يساهم الإقتصاد الرقمي في تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز التّنمية المستدامة، والمساهمة في توفير مناصب شغل وغيرها.
كما أنّ الإقتصاد الرّقمي له أثر اجتماعي على الفرد والمجتمع من خلال الرّفع من مستوى الرّعاية الصحية بالاعتماد على الصّحة الإلكترونية والقضاء على الفقر والجوع، وتحقيق المساواة بين الجنسين والحد من عدم المساواة في الفرص، وتعزيز التّعليم باستخدام أدوات التّعليم الإلكتروني وتوفير النّقل، حیث تكون الفرص التي توفّرها تطوّرات التقنیات الحدیثة متاحة للجمیع.
الآثار الإیجابیة لكل هذا ستشمل الأفراد والمؤسّسات والقطاعات ومختلف الأنشطة الاقتصادیة والاجتماعیة من خلال إدماج الشّبكات الذكية، وتقریب الخدمات الحكومیة من المناطق النّائیة والمناطق الرّیفیة، وتحقیق الشّمول المالي للفئات الضّعیفة والفئات العاملة في القطاع غیر الرّسمي التي لا تغطّيها الخدمات المصرفیة والتّأمينية. أمّا بالنسبة للبيئة، فيساهم الإقتصاد الرّقمي بالتّخفيف من الانبعاثات الكربونية من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وإدماجها في توفير الطّاقة واستهلاكها، والحفاظ على الأنظمة البيئية البرية والبحرية، واستخدامها استخداماً مستداماً مع تفادي خسارة التّنوُّع البيئي خصوصاً من خلال المراقبة ممّا يؤدّي إلى تعزيز الرّقابة والمساءلة. وعليه فإنّ الإقتصاد الرّقمي یساعد على تحقیق أهداف التّنمیة المستدامة السبعة عشر. وهو أيضًا المحرّك الأساسي لتحفيز التحوّلات السّريعة في كل جانب من جوانب الحياة.
زیادة النّـمو الإقتصادي
تساعد البنية التحتية للتكنولوجيا الرّقمية، في زیادة النمو الاقتصادي من خلال زیادة الاستثمارات الرقمیة، أي الاستثمارات في المعدّات الرّقمیة وتقنیة المعلومات والاتصالات وفي البرمجیات الحاسوبیة، ومن خلال زیادة الإنتاجیة الناتجة عن تحسین كفاءة استخدام عوامل الإنتاج والابتكارات.
ويسهم التّحوّل الرّقمي في النمو الاقتصادي من خلال إنشاء مصادر جدیدة للقیمة، وتطبیق نماذج مبتكرة للأعمال أكثر كفاءة واستدامة.
أثبتت الدّراسات الحديثة (2013) التي قیّمت تأثیر زیادة رأس مال تقنیات المعلومات والاتصالات على النمو، أنّ زيادة بنسبة 10 بالمئة في درجة رقمنة الدولة يزيد من نمو إجمالي النّاتج المحلي للفرد بنسبة 0.75 % في الدول المتقدّمة، وتوصّلت دراسة أخرى (2017) إلى أنّ كل زيادة بنسبة 1 ٪ في مؤشّر تطوير النّظام البيئي الرقمي يؤدّي إلى زيادة في نمو إجمالي النّاتج المحلي للفرد بنسبة 0.13 ٪، ومن ثم فإنّه كلّما ارتفع مستوى التّحوّلات الرقمية في دولة ما، ارتفع معدّل النمو ونصيب الفرد من الناتج العام. وتوصّلت إلى نتیجة عامّة مفادها أنّ الآثار الإیجابیة للتحول الرقمي على النمو والتشغیل والابتكار تزید مع التقدم في تنفیذ سیاسات التحول الرقمي.
مساهمة الإقتصاد الرّقمي في سوق العمل
تسهم التّكنولوجيا الرّقمية في إنشاء مناصب عمل من خلال عدّة قنوات لاسیما من خلال المنصّات الرقمیة المتخصّصة، وكذلك عن طریق زیادة الطلب على العمالة، حیث أنّ التحول الجذري الذي تشهده نماذج الأعمال والتنظیم والإدارة ووسائل الإنتاج نتیجة للتّطوّرات التقنیة الرقمیة الكبیرة یُولَّد طلباً جدیداً على المهارات العالیة، وتوفير وظائف جديدة كنتيجة إيجابية لزيادة الطّلب على بعض الوظائف المستحدثة والجديدة، والمرتبطة بتطوير الخدمات الرّقمية أو ظهور نماذج تجارية تعاونية، وزيادة العمل الحر أو لحساب المتمكّنین من استخدام التّقنیات الحدیثة.
نتیجة لذلك، انتشرت في أسواق العمل حول العالم ظاهرة العقود قصيرة الأجل أو العمل الحر بدلاً من الوظائف الدائمة، في المقابل فإنّ التّحوّل الرّقمي يغيّر هيكل العمالة ممّا يؤدّي إلى أتمتة المهام “الروتينية” التي لا تتطلّب مهارات عالیة، والتي یمكن أن تقوم بها الآلات بأكثر كفاءة وأقل تكلفة، وإيجاد أنواع جديدة ومتنوّعة من الوظائف. وتزيد من فرص الأفراد الذين يواجهون عقبات في العثور على وظائف أو مدخلات إنتاجية مثل المرأة الماكثة في البيت وسكان المناطق النائية وذوي الاحتياجات الخاصة، وتساعد في إيجاد وظائف جديدة قائمة على الأنترنت.
وتكشف التّوقّعات إمكانية أن تؤدّي التكنولوجيا الرّقمية إلى إيجاد حوالي 6 ملايين وظيفة مستحدثة ليست موجودة بيننا اليوم في جميع أنحاء العالم خلال الفترة 2016 – 2025 ضمن الصّناعات اللّوجيستية والكهربائية، وأنّ زیادة بنسبة 10 في المائة في مؤشّر التحول الرّقمي تُخفض معدل البطالة في المتوسط بنحو 0.84 في المائة، حسب دراسة شملت 150 دولة حول العالم بالرغم من وجود تباین بین مختلف الدول، وذلك حسب مستوى التّحوّل الرقمي الذي وصلت إلیه. كما خلصت دراسة أخرى شملت مجموعة متكوّنة من 12 دولة إفریقیة، إلى أن ظهور الأنترنت فائق السرعة ارتبط بتحسّن معدّلات التّوظیف في أسواق العمل المحلیة خاصة بالنّسبة لذوي المهارات العالیة.
كما ساهم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في دول منظمة التعاون والتنمية OCDE نسبة تتراوح بين 8 %
و6.4 % من إجمالي القوّة العاملة لسنة 2011.
استراتيجية التّـحوّل نحو الإقتصاد الرّقمي
عملية التّحوّل الرّقمي صارت ضرورة ملحّة يفرضها التطور المتسارع في استخدام وسائل تكنولوجيات المعلومات لتحسين كفاءة الشّركات التّجارية والمؤسّسات الحكومية، ولكن تسخيرها ينطوي على طائفة من التحديات في مجالات التكنولوجيا والسياسة والمجتمع والتنظيم ومؤسّسات الأعمال، فكيف يمكن لشركات الاتصالات التقليديّة أن تتكيّف مع التّغيّرات السّريعة في صناعة الاتصالات، وأن تحوّل نماذج أعمالها وعملياتها لتبقى قادرة على المنافسة، وكيف يمكن للبلدان خاصة النامية من أن تلتحق بهذا التحول؟ لن يتحقّق ذلك بشكل ناجح من دون وضع جملة من الاستراتيجيات، والتي يمكن حصرها فيما يلي:
توفير البيئة التّـنظيمية:
يتمثّل الكيان التّنظيمي في إنشاء وزارة مستقلّة تعنى بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتنميتها، تعنى بالتّعاون مع المؤسّسات الأخرى أو وزارة خاصة تحت اسم وزارة الاقتصاد الرّقمي تتولّى مهمّة تنظيم هذا القطاع. وجود هذه الهيئة يسمح بوضع خطّة عمل ورؤية واضحة على المديين المتوسّط والبعيد لتحقيق التّحوّل الرّقمي المطلوب. كما يسمح بتسهيل عمليات تطوير البنية التّحتية اللازمة لهذا التحول من خلال إشرافها على المتعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتقديم الدعم اللازم لهم وبمتابعة سوق الاتصالات والأنترنت والشّبكات المختلفة، ومنها التّدخّل لضبط الأسعار وتحسين جودة الاتصال والزيادة في سرعته وغيرها، وتوفير بوّابة إلكترونية تسمح بتقديم خدمات مختلفة للمواطنين (طلب وثائق، تسديد فواتير، تقديم شكاوى…)، بالإضافة إلى تقديم معلومات متقدّمة حول وضع البلد بالنّسبة للخطط والمؤشّرات الموضوعة للتحول نحو الاقتصاد الرّقمي، ومواكبة التّطوّرات الحاصلة على المستوى العالمي، وخاصة في مجال التّقنيات الرّقمية، ممّا يسمح لها بولوج الاقتصاد العالمي والانفتاح على الدول، وخاصة تلك التي نجحت في تحقيق هذا التحول.
البيئة التّـشريعيّـة:
من خلال إقرار مجموعة من التّشريعات الدّاعمة لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، حيث يستلزم تحرير القطاع وضمان المنافسة وجود قانون منظم لخدمات الاتصالات، ويستلزم نمو أنشطة الابتكار والابداع وجود قانون منظّم لحماية الملكية الفكرية، فيما يستلزم نمو أنشطة التّجارة الإلكترونية وجود قوانين منظّمة للتجارة الالكترونية والتوقيع الالكتروني. كما يحتاج العاملون في القطاع بشكل عام إلى قوانين لحماية سرية البيانات ومكافحة الجريمة الالكترونية، وذلك لتعظيم الاستفادة من الخدمات الإلكترونية.
تعليم وتدريب رأس المال البشري:
يعد رأس المال البشري في المقام الأول الناقل للمعرفة التكنولوجية، والتي هي أساس التقدم العلمي والتكنولوجي، وهو يؤدّي دورا حاسما في تطوير التكنولوجيات الجديدة وأساس الاستخدام الفعّال له. ويتطلّب تطوير التكنولوجيا وخاصة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تلقّي مستوى مناسب من التأهيل من أجل زيادة الإنتاجية والتنافسية الاقتصادية، والتّكيّف مع التغير المستمر لمتطلّبات الأعمال التجارية جرّاء التقدم التكنولوجي المتسارع. وهنا تكمن أهمية تعليم وتدريب العنصر البشري من أجل التصدي لتنامي الطّلب على المهارات. ولا يمكن تحقيق التحول الرّقمي النّاجح من دون وجود رأس مال بشري قادر على قيادة هذا التّحوّل وتعزيزه في المستقبل، ممّا يتطلّب دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمهارات الابداعية في المناهج التّعليمية كافة وبرامج التعليم مدى الحياة، وإشراك القطاع الخاص في برامج التدريب.
تشجيع البحث والتّـطوير:
ويعد تشجيع البحث والتطوير من أهم ركائز التحول الرقمي، فالاقتصاد الحديث يعتمد على الإبداع
وابتكار الأفكار الجديدة، واختراق التكنولوجيات المتطورة الذي يقتضي رفع نسبة الإنفاق على مشاريع البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي باعتباره أحد أهم مؤشّرات الاقتصاد الرقمي، وتكون هذه النّسبة مرتفعة في الدول المتقدمة أكثر من باقي الدول، حيث تتقاسم الحكومات والقطاع الخاص في هذه الدول الدور في الانفاق على مشاريع البحث والتطوير، وبالتالي يشترك القطاعان العام والخاص في التمويل، ممّا يؤدي إلى ارتفاع مردودية البحث والتطوير بالنسبة للاقتصاد الرقمي. وحسب اليونسكو وصل الإنفاق العالمي على البحث والتطوير لسنة 2018 إلى مستوى قياسي بلغ 1.7 تريليون دولار، حيث تمثل 10 دول 80 % من هذا الانفاق، ويتوقّع أن يزيد الانفاق العام والخاص على البحث والتطوير، وكذلك في عدد الباحثين بحلول عام 2030.
وتصدّرت الولايات المتحدة الأمريكية العالم في مجال الإنفاق على البحث والتطوير، بمبلغ تجاوز 476 مليون دولار سنة 2018، حيث بدأ التركيز على هذا المجال بشكل كبير منذ تسعينيات القرن الماضي مع بداية انتشار الأنترنت والتجارة الالكترونية. أمّا بالنسبة للإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من النّاتج المحلي الإجمالي، فكانت كوريا الجنوبية الأكثر مساهمة بـ 4.3 %، وبخصوص عدد الباحثين لكل مليون نسمة، احتلّت ألمانيا المرتبة الأولى بـ 6856 باحث، ومن هنا يمكن القول أنّ كوريا استطاعت البروز كقوّة اقتصادية عالمية من خلال الاهتمام بتطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بزيادة كلا من المدخلات والمخرجات المرتكزة على الابداع.
جاهزية الدّول العربية للتّـحوّل الرّقمي
تسلّم الدول العربية وتقر تماما بأهمية تطوير الاستراتيجيات الرقمية الوطنية، حيث أطلقت العديد منها استراتيجيات وطنية للتّحوّل الرقمي يتمثّل هدفها الرئيسي في جعلها من بين أفضل دول العالم في الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية، والفرص التي تقدّمها للاقتصاد بشكل عام، وتعزيز القدرة التّنافسية للدول وتسريع النمو الاقتصادي وزيادة الرّفاهية الاجتماعية.
وتقاس الجاهزية الرقمیة من خلال القدرة على إدماج التقنیة الرقمیة والمستخدمین الأفراد والشركات والحكومات في إطار نظام حوكمة ملائم یُعظَّم الفائدة من التحول الرقمي. ومع تزايد أهمية الاقتصاد الرقمي، أصبح من الضروري قياس مدى تقدّم الدول العربية نحو رقمنة اقتصادياتها.
بقلم: البروفيسور فتيحة بلحاج
أستاذة الإقتصاد بجامعة الجزائر 3