب شغل وديناميكية تجارية.
وكمثال على ذلك يؤكد الخبير الاقتصادي، الدكتور عادل دردار، أن صناعة الكوابل الجزائرية تمكنت من مرافقة العديد من المشاريع الإستراتيجية، منها مشروع خاص بوزارة الدفاع الوطني، وهو عبارة عن شراكة جزائرية إيطالية لإنشاء مصنع طائرات الهليكوبتر، وبهذا تساهم الشركة الجزائرية لصناعة الكوابل ENICAB في الرفع من نسبة إدماج المشروع، خاصة إذا علمنا أن صناعة طائرة هيلكوبتر واحدة يتطلب 80 كلم من الكوابل بمختلف أنواعها يقول ذات المتحدث.
أما في مجال صناعة المركبات، فتسعى ذات الشركة إلى المساهمة في الرفع من نسبة الإدماج في المركبات التي تنتجها للمؤسسة الوطنية للسيارات الصناعية SNVI التابعة لوزارة الدفاع الوطني، وعلى هذا الأساس سيتم الاعتماد على الكوابل الكهربائية الجزائرية في تجهيز كل المركبات المصنعة. إضافة إلى ذلك، يتم الاعتماد بشكل كبير في ورشات إصلاح السفن على الكوابل محلية الصنع، مثلما حصل عند تصليح سفينة طارق ابن زياد التي احترقت بعض أجزائها منتصف شهر نوفمبر من سنة 2017، حيث جهزت بكوابل جزائرية المنشأ. كما أن الكوابل المستعملة سواء من طرف الشركات الأجنبية أو الجزائرية العاملة في المشاريع السكنية ومشاريع إنشاء الأنفاق بالجزائر والبنى التحتية، محلية الصنع أيضا، وارتقت هذه الصناعة بحسب الدكتور دردار، لتلج مجال الصناعات البترولية التي تتطلب كوابل ذات مميزات خاصة للغاية، وقد نجحت الشركة الجزائرية لصناعة الكوابل “ENICAB” في توفيرها، بعدما كانت تُستورد من ولاية تكساس الأمريكية بأسعار باهظة.
ويؤكد الرئيس المدير العام السابق لشركة “ENICAB” ، أن التطور والنجاح الذي عرفته هذه الصناعة الوطنية لم يقتصر على الشركة الوطنية الوحيدة في هذا المجال، بل أصبح أيضا من نصيب العديد من الشركات الخاصة التي قامت باستثمارات كبيرة وطورت قدراتها الإنتاجية والبحثية، وهو ما يعتبر مكسبا حقيقيا لهذه الصناعة الوطنية التي تمكنت من المساهمة الفعلية في التقليل من فاتورة الاستيراد، والمرور إلى رواق التصدير وجلب العملة الصعبة، حيث تقدر القيمة الإجمالية للصادرات الجزائرية من الكوابل بـ 400 مليون دولار سنوياً.
تحدي الجودة والأسواق الخارجية
يرى عادل دردار، الخبير الاقتصادي والمدير العام السابق لشركة “أونجو كوربورايشن” الأمريكية، أن الصناعات الكهربائية في الجزائر مدعوة اليوم إلى المساهمة أكثر في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة لا تقل عن 30 %، فيما يمكن لصناعة الكوابل أن تساهم في ذات الناتج بنسبة تتراوح بين 10 إلى 15% وذلك بعد الخطوة الاقتصادية المحفزة التي اتخذها الرئيس عبد المجيد تبون، والقاضية بإلزام الشركات الوطنية والأجنبية الراغبة بالاستثمار في الجزائر باستعمال المنتجات الجزائرية. وتحقيق هذا المبتغى حسب دردار ممكن جداً لتوفر الإمكانيات والتجربة والكفاءات البشرية والبنى التحتية اللازمة.
أما بالنسبة للتصدير فيؤكد ذات المتحدث أن صناعة الكوابل الجزائرية أحرزت تقدما كبيراً جدا، واكتسبت سمعة إقليمية مشرفة، حيث باتت منتجاتها المُصدَرة إلى البلدان الإفريقية تلقى رواجاً كبيراً خاصة في السنغال وساحل العاج، وهذا الرواج امتد حتى إلى أوروبا وبالتحديد إلى فرنسا، التي تستغل ثلاثة أنواع من الكوابل الجزائرية التي صدرتها لها الشركة الجزائرية لصناعة الكوابل “ENICAB”، وهي تستعمل الآن في مشروع بناء المدينة الأولمبية الخاصة بالحدث الرياضي الأولمبي الذي سيقام بباريس عام 2024، ويقول دردار أن الأصداء المستقاة من ورشات المشروع جيدة جداً.
وبحسب الرئيس المدير العام السابق لشركة “ENICAB”، فإنه يجب التركيز في عمليات التصدير هذه على الدول النامية التي توفر فرصاً أكبر للمنتوج الجزائري، من أجل بسط هيمنته على العديد من الأسواق، لكن وجب في نفس الوقت الاحتكاك مع الدول المتقدمة ومحاولة مجاراتها ومنافستها وكذا مقارنة ما ننتجه بما تنتجه، “هذا ما يسمح لنا بمعرفة نقاط ضعفنا وما الذي يجب توفيره أو تصليحه حتى نكون في مصاف كبار المتعاملين الاقتصاديين العالميين، وبهذا نبقى دائما في تنافسية صحية تضمن لنا الاستمرار في تصدير منتجاتنا وليس القيام بمجرد بعمليات معدودة” يقول دردار.
غير أنه لمجارات كبار مصنعي الكوابل في العالم واكتساب القدرة على المنافسة، يستوجب بالأساس تقليل تكاليف الإنتاج، وهذا لا يتحقق إلاّ بتوفير جزء من المادة الأولية محلياً، فلا يمكن أن تكتسب المنتجات الجزائرية تنافسية كبيرة –حسب متحدثنا- في حال مواصلة استيراد النحاس من مصر واسبانيا والألمنيوم من البحرين وغيرها من المواد الأولية، بينما تزخر الجزائر بمكامن منجمية كبيرة قابلة للاستغلال، ومن شأنها تغطية الكميات المستوردة. وتماشيا مع هذا المسعى، شرعت الشركة الوطنية للكوابل في توفير جزء من المادة الأولية المستعملة في تصنيع المحولات الخاصة بتربينات الغاز (السلك المسطح والسلك الملفوف،le fil guipé et le fil “à plat ” لكن هذا لا يكفي يوضح الدكتور عادل دردار، لأن صناعة الأسلاك والكوابل تحتاج لمواد أولية متنوعة وهي متوفرة في الجزائر، ويجب بعث استثمارات خاصة لاستغلالها.
إلى جانب توفير المادة الأولية، يعد حصول المنتوج على شهادات المطابقة الدولية وشهادات حسن الجودة الأوروبية والأمريكية أمراً أساسياً للتمكن من خوض غمار الأسواق الخارجية، وهذا يستدعي أولا تخصيص هيئة مستقلة تعنى باختبار جودة الكوابل، والتي يكون من شأنها منح التراخيص اللازمة للشركات الجزائرية للشروع في استغلال منتجاتها بعد مطابقتها لمعايير الجودة العالمية، ويمكن تجسيد هذه الفكرة –حسب دردار- بالتعاون مع مجمع “سونلغاز” الذي يعد أكثر المؤسسات استعمالا للكوابل في الجزائر.
سبل تطوير الأداء
زيادة على كل ما يذكر، يشدد ضيف مجلة الشعب الاقتصادي على ضرورة عقد شراكات صناعية وتكنولوجية وكذا تجارية مع كبار منتجي الكوابل في العالم، من أجل توسيع مجال نشاط الشركات الجزائرية التي تتخصص في الوقت الراهن في صناعة أسلاك وكوابل الضغط المنخفض والضغط المتوسط والعالي، وهي نماذج صناعية كلاسيكية، في حين أن التطورات التكنولوجية الحاصلة في مجال الصناعات الكهربائية أصبحت تركز على نماذج ذات خصائص دقيقة ووجب على الشركات الجزائرية مجاراتها، وفي هذا السياق يشير دردار إلى أن “هناك شركة أمريكية معروفة وهي CTC Global استطاعت ابتكار نوع جديد من الكوابل المحافظة بشكل كبير على قيمة الكهرباء المنقولة عبرها، إضافة إلى إمكانية نصبها في مناطق خطرة ووعرة من دون أن تتضرر، وكذا مقاومتها لمختلف الظروف المناخية، وقد أعربت شركة “سونلغاز” عن اهتمامها الكبير بهذا المنتج، مثل هذه الشركات وجب علينا عقد اتفاقيات شراكة معها للاستفادة من خبراتها وتجاربها الصناعية بهدف إحداث نقلة تكنولوجية لصالحنا”.
ولرفع تنافسية الشركات الجزائرية وضمان تواجدها في الوسط الإفريقي، يرى الرئيس المدير العام السابق لشركة “Enicab”، أنه من الضروري إنشاء مناطق نشاطات في الجنوب الجزائري تكون بمثابة منصات لولوج العديد من البلدان الإفريقية التي توفر فرص استثمار كبيرة للمتعاملين الجزائريين، خاصة تلك التي استفادت من إعانات مالية دولية لإيصال الكهرباء لمدنها وقراها المظلمة، بهدف تحفيز السكان على العودة إليها والقضاء على تواجد الجماعات الإرهابية التي تنشط في مناطق الظل والعزلة، ومثال ذلك السنغال، التي استفادت من إعانة دولية بقيمة 300 مليون دولار كشطر أول من أجل إنشاء مشاريع كربة كبيرة لفائدة مواطنيها القاطنين بالمناطق الريفية، ونفس الأمر بالنسبة للنيجر ومالي وساحل العاج وكذا ليبيا التي ستعرف في المستقبل عمليات إعادة إعمار ضخمة، وكل هذه المشاريع الكبرى بمثابة فرص استثمار جيدة للشركات الجزائرية، غير أن كل هذا لن يتم من دون فتح فروع للبنوك الجزائرية في الخارج.
رؤية مستقبلية
من جانب آخر يرى مهندس الالكترونيات الدقيقة أن قرار رئيس الجمهورية بوقف استيراد الكوابل من الخارج سيكون له أثر جد إيجابي على الشركات الوطنية، خاصة وأن القرار تبع بآخر يملي على المؤسسات المستثمرة في البلاد الاعتماد على الكابل المنتج محلياً، غير أن الاستفادة من هذه الإجراءات والخطوات المحفزة على المدى المتوسط والبعيد يستدعي إطلاق مشاريع لمراكز بحث وتطوير من طرف المتعاملين الجزائريين لتوفير متطلبات السوق الوطنية من الكوابل ذات الخصائص الدقيقة، أو عقد شراكات تكنولوجية مع كبار مصنعي الكوابل في العالم من أجل إنشاء مراكز بحث بالجزائر، وقد سعت الشركة الجزائرية لصناعة الكوابل ENICAB في هذا الصدد إلى عقد شراكة مع الشركة الكورية الجنوبية LS Cable وهي الشركة رقم 1 في صناعة الكابلات في العالم، من أجل خلق قطب تكنولوجي وبحثي بالجزائر يخدم الطرفين، والمشروع ينتظر المرور إلى الخطوات العملية بعد اتفاق الطرفين على تنفيذه.
ويختم المدير العام السابق لشركة “أونجو كوربورايشن” الأمريكية، الدكتور عادل دردار حديثه لمجلة الشعب الاقتصادي بالتأكيد على ضرورة رسم الحكومة لسياسة تنموية وتطويرية واضحة خاصة بالصناعة الكهربائية في الجزائر، من خلال تحديد إستراتيجية وأهداف تجسد على المدى المتوسط ( حتى آفاق 2030 أو 2035) وهذا للرفع من نسبة مساهمة هذه الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي مثل ما هو الحال في مقاطعة كيبك الكندية، التي تساهم الصناعة الكهربائية في صادراتها بنسبة 8 % وكذا التقليل من فاتورة استيراد الكوابل التي تقدر بحوالي 200 مليون دولار سنوياً.