ارتفعت أسعار النفط بشكل ملموس في الفترة الأخيرة، حيث فاقت في أغلب الفترات مستوى 70 دولارا للبرميل، وهو ما جعل بعض التعليقات تتفاءل بشكل غير عقلاني بأن بداية تجاوز ضغوط الجائحة، خاصة مع التطعيم الواسع النطاق عالميا، ستجعل الطلب ينمو بشكل تصاعدي، مما يدفع الأسعار نحو مستويات عليا قد تصل 100 دولار.
إنه أمر خاضع لاعتبارات كثيرة أهمها، مستوى نسبة الانتعاش الاقتصادي عالميا، خاصة في الاقتصاديات الكبرى، أي الصين والولايات المتحدة ألأمريكية وأوروبا وبلدان “البريكس”، ومنها قيمة الدولار والظروف الجيواستراتيجية في مناطق مختلفة من العالم لاسيما الشرق الأوسط.
وتتفق الكثير من تحليلات المختصين على القول إن ارتفاع أسعار النفط يعود لزيادة ملموسة في الطلب ولمحدودية العرض، سواء بسبب سياسات إرادية من قبل (أوبك +)، أو بسبب مصاعب إنتاج في عدد من الدول ومنها العقوبات على إيران والأوضاع في ليبيا وحتى في نيجيريا.
كما أن الاستثمارات في القطاع، خاصة الاستكشافات، تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة، بحسب تقارير كثيرة مختصة، وهو ما يعني استقرارا في العرض من النفط خاصة ومن المحروقات عامة.
ويضيف المحللون لهذا توسع التطعيم ضد “الكوفيد 19” في جل البلدان، خاصة في الاقتصاديات الكبرى، لاسيما الاقتصاد الصيني، فالأرقام الواردة في تقارير للبنك العالمي تتحدث عن زيادة الإنتاج الصناعي بنسبة تصل 35 بالمئة منذ بداية 2021. ويضاف لكل هذا طبعا قيمة الدولار، خاصة تدهورها مقارن بالأرو والين واليوان.
ولكن لا ينبغي نسيان الاعتبارات الجيوسياسية والكوارث والأحداث التي تمس المنشآت النفطية من حين لآخر فضلا عن الأوضاع في عدد من البلدان المنتجة.
وتميل جل التوقعات التي تصدر عن الهيئات المختصة إلى توقع أن تستقر الأسعار خلال 2021 في أواخر الستين 60 دولارا ثم تتراجع في 2022 لبدايات الستين 60 دولارا.
لهذا ينبغي القول اليوم، إن أي عودة لجعل الريع النفطي حلا اقتصاديا، عوض أن يكون مجرد عامل مساعد على تجاوز كل تبعية لهذا الريع، سيجعل البلاد تتأخر عن تحقيق التحولات اللازمة وتحقيق الإصلاحات التي ينبغي أن تضمن تنوع الصادرات خارج المحروقات، وترقية نشاطات اقتصادية بديلة خاصة في مجالي الفلاحة والسياحة.
إن التحرر من قيود الريع النفطي، صارت اليوم مسألة ذات بعد استراتيجي، ولا ينبغي أن يفتح الباب مرة أخرى لأي استخدام للريع النفطي في تغطية نفقات التسيير، وتخصيصها كلية للاستثمار المنتج فقط.
وبالنسبة لجميع البلدان المصدرة للنفط، سوف تسهم الإصلاحات الاقتصادية، التي تستهدف تنويع أنشطتها الاقتصادية، في الابتعاد عن التبعية المفرطة للريع النفطي وتشجيع النمو، كما تسهم في التخفيف من حدة الآثار السلبية لإجراءات ضبط الأوضاع المالية العامة وتكييفها مع تراجع عائدات تصدير النفط، على النمو، كما تسهم في زيادة الحذر وفي توخي الدقة في تحديد الأولويات وفي تقييم المشروعات الاستثمارية الكبرى، والتحكم في الكلفة وفي كل مناخات الاستثمار وتطهيرها وإخضاعها للقانون والشفافية.
ولكن هذا لا يمكن أن يعني عدم الاستفادة من اقتصاد المحروقات، بالنظر لكونه عامل إيجابي وامتياز تنافسي في مجالات عديدة. إن ترقية الصناعات البيتروكيماوية مثلا، والتخلي التدريجي عن بيع النفط الخام، كان توجها اقتصاديا للبلاد في فترة من الفترات ثم توقف وينبغي أن يمنح اليوم أولوية أكيدة.
إن الاستقلال الطاقوي لأمد طويل، وأيضا حق الأجيال المقبلة في وفرة مواد وموارد طاقوية، أمر غاية في الأهمية، وهو ما يحتم وضع رؤية استراتيجية متكاملة لوقف الكثير من التبذير في هذا المجال. وينبغي التذكير أن هناك تقارير وتقديرات كثيرة تتحدث عن تراجع إنتاج الجزائر من النفط الخام لأسباب متعددة، منها الحالة التي وصلتها جل الآبار والحقول، لاسيما بعد الإنتاج المفرط الذي تم اللجوء إليه في فترات سابقة وهو ما أوهن الآبار، وزاد كلفة إنتاج البرميل، ووصولها معدلات قلصت بشكل واسع من هوامش الربح، فضلا عن التراجع في كميات الإنتاج.
إن الجدل الذي كان قد دار بخصوص الاتجاه، أو الاستعداد للاتجاه نحو الغاز الصخري، دل أولا عن وجود انشغال استراتيجي بسبب تراجع إنتاجية آبار النفط الكبرى، وبسبب الحاجيات الاجتماعية الاقتصادية المتزايدة لموارد مالية إضافية وبسبب تراجع العائدات بشكل كان مخيفا في فترة من الفترات.
الجدل انتهى لعدم استبعاد استغلال الغار الصخري، ولكن مع توفير شروط حماية البيئة والموارد المائية الجوفية بشكل خاص، ولكن مع عدم جعل هذا الخيار خيارا وحيدا ولا أساسيا.
وعندما نتذكر التزامات الرئيس تبون الـ 54، خاصة التزامه بـ: تشجيع إنتاج الطاقة الأحفورية والطاقة المتجددة، الطاقة الشمسية وطاقة الرياح واستهداف التصدير في هذا المجال، من خلال تجسيد الانتقال الطاقوي وتنفيذ برنامج وطني لتطوير الطاقات المتجددة. عندما نتذكر كل هذا تتضح الأولويات الطاقوية، وهي تتجه بشكل واضح باتجاه الطاقات الجديدة والمتجددة من دون إهمال مورد يعد امتيازا اقتصاديا للجزائر.
وينبغي القول أخيرا إذا ما ظل للنفط دور في الاستهلاك الطاقوي العالمي فإن دوره باعتباره ريعا ماليا يعول عليه في الحسابات الاقتصادية والتنموية قد ولى نهائيا وينبغي إيجاد بدائل له في أقرب الآجال.