أيّام قبل الإعلان عن منح أولى الرّخص المؤقّتة من أجل الحصول على الاعتمادات الخاصة باستيراد المركبات الجديدة، شهدت السّاحة الإعلامية نقاشاً غير مسبوق حول موضوع سمي مجازاً “ملف استيراد السيارات”.
انتقل هذا الجدل إلى مبنى البرلمان بغرفتيه، حيث أدلى الجميع بدلوه في هذا الموضوع سواء كانوا سياسيّين، برلمانيّين، محلّلين اقتصاديّين أو ممثلي جمعيات المستوردين والمستهلكين.
محفوظ كاوبي
وقد طغى على هذا النّقاش في الكثير من الأحيان إن لم نقل في معظمها، الجانب الشّعبوي والفئوي، دون أن يتعدّاه إلى محتوى ومضمون التّنظيم الجديد، ودرجة تماشيه من مقتضيات ضبط السوق، سواء من النّاحية التّقنية أو الاقتصادية والمالية.
كما خلا النّقاش من إلزامية تناول الموضوع في شقّه المتعلق باستراتيجية الحكومة لمعالجة قطاع ميّزه التّسيّب لسنين عدّة، وميّزته غلبة منطق القرصنة الاقتصادية التي كلّفت الخزينة العمومية الكثير، واستنفذت من احتياطي الصّرف ملايير الدولارات.
فمن ناحية التّوقيت، كان من المنطقي جدّاً أن يُثار النّقاش حول ملفيّ اعتماد وكلاء المركبات الجديدة وتصنيع المركبات في الأيام التي تلت صدور المرسومين التّنفيذيين المنظّمين للعمليتين.
فالمرسوم 226/20 المحدّد لشروط وكيفيات ممارسة نشاط تصنيع المركبات، والمرسوم التّنفيذي رقم 227/20 المحدّد لشروط وكيفية ممارسة نشاط وكلاء المركبات الجديدة، صدر في شهر أوت 2020 في الجريدة الرّسمية رقم 49 بنفس التاريخ.
لكن لم يتبع ذلك لا نقاش ولا جدل مثلما هو حاصل حالياً، ولم يعرض أي طرف من الأطراف التي تناولت الموضوع هذه الأيام موقفه، من خلال تحليل موضوعي مسؤول يأخذ بعين الاعتبار أهداف واستراتيجية الحكومة في ضبط جميع الجوانب المتعلّقة بهذا القطاع.
من جهة أخرى، أثارت الجهات المعارضة أو بالأحرى الرّافضة لمضمون المرسوم 227/20 مجموعة من الحجج أبرزها:
– أنّ المرسوم يتعارض وحريّة ممارسة النّشاط التّجاري؛
– أنّ فرض شرط ملكية المنشآت القاعدية المنصوص عليها في
المادة 6 من الملحق الأول للمرسوم المتضمّن دفتر شروط وكيفيات
ممارسه نشاط وكلاء السيارات والمقطورات ونصف المقطورات
الجديدة، يضيّق على بعض المستثمرين، ويشكّل شرطاً تفضيليا
يخدم مصالح البعض الآخر.
وإن كانت الحجّة الأولى قابلة للنّقاش من ناحية المبدأ، فإنّ الزَعمَ الثّاني مردود على أصحابه جملة وتفصيلا، لما يحتويه من مغالطات لا ترقى لأن تكون موضوع نقاش مسؤول.
للجزائر كامل الحق في ضبط قطاع باتت تسوده منذ مدّة ليست بالبعيدة، عشوائية طغت على أغلب الأصعدة تقنية كانت، تجارية أو مالية.
فمعدّل فاتورة استيراد المركبات خلال العشر سنوات الأخيرة، كانت بحوالي 4,5 مليار دولار أمريكي سنوياً، هذا المبلغ الكبير أسال ولازال يسيل لعاب العديد من المتعاملين المحليّين والأجانب، وهذا أمر مفهوم.
لكن غير المقبول، هو التّهجم على المنظومة القانونية والتّنظيمية الجديدة دون تقديم حجج مؤسّسة تلقى قبولاً، سوى على المستوى التقني أو الاقتصادي والمالي.
وبعيدا عن خطاب المصالح الفئوية، فإنّه يمكن الإقرار بأنّ المرسوم 227/20 ميّزه ما يلي:
الوضوح:
الأمر الذي يبرهن على درجة تمكّن مُعدّي هذا المرسوم، سواء من
النّاحية الفنية، التّقنية وكذا العملياتية.
هذا الوضوح سيقلّص حتماً من إمكانية اللّجوء إلى النّصوص التّكميلية والتّفسيرية، الأمر الذي يضفي عليه صفة الشّفافية والاستمرارية.
الدقة:
سواء في تحديد المفاهيم أو الإجراءات، وكذا الهيئات المختصّة بمنح القرارات والرّخص، كما حدّد التّنظيم مدّة دراسة الطّلبات والفصل فيها، وتسلُّم الطّعون والبت فيها.
حماية مصلحة المواطن:
من خلال اعتماد مجموعة من المواد الملزمة للوكلاء والوكلاء المعتمدين باحترام آجال التّسليم، وضمان خدمات ما بعد البيع، والتموين بقطع الغيار، وتسقيف التسبيقات.
حماية مصلحة الإقتصاد الوطني:
من خلال إدراج إجراءات تعمل على التّقليل من امكانية تضخيم الفواتير.
هذا التّحسّن الملحوظ في المنظومة القانونية، لابد أن تتبعه عملية ضبط للإجراءات العملية في تنظيم وتسيير اللّجان والهيئات المكلّفة بالدّراسة والتّقييم والبت في الطعون، الأمر الذي سيمكّن من إضفاء الشّفافية على جميع العمليات، والتّأسيس لقواعد منافسة تضمن المساوات بين جميع المتعاملين الاقتصاديّين.
أما فيما يخص قضية استيراد السيارات المستعملة، والتي أثيرت في نفس التوقيت الذي سبق تسليم الرّخص المؤقّتة، فقد نوقشت بشكل ابتعد في غالب الأحيان عن الطّرح الموضوعي، واكتست بالأحرى الطّابع الشّعبوي المحض، ومهما يكن، فإن كان قانون المالية لسنة 2020 قد سمح باستيراد السيارات الأقل من ثلاث سنوات، إلّا أنّه أحال عملية تجديد الإجراءات العملياتية على التّنظيم.
ومن الضّروري على التّنظيم المرتقب، أن يرفع كل مواطن اللاّتجانس التي كان سيستحدثها تسريع متسرّع لعملية الاستيراد هذه، ابتداءً من إضفاء صفة النشاط التجاري على عملية الاستيراد، إلى حل المشاكل المتعلقة بالتوطين البنكي، مروراً بالمشاكل التّقنية التي يمكن أن تنجر عن هكذا عمليات كما أثبتته التّجارب السّابقة.
هدف احتواء السّوق الموازية وتقليص مساحتها، يُعدُ حجّة كافية لضرورة التريّث إلى حين إيجاد الحلول التقنية والقانونية والإجرائية اللاّزمة لضبط سوق يمكن أن تكون مصدر نزيف حاد في العملة الصّعبة، ومصدرا لمعاملات تشكّل خرقاً لقواعد العمل التجاري وخطرا على سلامة المواطن الجزائري من الناحية الاقتصادية.
وبعيداً عن المصالح الفئوية ومنطق الخطاب الشّعبوي، فإنّه يمكن القول إنّ التّنظيم الحالي يشكّل قفزة نوعية لابد من تثمينها، كونها ستنعكس إيجاباً من خلال تنظيم قطاع سادته ممارسات أضرّت بالمصلحة العامة للبلاد، أفقرت المجموعة الوطنية، ودعّمت مقابل ذلك المصالح الفئوية.