يتواصل التّراجع الحاد للدّينار الجزائري، منذ بداية السّنة، مقابل العملات الأجنبية، مصحوبا بارتفاع كبير في معظم أسعار المواد الاستهلاكية، ممّا أثار مخاوف المواطنين من تهاوي القدرة الشّرائية لجيوبهم المنهكة.
هذا التّراجع في قيمة العملة الوطنية متواصل منذ 2014، وهو راجع إلى نظام الصّرف الذي شهد تطوّرات كبرى، حيث انتقل من نظام الصّرف الثّابت إلى نظام الصّرف العائم المدار، وواكب هذه التّطوّرات تخفيضات متتالية في سعر صرفه مقابل العملات الأجنبية، غير أنّ هذه التّخفيضات لم تحسّن وضعية ميزان المدفوعات بنفس مستوى التّخفيضات والانزلاقات في قيمة الدّينار كما فضّلت الحكومة التّمسّك بسياسة تقليص فاتورة الواردات، من خلال خفض قيمة الدّينار لإطالة عمر احتياطي الصّرف، والحفاظ على ما تبقّى من العملة الصّعبة.
وقد واصل الدّينار تراجعه مقابل الدولار واليورو خلال التّعاملات المالية الرّسمية مطلع سنة 2021، ليس بسبب تعويم العملة فحسب، بل لحالة ركود ضربت مؤشّرات الاقتصاد الكلي، بفعل تفشّي فيروس كورونا وتراجع إيرادات البلاد من النّقد الأجنبي، وبفعل فقدان أسعار النّفط من قيمتها، تأثّرت أسواق الصّرف الرّسمية سلباً، وفقد الدّينار تماسكه مقابل الدّولار واليورو في تعاملات البنوك.
وتعتبر سياسة تخفيض قيمة العملة من أهم السّبل لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات، حيث نالت رضى العديد من الاقتصاديّين (دافيدهيوم، كينز، الكسندر سدني…إلخ)، إلاّ أنّ الواقع العملي أثبت بأنّ هناك مجموعة من العوائق تحد أو تكبح عودة توازن ميزان المدفوعات وإن حدثت، فتلك مسألة نادرة، وليست في الآجال المنتظرة أو المتوقّعة.
ذلك ما حدث في الجزائر، حيث لم تفلح التّخفيضات المتعاقبة لقيمة العملة الوطنية في معالجة الاختلال في ميزان المدفوعات، وذلك راجع لضعف الجهاز الإنتاجي الوطني، وتدهوره بسبب أزمة السوق النّفطية، وهو ما تسبّب في أضرار ملموسة للأنشطة الاقتصادية، بالإضافة إلى الاحتقان السياسي الذي زاد من العقبات التي تواجهها الشّركات العمومية والخاصة، والاقتصار على تصدير المحروقات، والتي ظلّت المورد الرّئيسي للبلاد من النّقد الأجنبي، وبقيت ضمن مستويات أقل من تلك التي كانت قبل الأزمة النّفطية.
وسجّلت الحكومة تراجعا محسوسا لعائدات الجباية النّفطية، حيث نزلت قيمتها، لأوّل مرة منذ أكثر من عقدين، إلى تحت مستوى إيرادات الجباية العادية، وتراجعت معها القدرة الشّرائية للمواطن، وضعفت مرونة كل من الصّادرات والواردات بالنّسبة لسعر الصّرف، وغيرها من الأسباب التي لم تستطع سياسة التّخفيض تجاوزها، لينتهي بذلك زمن سياسات الرّيع النّفطي.
وتطبّق الجزائر سياسة دعم اجتماعي منذ عقود، بلغت قيمتها في موازنة 2021 نحو 17 مليار دولار، أي ما يمثّل 9.4 بالمائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي و78.23 بالمئة من ميزانية الدولة، وهي مخصّصة لحماية الطّبقات الضّعيفة والأكثر تضرّرا واحتياجا، بالرّغم من ضعف الموارد المالية وانكماش الاقتصاد .
وما تزال تداعيات أزمة كورونا تُلقي بانعكاساتها السّلبية على الجبهة الاجتماعية، وفي هذا السياق، ركّز مخطّط عمل الحكومة الأخير على ضرورة تعزيز التّماسك الاجتماعي عن طريق رفع القدرة الشّرائية للمواطنين وتدعيمها، وتحسين التّكفّل بالفئات الهشّة، خاصة منهم ذوي الهمم والمسنّين والعائلات عديمة الدّخل أو ذات الدّخل الضّعيف.
وفي هذا الصدد، كانت الحكومة قد شرعت في مسار إصلاح نموذج الدّعم من أجل استهداف عدالة اجتماعية أكبر، بالانتقال إلى نظام التّحويلات النّقدية لصالح الأسر المحتاجة التي ستستفيد من دخل إضافي كتعويض لها عن تعديل الأسعار، سعياً منها لاستعادة ثقة الشّعب في مؤسّسات الدّولة، وإنجاح مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية، لاستعادة دور المواطنين باعتبارهم شريكا أساسيا لا غنى عنه في بناء دولة جديدة ومؤسّسات جديدة وعلاقة جديدة بين السّلطة والمواطنين، مع التّأسيس لحوكمة اقتصادية عصرية، ووضع سياسة اجتماعية أكثر عدلاً ونجاعة، بعيداً عن ممارسات وسّعت مساحات الفساد ونخرت الاقتصاد وغيّبت الثّقة.