تشير دراسات إلى أن قرار بوتين الأخير بفرض الروبل الروسي في تعامله مع الدول الأوروبية المستوردة للسلع الروسية، من شأنه أن يؤثر على النظام المالي العالمي. وقد تتخذ دول أخرى الخطوة نفسها. فما مصير نظام بروتن وودز بعد قرار بوتين؟
يقوم النظام المالي العالمي الحالي على أسس وضعت غداة نهاية الحرب الباردة، عندما اجتمع الحلفاء في غابات بريتون في نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية. ليبحثوا أنسب الطرق للحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
وتمخض عن هذا الاجتماع إنشاء ثلاث منظمات دولية مازالت قائمة هي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، واتفاقية “الغات” أو منظمة التجارة العالمية.
صندوق النقد الدولي
” يعمل صندوق النقد الدولي على تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم. وإضافة إلى ذلك، فهو يعمل على تيسير التجارة الدولية، وزيادة توظيف العمالة والنمو الاقتصادي القابل للاستمرار، ويساعد في جهود الحد من الفقر على مستوى العالم”.
و”تدير الصندوق البلدان الأعضاء وعددها 190 بلدا، وهو مسؤول أمامها.” أو هكذا يعرف الصندوق نفسه.
لكن على المستوى العملي، تسبب الصندوق في إثقال كاهل الدول المقترضة بالديون وخدمات الديون، لتبقى دائما تابعة له.
وكانت الجزائر أحد ضحايا هذا الصندوق بسبب المشروطية، حيث كان يملي سياساته الإصلاحية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
ولولا أن سمحت البحبوحة المالية بسداد الديون مسبقا لكانت الجزائر مازالت تسدد خدمات الديون ولن نتحدث عن الديون نفسها.
البنك العالمي للإنشاء والتعمير
أُنشئ البنك الدولي للإنشاء والتعمير في 1944 لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وانضم مع المؤسسة الدولية للتنمية، وهي الصندوق المعني بمساعدة أشد البلدان فقرا، ليشكلا معا البنك الدولي.
ويعمل البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية عن كثب مع جميع مؤسسات مجموعة البنك الدولي والقطاعين العام والخاص في البلدان النامية لإنهاء الفقر وبناء الرخاء المشترك. ويضم هو الآخر 189 دولة، حسب موقعه الرسمي.
المنظمة العالمية للتجارة
هي نسخة مطورة عن الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، تمخضت عن ميثاق هافانا عام 1948، وتحول اسمها على المنظمة العالمية للتجارة في العام 1995. وتضم 164 دولة.
وتعمل على تنظيم وتسهيل التجارة الدولية بين الأمم. تستخدم الحكومات المنظمة بهدف وضع القواعد التي تحكم التجارة الدولية ومراجعتها وتنفيذها. وإزالة العراقيل أمام التجارة العالمية، وتسوية النزاعات التجارية والسياسية.
لكن يتطلب الانضمام إليها توفر شروط معقدة، كما أن قبول عضو جديد فيها يشترط مفاوضات ثنائية وجماعية تطول مدتها. ويؤكد الواقع أنها منظمة أنشئت لحماية مصالح القوى الكبرى. خاصة فيما تعلق بالسياسات الحمائية لمنتجات القطاعات الإستراتيجية في الدول الكبرى.
الدولار
تميزت ظروف إنشاء المنظمتين بهيمنة نتائج الحرب العالمية الثانية، فكانت أوروبا مدمرة عن آخرها تحتاج من يعينها على إعادة الإعمار. بينما كانت باقي دول العالم إما مستعمرة أو تحت وصاية احدى الدول الاستعمارية.
في حين كانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة التي لم تعان من آثار الحرب، بل على العكس خرجت هي الرابح الأكبر منها. ذلك أن اقتصادها عرف ازدهارا منقطع النظير بفعل العمل المتواصل لتوفير حاجيات الحلفاء ومتطلبات الحرب.
وعلى هذا الأساس استطاعت فرض الدولار عملة دولية للتعامل، بفضل قابليته للتحويل إلى ذهب بسعر صرف ثابت قدر بـ 35 دولارا للأوقية.
لم يكن أمام الدول الأوروبية، خيارا آخرا، خاصة بريطانيا التي قدم اللورد جون مينارد كينز هو الآخر مقترحا، أراد من خلاله إعادة النهوض بالاقتصاد البريطاني. لكن وللأسباب المذكورة آنفا، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية إرادتها.
ووقعت كل الأطراف على المعاهدة التي صارت تعرف فيما بعد بنظام برووتن وودز، باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي لم ينظم إلى الصندوق ولم يوقع على الاتفاق لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي. وبقي هذا النظام قائما إلى يومنا هذا.
تبعات قرار بوتين
أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شركة غاز بروم الروسية، الجمعة الماضي، ببيع الغاز والنفط الروسيين بالعملة المحلية” الروبل” للدول ” غير الصديقة”. في إشارة إلى الدول الأوروبية التي فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا على خلفية العملية العسكرية في أوكرانيا. وأمر الشركة بإيجاد الحل للدفع بالروبل الروسي خلال أربعة أيام من تاريخ القرار.
وأثار القرار مخاوف الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 40 بالمائة إجمالا، وقد يصل اعتماد بعض دولها إلى أثر من 50 بالمائة على غرار ألمانيا.
وعلى العكس من أوروبا، فإن نتائج القرار بالنسبة لروسيا ستسمح لها بالتملص من آثار العقوبات الغربية، حيث ستجني ما يقارب 200 مليار دولار خلال 2022، في فائض الحساب الجاري. حسب تقديرات خبراء.
بينما تقدر قيمة احتياطات البنك التي منعت روسيا من الولوج إليها بـ 40 بالمائة من أصل 640 مليار دولار.
نظام بروتن وودز إلى أين؟
يرى مختصون أن من شأن القرار الروسي إضعاف الدولار باعتباره عملة تداول دولية، إذا نجحت روسيا في فرض التعامل بالروبل الروسي مع الدول “غير الصديقة”. وقد توسع القرار على باقي السلع.
وقد تحذو دول بترولية أخرى حذو روسيا، وبالفعل أعلنت المملكة العربية السعودية رغبتها في التعامل باليوان الصيني مع بيكين. وبالريال السعودي في تعملاتها البينية مع دول الخليج.
تدل هذه المؤشرات -على ضعفها- إلى سعي روسيا إلى إنهاء نظام بروتن وودز الذي يسيطر عليه الاقتصاد الأمريكي منذ سبعة عقود، وإرساء نظام اقتصادي عالمي جديد، أكثر عدلا، وطالما نادت به الدول النامية والتي كانت ترزح تحت نير الاستعمار، عندما اجتمع الحلفاء وقرروا مصير العالم الاقتصادي والمالي.
د. أسيا قبلي