جاء كتاب الدكتور عثمان عثمانية، أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة، في لحظات فارقة تعيشها الإنسانية جمعاء. عدد المصابين بفيروس كورونا يتجاوز 500 مليون شخص وعدد الوفيات يتعدى 6 ملايين عالميا، والموجة الخامسة والسادسة تأكدت في الكثير من البلدان والمناطق. ومع أخبار هنا وهناك عن جدوى اللقاحات وفعاليتها، إلا أنّ كونها حلا نهائيا لايزال مستبعدا.
على الرغم من ضعف المواكبة العربية لهذه الأزمة الصحية كتابة، لكن الكاتب اعتبر الكتابة في الموضوع عمل هام للوعي العربي، إذ يرى أنّه “لـمّا نناقش القضايا التي تواجه الجميع في ذات وقت مناقشتها لدى الشعوب المتقدمة أو قبلها، نكون في طريق الانتصار في معركة الوعي، ولـمّا ننتصر في تلك المعركة يمكننا أن نخوض معركة الحضارة بكل ثقة.
المثير للإعجاب في هذا الكتاب صغير الحجم، أنّ كاتبه لم يكن “أكاديميا بدون روح” كما يصف ماكس فيبر أولئك الأكاديميين الذين لا يمكنهم تجاوز الأدبيات الخاصة بتخصصهم الضيق، فالكاتب وعلى الرغم من تخصصه في علم الاقتصاد، ينتقل بسلاسة بين علوم التاريخ، الفلسفة، السياسة، الاجتماع والاقتصاد، ليقدم لنا صورة أكثر اكتمالا عن ملامح العالم الذي يرتسم أمام أعيننا اليوم.
ويقسم الكتاب إلى 9 عناصر، يختتمها بخط زمني للجائحة، كما يلي: نهاية النيوليبرالية، نهاية العولمة، نحو نظام عالمي جديد، أي دور للتكنولوجيا، مغالطة الهوموديوس أو الإنسان اللا خالد، اقتصاد الجائحة، التفاوت في الدخل والثروة: ماذا بعد الجائحة، الركود القادم، وعالم من اللايقين.
يدّعي الكاتب أنّ جائحة كوفيد-19 التي ظهرت في الصين بداية، ثم انتقلت إلى مختلف دول العالم فيما بعد، هي لحظة حاسمة في التاريخ المعاصر، إذ تُطلق مجموعة من التغييرات التي تمتد من الأيديولوجيا إلى الاقتصاد ليُعلن عن نهاية العالم كما نعرفه، لذلك هو يطرح أسئلة هامة في هذه الأوقات العصيبة “ما الذي سيتغير وما الذي سيبقى على حاله؟ هل ستنتهي الصدمة بسقوط أيديولوجيات وصعود أخرى كما كل مرة؟ أم أن هذه المرة مختلفة، فموازين القوى الحالية يبدو أنّها مستقرة وتميل إلى الإستمرار بعكس ما مضى؟ هل سنشهد تغييرا راديكاليا في النظام العالمي وحوكمته كالذي شهدناه بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل ستعود الدول القومية لتحل محل العولمة؟ هل ستُغير الحكومات سياساتها وأولوياتها؟”
أيديولوجيا، لا يرى الكاتب أنّه يتسرع في إعلان نهاية النيوليبرالية، فصمودها للسنوات الأربعين الماضية قد وصل إلى نهايته مع الجائحة. وهشاشة النظم الإجتماعية، الصحية والبحثية، وهذا ما أصبح واضحا بعد تحول الفيروس لجائحة، هو نتيجة لسياسات الخصخصة وتخفيض التشريعات وتقليص معدلات الضرائب المبالغ فيها. وقد أثبت الواقع أنّ دولا مثل الصين أو كوريا الجنوبية والدول الإسكندنافية كانت أفضل أداء من تلك الدول التي روّجت طويلا للنيوليبرالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر تضررا من الفيروس.
لذلك فالجائحة هي نهاية النيوليبرالية، والحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية هي دليل واضح على أنّ التفوق الصيني في مجالات تكنولوجيات الذكاء الإصطناعي وأنترنت الأشياء، إنّما يعود بالأساس إلى جرعة التمويل الحكومي، التي تحرم الأيديولوجيا النيوليبرالية الصناعة الأمريكية منها. إضافة إلى ثقة الجماهير المهتزة فيها، وهو ما يُعد أمرا يصعب تجاوزه، إذ أنّ الحياة الإنسانية هي ما كانت على المحك هذه المرة.
العولمة، أو العالمية كأيديولوجيا، هي أيضا في أسوأ حالاتها مع الجائحة. ولا يتعلق الأمر بالجزء المنظور من المسألة فحسب، أي إغلاق الحدود وتوقف النقل وتدفقات الأفراد والسلع، بل أصبح الجميع أكثر وعيا بخطورة إعتماد البلدان على جهات خارجية في تزويدها بما هي في حاجة إليه من مواد غذائية وأدوية ومستلزمات طبية. كما أنّ سلاسل الإمداد الطويلة التي كانت محركا قويا للعولمة خلال العقود القليلة الماضية، أثبتت الأحداث أنّها قد تشكل خطرا في حال توقفها أو تعطلها عن العمل. كما أن الإتحاد الأوروبي الذي طالما شكل مثالا يحتذى به في التقارب وهدم الجدران والحدود، تحول فجأة إلى دول متباعدة، لم تستجب حتى لنداء الإستغاثة الذي أطلقته دولتي إيطاليا وإسبانيا في خضم مواجهة الفيروس في البداية، ما يفتح الباب لعودة الدولة القومية من جديد، وربما تفككه في المستقبل.
نحن نتجه أيضا نحو نظام عالمي جديد، فالنظام الحالي يقوم على ترتيبات كانت مناسبة لموازين القوى والتحالفات الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، وهي غير مناسبة لزمننا هذا، لذلك نحن نشهد قيام نظام عالمي جديد، والجائحة تعمل على تسريع حدوث ذلك. سيكون زوال هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم أول خطوة في هذا الإتجاه. فالصين اليوم تتجه بشكل ثابت لتتسيد العالم إقتصاديا، وعودة روسيا إلى الواجهة والتوازنات الجيوستراتيجية العالمية عامل أساسي في ذلك. لذلك، فالكتاب يدافع عن أطروحة أنّ محور بكين-موسكو هو من سيُنهي تلك الهيمنة، ولكن في ذات الوقت يعترف أنّ الطريق طويلة أمام الصين لتحل محل الولايات المتحدة الأمريكية، كون نموذجها الثقافي غير جذّاب.
وفي هذا السياق، نحن بحاجة لحوكمة جديدة تحترم ما ستُفضي إليه الجائحة من تغييرات على المستوى الدولي، فالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية فشلت في تنسيق الجهود وتوجيهها لصالح العالم. لذلك، إصلاح تلك المؤسسات بما يتناسب والوضع الجديد أمر أساسي، لمواجهة التحديات التي تهدد البشرية جمعاء، مثل التغيرات المناخية، الأوبئة والتهديدات النووية.
يُركز الكتاب أيضا على دور التكنولوجيا في هذه الجائحة، إذ شهدنا إستخدام الذكاء الإصطناعي، البيانات الضخمة والروبوتاتفي كل مراحل الأزمة الصحية. بل عرف قطاع التكنولوجيا نموا هائلا أثناء الجائحة بعكس القطاعات الأخرى، فقد زاد الطلب على تقنيات التواصل والتحاضر عن بعد، وتقنيات الترفيه المختلفة. لذلك فالتكنولوجيا تتحول شيئا فشيئا من خيار إلى حتمية، سيما مع الصراع العالمي اليوم على الذكاء الإصطناعي وتطبيقاته.
لكنّ الوعود التي أطلقها التقدم العلمي والتكنولوجي لم يفيا بها مع أول جائحة في القرن الحادي والعشرين. ففي العقود الأخيرة ظهرت عدة تيارات تبحث إمكانية التغلب على الموت والوصول إلى ما بعد الإنسان، الإنسان الخالد الممكن تكنولوجيا. الكتاب يرى أنُ هذا الهوس بهزيمة الموت لما لديه من المبررات “إلّا أنّه يبدو ساذجا اليوم مع جائحة كوفيد-19.
وبعيدا عن الأيديولوجيا، يحدد الكتاب الأثر الإقتصادي الهائل للجائحة على عدة متغيرات إقتصادية. فالنمو الإقتصادي تراجع بشكل مخيف خلال الفصلين الأولين من عام 2020، نتيجة لإجراءات مكافحة الفيروس، والتي وصلت إلى الإغلاق الشامل لقطاعات واسعة بالإقتصاد، والكثير منها لم يعد إلى العمل بشكل طبيعي حتى نهاية السنة. وقد كان لذلك أثر أكثر وضوحا على معدلات البطالة، التي قفزت إلى مستويات عالية في كل دول العالم، وأيضا معدلات الفقر التي إرتفعت لأول مرة منذ أكثر من عقدين من الزمن.
وعلى الرغم من أنّ الصدمات والأزمات غالبا ما تدفع إلى المساواة، إلّا أنّ هذه الجائحة تؤدي دورا مختلفا، فالجائحة يبدو أنّها تُفضل أولئك ذوي الدخول العليا والثروات عن الأقل دخلا. فقد لاحظنا منذ البداية أنّ أولئك الذين يمتلكون كانوا قادرين على الإستمرار في العمل عن بعد، وكان أبناؤهم قادرين على التعلم عن بعد أيضا، مقارنة بأولئك الذين لا يملكون. وعلى الرغم من أنّ الصدمات والأزمات غالبا ما تدفع نحو المساواة، إلى أنّ الأثر الذي تخلفه الجائحة على هذا المستوى هو زيادة التفاوت في الدخل والثروة بالشكل الذي يجعل من التفكير في حلول مستديمة أحد التحديات الأساسية في عالم ما بعد الجائحة.
لكن هل سيؤدي ذلك إلى أسوأ ركود في المائة وخمسون سنة الماضية كما إدعى الحائز على نوبل في الإقتصاد كينث روغوف Kenneth Rogoff؟ يقف الكاتب موقفا حاسما من ذلك “أعتقد أن الأمر ليس كذلك”، وهو ينطلق من عدة مؤشرات يعتقد أنّها تدفع ضد أطروحة روغوف. أولها عودة الوظائف إلى النمو بالولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الأخرى إنطلاقا من الفصل الثالث من عام 2020، وعودة أسعار النفط للإنتعاش كمؤشر واضح على عودة الإقتصادات للنمو، كما أن سرعة إستجابات الحكومات بتحفيز إقتصاداتها، خاصة في أمريكا وأوروبا، هي كلها مؤشرات تدفع عكس الأطروحة سابقة الذكر.
في الأخير، يعلن الكاتب العالم عالما من اللايقين، وهو يرى أنّنا وجدنا أنفسنا في خضم مناخ مشبع باللايقين، وفي “عالم يعيش على تريليونات البايتات من البيانات يوميا، أصبحنا تائهين بين جشع مخابر وشركات الأدوية، شعوبية السياسيين وخطورة الفيروس”.
يعد كتاب “عالم ما بعد جائحة كوفيد-19: مآلات الأيديولوجيا والإقتصاد” أحد المحاولات العربية القليلة للتصدي لهذه الأزمة الكبرى بالكتابة والتوثيق، وبينما تُعد مجالات معرفية أخرى مثل علم النفس والسياسة حيوية أيضا لفهم أعمق للجائحة وتأثيراتها على جوانب الحياة الإنسانية المتعددة، ننتظر من باحثين وأكاديميين وكتاب كثيرين من العالم العربي التصدي لهذا الحدث الهام كل في مجاله الفكري والإبداعي، حتى تكون لنا نظرتنا الخاصة لهذه الأزمة، وما ينبغي فعله لمواجهتها والإستفادة من دروسها لمستقبل أفضل.