جاءت خطوة إنشاء ديوان وطني لتطوير الزّراعة الصّناعية في الأراضي الصّحراوية بعد تعليمة أسداها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، حيث شدّد في تعليمته على حتمية عمل الديوان بشباك موحّد تفادياً لأي عراقيل بيروقراطية محتملة، من شأنها تعطيل الأهداف التي أنشئ من أجلها، وقد شرعت الوزارة عقب ذلك في إعداد مرسوم تنفيذي يحدّد طبيعة سير الدّيوان، ويفصل في هيكله ومهامه وأهدافه، وكذا طرق منح الأراضي الفلاحية للمستثمرين عن طريقه، وقد صودق على المرسوم في اجتماع الحكومة شهر أوت 2020، وتمّ نشره في الجريدة الرّسمية في 22 سبتمبر 2020.
في هذا المقال، تشرح ميرة شهيرة توامي، مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بوزارة الفلاحة والتنمية الريفية، في حديثها لمجلة “الشعب الاقتصادي”، مهام الديوان وطريقة عمله وكيفية الاستفادة من خدماته، مع التعريج على النتائج المستقبلية المنتظرة من استحداثه.
ديوان لتطوير الزّراعات الإستراتيجية
يتشكّل الدّيوان بحسب مرسومه التنفيذي من هيئة موحّدة، وينشط في إقليم مكوّن من 20 ولاية صحراوية تمّ تحديدها من خلال قرار وزاري مشترك، بناءً على خصائص جغرافية ومناخية (مدى توفّر المياه وملاءمة التربة)، ويتوفّر الديوان على شباك موحّد يضم كل ممثلي المديريات المعنية بالاستثمار على المستوى المحلي، مثل أملاك الدولة، المحافظة العقارية، مديرية الموارد المائية، مديرية الصناعة، مديرية الطاقة…إلخ، ففي حالة حاجة المستثمر لترخيص أو وثيقة معيّنة، يتكفّل الديوان بشباكه الموحّد بتوفير جميع التسهيلات اللازمة، وهذا بهدف القضاء على العراقيل الإدارية التي كثيراً ما ثبطت الكثير من المستثمرين.
تتكفّل هذه الهيئة بتطوير مختلف الزّراعات الإستراتيجية القابلة للتحويل صناعياً، مثل الزّراعات الزيتية والزّراعات السكرية، الحبوب والذرة والأعلاف، وجاء التركيز على هذا النوع من الزراعات بعد تسجيل نقص محسوس في منتجاتها أو استيرادها بكميات كبيرة مثل الزيت الخام والحبوب الزيتية والسكر الخام.
ومقابل منح مختلف التسهيلات في هذه الشّعب الإستراتيجية (الزيتية والسكرية)، يلتزم المستفيدون من امتيازات ديوان تطوير الزّراعة الصناعية، بإنشاء مصانع تحويلية ترافق مشاريعهم الفلاحية.
طريقة منح الأراضي
تؤكّد ميرة شهيرة توامي وهي مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بوزارة الفلاحة والتنمية الريفية في حديثها مع مجلة “الشعب الاقتصادي”، أنّ طريقة منح الأراضي للاستغلال الفلاحي بالمناطق الصّحراوية من خلال ديوان تطوير الزراعة الصناعية في الأراضي الصّحراوية، باتت تختلف عن الطرق التي كانت منتهجة في السّابق، حيث يخضع طلب المستثمر لدراسة انتقائية من طرف لجنة الخبرة وتقييم المشاريع، والمتشكلة من المدير العام للديوان كرئيس، وتقنيّين من ذات الديوان وكذا ممثلي المعاهد التقنية للفلاحة الصحراوية، ويأتي التركيز على الجانب التقني في عمل اللجنة لضمان فلاحة صحراوية مستدامة، وتفادياً لأخطاء الماضي، حيث أنشئت مستثمرات فلاحية من دون احترام للمعايير والمسارات التقنية المعتمدة في عملية استصلاح الأراضي، ما أدّى في الأخير إلى ضياع الجهد والأرض بسبب جملة من المشاكل التقنية المعروفة في الفلاحة الصّحراوية، مثل الملوحة وصعود المياه، وبحسب مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بالوزارة، فإن إدراج المعاهد التقنية في اللجنة سيسمح بدراسة المشاريع بطريقة مستدامة.
أمّا بالنسبة لطريقة إيداع الملفات، فللديوان الذي مقرّه الرئيسي بولاية المنيعة، منصّة رقمية تمّ توفيرها بالأساس لضمان الشّفافية في إيداع الملفات والتتبع الالكتروني لعملية المعالجة الإدارية، زيادة على توفير عناء تنقّل المستثمرين إلى الولايات الجنوبية من أجل الإيداع.
تُوفّر المنصّة الرّقمية معطيات حول مختلف المحيطات الفلاحية، كما تتيح إمكانية التعرف على موقعها الجغرافي بدقة في الخارطة الرّقمية الخاصة بالمنصة (la géolocalisation)، حيث يمكن للمستثمر اختيار المحيط الذي يرغب بتحقيق مشروعه الفلاحي عليه بعد ملء المعلومات المتعلّقة به وبمشروعه، مع إدراج بعض الوثائق كالدراسة التقنية الخاصة بالمشروع، والوثائق التي تثبت التمويل والخبرة المهنية في مجال الفلاحة أو المؤهلات التقنية والمالية.
يُدرس الملف فيما بعد من طرف لجنة الخبرة والتقييم، التي تقرّر في الأخير وفق معايير عملية، ما إذا كان الطّلب يستوفي الشروط ويستحق صاحبه الحصول على عقار فلاحي أم لا، وتقول مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين، إنّ طريقة دراسة الطلبات باتت مختلفة عمّا كانت عليه في السابق، بحيث تمّت الاستعانة في لجنة الديوان بالتقنيين في دراسة الملفات بدل الإداريين، وهم من يقيّمون طبيعة النشاط، وإذا كان صاحب المشروع قادراً على استغلال المساحة التي طلبها فعلياً أم لا، فيما لا تتجاوز مدّة دراسة الملفات شهراً واحداً كأقصى تقدير، هذا ويمنح الدّيوان بعد إجراءات الموافقة أوعية عقارية لا تقل مساحتها عن 250 هكتار، ولا تتجاوز 2000 هكتار كأقصى تقدير، إلاّ في حالات استثنائية تتمثل في مشاريع شَرَاكَات أجنبية كبيرة تثبت قدراتها على استغلال أوعية تفوق مساحتها 2000 هكتار.
الأرض لمن يخدمها
إلى جانب المرونة التي تتمتّع بها هذه الهيئة الجديدة في التّعامل مع المستثمرين، من خلال اعتمادها على وسائل التواصل الحديثة والشباك الموحّد، تفرض بالمقابل شروطاً ومعايير انتقاء لجعل الاستثمار في الشّعب الإستراتيجية أكثر جدية، بحيث يتوجّب على المستفيدين من الأوعية العقارية الفلاحية التي يمنحها الديوان، التوقيع على دفتر شروط يلتزمون من خلاله بأهداف ونتائج موسمية مدروسة سلفاً، ما يتيح إمكانية تحديد ومعرفة مختلف المساحات التي ستزرع في كل شعبة والنّتائج المنتظرة عند استغلالها، كما يلتزمون بالآجال المتفق عليها مع الإدارة لإطلاق مشاريعهم، ويتحمّلون بعد منح كل تراخيص النشاط، مسؤولية أي تعطّل أو تأخّر أو تماطل في الانجاز، وقد تؤدّي التأخيرات غير المبرّرة إلى سحب الوعاء العقاري، ومنحه لمستثمر آخر أكثر جدية.
من جانب آخر، تولي لجنة التقييم في دراستها للملفات أهمية كبيرة لنوعية وطبيعة الاستثمار، وما إذا كان يندرج ضمن المخطّط الذي سطرته الوزارة بسياستها التنموية الرامية إلى تطوير الشعب الإستراتيجية، زيادة على التدقيق في طرق تمويل المشاريع، مع تشجيع وتحفيز خاص للمشاريع الممولة ذاتيا، والتي لا يلجأ أصحابها إلى القروض البنكية التي قد تعطّل نوعاً ما بإجراءاتها سيرورة إطلاق الاستثمار.
إلى جانب المؤهّلات المالية، يستوجب على القادمين من قطاعات أخرى غير فلاحية، والراغبين في الاستفادة من مساحات زراعية، توفير فريق تقني مؤهّل لإنجاز المشروع المودع ملفه لدى ديوان تطوير الزراعة الصناعية في الأراضي الصحراوية، خاصة المهندسين الزراعيين الذين يمثّلون حلقة هامة في نجاح أي مشروع فلاحي على الأراضي الصحراوية.
هذا وتعمل وزارة الفلاحة حالياً على توفير أوعية عقارية جديدة تلبية للطلب المتزايد وضماناً للتنوّع في المشاريع، مع منح الفرصة لكل المستثمرين الجديين الراغبين في إنجاز مستثمرات فلاحية صحراوية، وبهذا تكون نسبة النجاح مرتفعة.
500 ألف هكتار صالحة للاستغلال بالصّـحراء
تؤكّد ميرة شهيرة توامي مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بوزارة الفلاحة والتنمية الريفية، أنّ ضبط الوعاء العقاري الفلاحي الصالح للاستغلال بالولايات العشرين تمّ بالتعاون مع الوكالة الفضائية الجزائرية، فبعد إجراء مختلف الدراسات التقنية المفصلة، حدّدت الوزارة وعاءً عقاريا أولياً جاهزا للاستغلال الفلاحي المباشر لتوفره على المياه والتربة المناسبة، قدّرت مساحته بـ 500 ألف هكتار على مستوى 20 ولاية صحراوية، وقد تمّت المصادقة عليه من طرف مختلف الوزارات المعنية، وكحصة أولى عرض الديوان على منصّته الرقمية منذ شهر أفريل 2021، أوعية عقارية تصل مساحتها إلى 136 ألف هكتار موزّعة على 5 ولايات هي تيميمون، أدرار، المنيعة، ورقلة وإليزي، وتشمل 7 محيطات. واستقبل ديوان تطوير الزّراعة الصناعية في الأراضي الصحراوية إلى غاية بداية شهر جانفي من العام الجديد 450 ملف، فيما تمّت الموافقة على 140 ملف استثماري بعد دراستها من طرف لجنة الخبرة والتقييم، (أغلبهم يعتمدون التمويل الذاتي لمشاريعهم)، أي ما يعادل مساحة 95 ألف هكتار،32 % منها خصّصت لزراعة القمح الصلب، و26 % خصّصت لزراعة الذرة و12 % لزراعة السلجم الزيتي (الكولزا) و10 % لزراعة الشمندر السكري.
كم يكلف استصلاح هكتار واحد؟
بعد دراسة ملف المستثمر من طرف ديوان تطوير الزّراعة الصّناعية في الأراضي الصحراوية وإعطائه الموافقة، بإمكانه الحصول على مساحة زراعية قد تكون شاسعة، وذلك حسب طبيعة المشروع ومدى استيفائه للمعايير التقنية والمالية، غير أنّ الشّروع في استغلال الأرض، يستوجب أولاً المرور بمرحلة استصلاح العقار الزراعي الصّحراوي، وهي العملية التي لا يأخذها الكثير من الراغبين في الحصول على أوعية فلاحية بعين الاعتبار، سواءً لاستسهالهم للعملية أو لعدم درايتهم بمدى صعوبتها وبتكاليفها المرتفعة.
وقد تستلزم العملية التي تعتبر تحدّياً حقيقياً للظّروف المناخية، بحسب مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بالوزارة، حفر آبار عميقة قد يصل عمقها إلى 500 متر في بعض المناطق، زيادة على اقتناء معدّات متطوّرة، ومعدات للرش المحوري، مع نصب قاعدة حياة خاصة بالطاقم العامل في المستثمرة، ما قد يكلّف في المتوسط 1 مليون دينار جزائري لتهيئة 1 هكتار، واعتمادا على هذه المعطيات يحدّد الديوان المساحة التي يمكن منحها لكل مستثمر حسب قدراته المالية، وبناءً على هذا التوجه، أصبح بالإمكان إنهاء بعض الممارسات التي سادت في فترة مضت، أين منحت أوعية عقارية لمستثمرين وصلت مساحتها في بعض الأحيان إلى 50 ألف هكتار لكن من دون أن تستغل بتاتاً.
وتوضّح ذات المديرة أنّ الدولة تأخذ على عاتقها مرافقة المشاريع المهيكلة، من خلال توفير مختلف المرافق والخدمات الأساسية مثل الكهرباء وفتح المسالك الصحراوية أمام المستثمرين، زيادة على الدعم المباشر الموجّه لبعض الشعب، وهو ما تجسّد من خلال رفع أسعار شراء القمح بعد التعليمات الأخيرة التي أسداها رئيس الجمهورية، حيث ارتفع سعر شرائه من 4500 دج للقنطار إلى 6000 دج، إضافة إلى دعم أسعار الأسمدة والوقود، غير أنّ ضخ الدولة لأموال على مستوى المحيطات الفلاحية الصحراوية التي تحتاج لاستصلاح يستوجب إظهار المستثمرين لجدية وتفانٍ حقيقيين في العمل.
وتضيف المتحدّثة أنّه زيادة على شعبة الحبوب التي تحظى بدعم كبير، تشجّع الدولة أيضا نماذج الاستثمارات المدمجة، مثل تلك التي تستغل المياه الجوفية المستخرجة من باطن أرض الصحراء أحسن استغلال، وذلك بإنشاء أحواض مائية تستعمل للسقي وتربية المائيات، ما يوفّر إنتاجا حيوانيا وأسمدة طبيعية تعوّض الأسمدة الكيماوية، إضافة إلى نماذج تربية المواشي بالصحراء، وكذا إنتاج البطاطا بالمناطق الصّحراوية.
نتائج مشجّعة
تسعى وزارة الفلاحة من خلال نشاط ديوان تطوير الزّراعة الصّناعية، إلى بعث ديناميكية جديدة في قطاع الفلاحة، وذلك برفع مستويات الإنتاج في مختلف الشّعب الإستراتيجية التي يكلّف استيرادها عادة كتلا نقدية ضخمة، ومنه التقليل من الاستيراد، بينما يتمثّل الهدف الرئيسي في ضمان أمن الجزائر الغذائي، والتحرر من التبعية للخارج في توفير بعض المنتجات الزّراعية والغذائية الأساسية للجزائريّين، ويتطلّب تحقيق هذا المسعى، الاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة والطرق التقنية المتطوّرة في الزّراعة والفلاحة، ولعل بعض النّتائج التي سجّلت في بعض المستثمرات الفلاحية في المناطق الصّحراوية – بحسب ميرة شهيرة توامي – خير دليل على مدى نجاعة السياسة التنموية المنتهجة، حيث تمكّنت بعضها من إنتاج ما بين 80 إلى 100 قنطار في الهكتار الواحد، وهو مردود قياسي كان يعتقد أنّه من المستحيل تحقيقه في السابق.
ومواصلة في نفس الإستراتيجية، تؤكّد ذات المسؤولة أنّ أغلب المستثمرين الذين مُنِحوا رخص الاستثمار من طرف مصالح الديوان، قد باشروا إجراء دراسات تقنية معمّقة على مساحاتهم الفلاحية، فيما تحصل البعض الآخر على تراخيص حفر الآبار، هذا وكانت وزارة الفلاحة قد دعت من خلال منصّة الديوان الرقمية، جميع المستثمرين المستفيدين إلى التقرب من مصالحه لطلب تراخيص حفر الآبار في مهلة زمنية محدّدة، وعدم الاستجابة لهذه الدعوة في آجالها قد يعرض صاحب المشروع للحذف من قائمة المستفيدين، ويأتي اعتماد هذا الإجراء الصّارم لتفادي ضياع الوقت، وتجنّب التراخي في عمليات الإنجاز، وكذا الالتزام بالرّزنامة الزمنية الموقّع عليها في دفتر الشروط.
رؤية هادفة
في ختام حديثها مع مجلة “الشعب الاقتصادي”، تؤكّد ميرة شهيرة توامي، مديرة التنظيم والتخطيط العقاريين والاستصلاح بوزارة الفلاحة والتنمية الريفية، أنّ القطاع يتبنّى اليوم رؤية اقتصادية هادفة في مجال الاستثمار، حيث يسعى لتمكين المشاريع الاستثمارية القطاعية، من إحداث أثر مباشر على الاقتصاد الوطني، وهذا من خلال تنظيم محكم يلتزم بإعادة النّظر في عدّة تشريعات ونصوص قانونية، والبداية كانت بتأطير مهنة مكاتب الدّراسات التي كانت تنشط بعشوائية كبيرة، من خلال مرسوم تنفيذي أعطى الأولوية للمهندسين الزراعيين وذوي الشّهادات في مجال الفلاحة لإنشاء مكاتب الدراسات، مع إلزامية طلب الاعتماد من وزارة الفلاحة، والهدف من هذه الخطوة، جعل الدراسات المنجزة أكثر جدية وفعالية، وصولاً إلى إعادة النّظر في مختلف النّصوص القانونية التي تحكم طرق منح الأراضي الفلاحية، وذلك بإدخال الرّقمنة في هذه العملية، حيث أصبح بالإمكان تحديد المحيطات باستعمال الخرائط الرقمية، ومراقبة استغلال الأراضي الممنوحة عن طريق برامج فضائية تتيح المتابعة الديناميكية لها من دون التنقل إليها.
وتنهي ميرة شهيرة توامي حديثها بالقول، إنّ “مرحلة توزيع الأراضي قد انتهت، وانتهت معها الذّهنية التي كانت تحكمها، وزارة الفلاحة اليوم تمنح عقارات فلاحية لمستثمرين جديّين، بناءً على معايير تعتمد الكفاءة التقنية والمالية لإنجاز مشاريع مهيكلة ومدمجة وفق نظرة استشرافية مسطّرة تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف جد طموحة تندرج ضمن مخطّط عمل الحكومة”.