ترتفع أسعار السكن في الجزائر بطريقة تضاهي المستوى الأوروبي، وهي مرتفعة جدا مقارنة بأسعار السكن في دول الجوار.
المعلوم أنّ قاعدة العرض والطلب هي من تحكم الأسعار إذا ما كانت السّوق حرّة، لكن يحدث أن نقف أحياناً على وضع غريب في روح الاقتصاد، تماماً كما هو حاصل في سوق العقار والسّكن بالجزائر، فمع شساعة مساحة البلاد وتوفّرها على مواد البناء بشكل وافر، فإنّ أسعار السّكنات لازالت تضاهي المستوى الأوروبي، وترتفع عالياً أمام أسعار دول الجوار الإقليمي، في بلد يزداد فيه عنصر الشباب بشكل مُتسارع، ويعيش وسط تحدّيات اقتصادية واجتماعية تعرف تضخّما متواليا، فيما تستمر الصّيغ الحكومية المختلفة والخاصة في التّنامي، ويبقى الطّلب سيّد المواقف، فما هي الأسباب وراء ارتفاع أسعار السّكنات في الجزائر؟
ركّزت الجزائر منذ استقلالها على توفير ضرورات العيش الكريم لشعبها في ظل إمكانيات اقتصادية متواضعة، عزّزتها وفرة المحروقات، التي أدّى تهاوي أسعارها في 1986 من 30 إلى 6 دولار، إلى دخول البلاد في أزمة اقتصادية خانقة سبّبت إرباكا شديدا في حياة المجتمع والسّلطة.
ضعف موازنة الدولة وانحدار الاقتصاد مع تصاعد الأصولية الإسلامية، سرع إدخال الجزائر في أتون أزمة استنفذت ميزانية عشرية كاملة من أجل دعم الجوانب الأمنية والتّصدّي للجماعات الإرهابية المسلّحة.
وقد صاحب ذلك جمود في حركة التّنمية خصوصا في قطاع السّكن، ما فاقم الطّلب وراكمه لمئات الآلاف بل لملايين العائلات، ولم تكن الأزمة الأمنية التي مرّت بها الجزائر ذات حدّ واحد، بل أدّت لهجرات ديموغرافية عشوائية أوجدت مدن ضواحي وبيوتا قصديرية تنامت في ظل غياب سلطات الحكومة وسطوة القانون، شوّهت بذلك شكل المدينة، ومثّلت تحديا أكثر تعقيدا وإلحاحا بعد عقد من الأزمة.
السعر اللغز.. الأرض والتكلفة
تتحكّم قاعدة قيمة عادة في سعر السّكن، هي سعر الأرض والتكلفة مع ملحقات شتى تتّصل بالموقع والتشطيب ونظام الدفع وأحيانا المضاربة، وظواهر الفقاعات العقارية المرتبطة بمستويات النمو المرتفع والسّقوط الاقتصادي الحر وغيرها.
ولأنّ أغلب ما أنجز من سكنات في الجزائر كان حكوميا، فإنّ معظم السّكنات بيعت بسعر اجتماعي، قد تخسر فيه الدّولة ولا تربح، وقد يحدث أن يتضاعف سعر السّكن الذي بيع بمبلغ اجتماعي بخمسة أضعافه لينتقل من 200 مليون سنتيم إلى 1 مليار سنتيم، في مفارقة عقارية لا تتّصل البتة بقواعد السّوق، ولا بمنطق العرض وقواعد الطّلب التّجاري، مع الأخذ بالحسبان القدرة الشّرائية للمواطن العادي، الذي وفّرت له السّلطات هذه الصّيغة لحمايته من الجشع والمضاربة، في ظل ما حدث ويحدث من تلاعب تجاري في بيع وشراء السّكنات التي بنيت أساسا لسدّ حاجات اجتماعية، بالرّغم من أنّ الجزائر تتوفّر على الأرض ومواد البناء، وتعاني نقصا في اليد العاملة المؤهّلة المهيكلة في مؤسّسات مقاولاتية لا تتوقّف عن الإنجاز كما يحصل في الصين ومصر.
في هذا الصّدد، يتحدّث رئيس الفيدرالية الوطنية للوكالات العقارية، نور الدين مناصري، لـ«الشعب الاقتصادي»، عن عمق التّناقض والإشكال في سعر العقار، مشيرا إلى أنّ سعر السّكن العادي (شقة ذات ثلاث غرف) في المدن الكبرى وعلى رأسها ولاية الجزائر العاصمة، لا يزيد في الواقع عن (600) ستمائة مليون سنتيم، وفي بعض الولايات كذلك على غرار قسنطينة وفقاً لبحث أجرته الفيدرالية، بينما يصل 1.7 مليار سنتيم في الأحياء الفاخرة، وقد ترتفع الأسعار في بعض منها لتصل 2.3 مليار سنتيم للشقة، على غرار إقامة «الياسمين» بالشراقة غرب العاصمة.
العقار ملاذ غير آمن لتخزين العملة
عرفت أسعار العقارات الكبيرة كالفيلات – وفق مناصري – تراجعا كبيرا في الفترة الأخيرة، ويتراوح التراجع بين 15 و30 بالمائة مقارنة مع بداية سنة 2021، ويعود ذلك أساساً إلى تحوّل العقار لملاذ غير آمن لتخزين العملة، وهو ما دفع أصحاب رؤوس الأموال خلال فترة «كوفيد-19» لاقتناء الأورو والدولار، بدل العقارات التي تشهد حالة ركود واسعة في السّوق.
ويشير مناصري في ذات السياق، إلى غياب معايير تضبط سوق العقار في الجزائر، حيث تغيب سلطة الدولة مع غياب آليات قانونية ضابطة ومراقبة لمنطق البيع والكراء العقاري، حيث يقوم السماسرة وبعض المرقّين بفرض منطقهم على السّوق، من خلال السّمسرة والمضاربة، والرّفع الذّاتي للأسعار، بل والتهرب الضّريبي بشكل واضح في العقود، رغم أنّ الأسعار خيالية والأمر معروف وواضح للعيان.
وجرّاء هذا التّضارب، يذكر المتحدّث كمثال على ذلك، بيع شقة من غرفتين بـ1 مليار و200 مليون بعدما كانت معروضة بمليار و500 مليون، في حين بيعت قطع أرضية في الأبيار بـ 30 مليون سنتيم للمتر المربع بعدما كانت معروضة بـ 70 مليون للمتر المربع.
المستفيدون من فوضى السوق
من جهة أخرى، دعا مناصري لمحاربة السمسرة لأنها عدوة الأسعار المنطقية للعقار، بدءاً بتعقّب السماسرة الذين يعملون على رفع الأسعار بشكل يحقّق لهم أرباحا على حساب قيمة العقار الحقيقية، وحق الزّبون في شراء عقار بسعر خال من المضاربة، حيث كشف بأنّ 70 بالمائة من عمليات البيع والشراء تتم على يد السماسرة.
ودعا مناصري لتوجّه الدولة لبناء سكنات ذات أربع غرف، لمواجهة نموّ العائلات بحلول مؤقّتة، ريثما تتوفّر منازل لمغادرة الأسر الجديدة للأسرة النّواة، ودعا إلى ضرورة إلزام المواطنين بالبيع عن طريق الوكلاء العقاريّين، للتّحكّم في الأسعار وفق منطق السّوق، والقضاء على التّهرّب الضّريبي من خلال التّصريح الزّائف بالأسعار.
من جانب آخر، ذهب خبراء عقاريّون إلى التّأكيد على أنّ من أسباب غلاء أسعار السّكن في الجزائر قاعدة العرض والطّلب.
يرتفع الطّلب سنوياً جرّاء النّمو الديموغرافي الكثيف من دون مواجهة ذلك بعرض كاف، مع حالة مركزية الإدارة والنّشاطات التّجارية والاقتصادية، إضافة لغياب الإحصائيات والدّراسات لمناطق الكثافة السّكانية والضغط التي تشهد طلباً متنامياً على السّكن، وهو ما أدّى إلى تشييد سكنات بمناطق لا يقع عليها الطّلب، وكمثال على ذلك سكنات الترقوي العمومي التي تمّ تشييدها بالمناطق الجنوبية حيث ظلّت فارغة، وهو ما يستدعي وضع خارطة خاصّة بمناطق الضّغط.
وأدّى نقص الوعاء العقاري بالمناطق التي يكثر فيها الطّلب على السكن، على غرار المدن الكبرى كالعاصمة، عنابة ووهران، التي تتميّز بطابعها الفلاحي الجبلي، إلى إعاقة عملية تشييد مدن جديدة وعصرية، نظراً لطبيعة التّربة، ممّا يستدعي بناء مدن وأقطاب عمرانية جديدة ببعد إداري ونشاط اقتصادي جذّاب مثلما يتمّ في مصر مع العاصمة الإدارية المنجزة في الصّحراء ومدن أخرى من الجيل الرابع، تتوفّر على عمل ومرافق الحياة الأساسية والتّرفيهية.
كيف نواجه النمو الديمغرافي؟
وشدّد جعفر شلي، وهو مستثمر ومرقي عقاري في الجزائر وتركيا، في حديث لـ”الشعب الاقتصادي” على ضرورة استغلال الوعاء العقاري لمدن الصّفيح والضّواحي والبنايات الهشّة الآيلة للانهيار في المدن الكبرى، وعلى رأسها العاصمة، بالقبة وباش جراح وحتى حيدرة وسعيد حمدين، والتي تتربّع على مساحة كبيرة، وبعضها متوارث عن الاستعمار الفرنسي.
يكون ذلك من خلال إحصاء العائلات ومساحات الأرض، ومنح المرقين الجادّين هذه المساحات لإنجاز سكنات مع منح المرقي المحلات الأرضية والطّوابق التي تعادل عدد السّكان المعنيّين بالأرض، بحيث ينجز سكنات بضعف عدد السكان يحتفظ بنصفها له والباقي للسكان، بشرط التزامه بمدة إنجاز لا تتجاوز ثلاث سنوات، مع إلزامه من طرف السّلطات بالكراء للسكان طيلة مدة الإنجاز، وتوفير مرافق حديثة وراقية للترفيه والعيش الكريم، ليتم منحه رخصة البناء للهدم والانجاز، مع مراقبة ومتابعة السّلطات لمراحل الإنجاز.
ودعا شلي الى وضع رؤية طويلة الأمد لمواجهة النّمو الديموغرافي المتزايد، الذي يصل سنويا قرابة مليون مولود جديد، ويبلغ معدّل الحاجة السّنوية للسّكن حوالي 360 ألف شقة، بينما يبلغ مستوى العجز الكلي بحوالي مليون ونصف مليون شقة.
ودعا المتحدّث إلى وضع مخطّط عمراني تنافسي وفق منظور مدن سكنية وسياحية وتجارية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية وغيرها لمواكبة التّحوّلات الدولية والتّجارب العمرانية الحديثة.
وأشار في هذا الشّأن، إلى ضرورة تكوين يد عاملة كفؤة وفعّالة، وهو ما تفتقد إليه شركات المقاولات المنجزة، مع رفع نسبة فعاليتها لتضاهي مستوى العامل الصيني في البناء أو السوري أو المصري في التشطيب.
وقال شلي إنّ أغلب العائلات لا تشتري عقارات مباشرة بعد تأسيسها، فعادة ما تتملكُ منازل أو شققاً بعد سنوات من الإيجار، ما يؤدّي إلى توسّع الحظيرة العمرانية، ويصبح بذلك العرض أكثر من الطّلب.
وعلى هذا الأساس، دعا المتحدّث إلى تجاوز حالة التمليك، وطرح بدلاً عن ذلك شققاً للكراء عمومية أو خاصة بأسعار تنافسية تتناسب مع القدرة الشّرائية للمواطن، فمن غير المنطقي – حسب شلي- أن يخصّص موظّف في القطاع العمومي أو الخاص أغلب أجرته التي تبلغ في المتوسط أربع ملايين سنتيم للكراء خاصة في المدن الكبرى، وأكّد على ضرورة تنويع النّقل والبنية التحتية الخاصة به، لتقريب المسافات وحل مشكلات التنقل لتخفيف المفاضلة في الأماكن، وتسهيل خيارات الكراء، مع ضرورة عقد شراكة مثمرة وفق منظور رابح – رابح مع القطاع الخاص، لتخفيف العبء على الدولة وتوفير حلول مبتكرة في هذا الشأن.
أسعار العقار بين الجزائر ودول الجوار
في سياق ذي صلة، أفاد شلي أنّ العامل الأول المتحكّم في أسعار السّكن هو وفرة مواد البناء وأسعارها، حيث تلعب دورا مهمّا في تحديد سعر المتر المربع للسكن، إضافة لقوّة وكثرة شركات المقاولات ومردودية العامل وسرعة الانجاز، وهو ما يساعد في تخفيض التكلفة، لأنّ هناك منافسة ما بين الشّركات المنجزة، وهو الأمر الموجود في تركيا، ورغم بعض الرّكود العقاري، فقد وجدت آليات تنافسية ذكية لتخفيف العبء عن المطوّرين العقاريّين، وشركات الانجاز، بل وشركات التّمويل بمواد البناء التي تحجز شققا بدلا عن دفع التّكلفة، وهو ما يجعل الجميع في أريحية من ناحية التّمويل والدفع.
وأوضح شلي أنّ الموقع والأرض والمرافق تلعب دوراً هامّاً في تحديد سعر الشّقق، فهناك شقق من ثلاث غرف في إسطنبول (العاصمة الاقتصادية) وهي أغلى مدينة تركية، قد يبلغ سعرها 700 إلى 800 مليون سنتيم، بينما هناك أماكن راقية جدّا مثل «زنجرليكور» قد يصل ثمن المتر المربع الواحد فيها عشرة آلاف دولار، أي حوالي (180 مليون سنتيم).
وأوضح شلي أنّ عمر البناية له دور في تحديد سعر الشقة، فمثلا إذا كان عمرها أزيد من عشرين سنة، ينخفض سعرها.
وهناك فرق بين التّشطيب العادي وعالي الرّفاهية، والذي يكلّف حوالي مليار ونصف سنتيم بين رخام وسيراميك وسخان، وهي مواد تكون عادة من الدرجة الأولى، وأغلبها مستوردة في الجزائر – حسب المتحدّث – عكس ما هو موجود في تركيا، الأمر الذي يصنع الفرق الكبير في السّعر والجودة.
يطرح شلي عدم وضوح المخطّط العمراني، الذي تنعدم فيه الشّفافية، فهناك من يتم منحه رخصة لبناء طابق أرضي زائد أربعة طوابق، وهناك من يستفيد في نفس المنطقة من رخصة لبناء طابق أرضي زائد 15 طابقاً، رغم أنّ المكان والرّخصة واحدة، وسط فوضى في التّناسق العمراني والمعماري، وهنا ينبغي – حسب شلي – وضع مخطّط عمراني واضح لكل مكان حسب المعايير العقارية والجيولوجية، وضرورة تطبيق القانون على الجميع.
من جهة أخرى، عرفت أسعار العقار في إسبانيا انخفاضا شديداً بداية من 2009، نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية التي هزّت الاقتصاد العالمي في 2008، وارتبطت بالرّهون العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا الصدد أكّد نور الدين مناصري، أنّ انخفاض الأسعار كان ظرفيا، بحيث وصل سعر الشقة لـ 30 ألف يورو، لأنّ المنازل كانت مرهونة آنذاك للبنوك، حيث اشتراها بعض الجزائريّين، لكن الأسعار حاليا ارتفعت ليصل ثمن نفس الشقة إلى 100 ألف يورو.
في تونس، ارتبط نمو السّوق العقاري بتنافس القطاع الخاص، الذي تتوفّر لديه حاليا أزيد من 30 ألف شقة دون زبائن، غير أنّه يعاني جرّاء قلة الطلب وارتفاع العرض مع نمو الأسعار (التضخم) بشكل استعصى على الطبقة الوسطى، مع تنامي الأزمة الاقتصادية في البلاد، وسقوط قيمة الدينار التونسي.
وتعتبر أسعار العقار في تونس أقل بكثير ممّا هي عليه في الجزائر رغم صغر مساحتها مقارنة بمساحة الجزائر التي تفوقها بحوالي 15 مرة، مع قلّة تعداد سكانها البالغ عددهم حوالي 12 مليون نسمة، حيث تتراوح وفق ما كشفه الصحفي المنجي السعدي لصحيفة «الشرق الأوسط»، ما بين (600 إلى 1500 دولار للمتر المربع الواحد) في المناطق السّكنية الرّاقية والمطلّة على البحر، فيما تبلغ ما بين (125 إلى 650 دولار للمتر المربع الواحد)، في بقية المناطق، وقد شهدت الأسعار تضخماً بـ 30 بالمائة خلال السّنوات الأخيرة.