بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها وسط مؤشّرات إيجابية ومتفائلة طغت على توقّعات الاقتصاد في الأسابيع الأولى لسنة 2021، مقارنة مع أزمة وصفها الخبراء بـ “غير المسبوقة” عاشها العالم سنة 2020، بالرّغم من تحذيرهم من أنّ فيروس “كوفيد-19” لا يزال موجوداً.
حقّق النّفط أعلى سعر له منذ 12 شهرا بفعل التزام دول منظمة “أوبك” وحلفائها من خارج المنظمة باتفاق خفض الإنتاج، أما المنظّمات الدولية فتتوقّع تعافيا تدريجيا للاقتصاد العالمي من تداعيات فيروس كورونا، رغم أنّ التّخلص الكامل من آثار الجائحة لن يتحقّق قبل سنتين أو ثلاث كأقصى تقدير، وكان الرابح الأكبر خلال شهر جانفي 2021 مخابر إنتاج وتسويق لقاحات كورونا التي جنت مكاسب بمليارات الدولارات، وتجمع التّوقّعات على أنّ أرباحها هذه السنة ستتعدّى كل الحدود.
أسعار النّفط في أعلى مستوى منذ 12 شهراً
في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 12 شهرا، قفزت أسعار النّفط مسجّلة أعلى مستوى لها بداية شهر فيفري، بعدما أثبت كبار منتجي الخام التزامهم باتّفاق تقليص الإنتاج بما يتماشي مع تعهّداتهم، واحترامهم لنظام الحصص وما تمّ الاتفاق عليه من طرف تكتّل “أوبك+” شهر ديسمبر من السنة الماضية.
وتأكّد خلال اجتماع متابعة تطبيق الاتّفاق، التزام مختلف الشّركاء بمستويات الإنتاج التي تمّ تسطيرها، حيث شارك وزير الطّاقة الجزائري، عبد المجيد عطار، بتاريخ 3 فيفري في الدّورة السادسة والعشرين لاجتماع اللجنة الوزارية المشتركة لمتابعة اتّفاق دول “أوبك” وخارج “أوبك”، التي خصّصت لدراسة وضعية أسواق النّفط الدولية وآفاق تطوّرها على المدى القصير.
وقام أعضاء اللّجنة بتقييم وضعية السوق على أساس تقرير اللجنة التّقنية المشتركة، وقياس مستوى الامتثال لتعهّدات خفض الإنتاج للدول الموقّعة على اتّفاقية التعاون شهر ديسمبر 2020، ومعلوم أنّ اللجنة الوزارية تتكوّن من دول أعضاء في “أوبك” هي الجزائر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، العراق، الكويت، نيجيريا وفنزويلا، وعضوين من الدول خارج المنظمة وهما روسيا وكازاخستان، كما شاركت أنغولا في هذا الاجتماع بصفتها رئيسا لمؤتمر المنظّمة.
وانعكس تخفيض الإنتاج جليّا على الأسعار والسّوق، حيث بلغ سعر برميل برنت 58.63 دولارا بتاريخ 3 فيفري، كما صعدت عقود خام القياس الأمريكي غرب تكساس الوسيط بـ 1.21 دولارا، أو ما يعادل 2.26 بالمئة، وبلغت 54.76 دولارا للبرميل، وهذا بعد ظهور تفاؤل حول تحسّن المؤشّرات الاقتصادية بالولايات المتحدة الأمريكية، وتؤكّد تقارير الخبراء أنّ المنحى التّصاعدي لأسعار النّفط جاء كنتيجة حتمية لخفض منظمة “أوبك” ودول منتجة من خارج المنظمة للإنتاج، حيث أبرزت الأرقام أنّ إنتاج “أوبك” يزيد بأقل من المتوقّع.
ويرتقب أن تطبّق المملكة العربية السعودية تخفيضات طوعية قدرها مليون برميل يوميا بداية شهر فيفري إلى غاية نهاية شهر مارس. بالمقابل ورغم ارتفاع الإنتاج الروسي للنفط شهر جانفي المنصرم، إلاّ أنّه لم يتجاوز ما نصّت عليه اتفاقية الإمدادات لمجموعة “أوبك +”، كما تراجع إنتاج النفط في كازاخستان طيلة شهر جانفي، ما خفّض من المعروض الذي كان أحد أسباب ارتفاع سعر البرميل.
لقاح كورونا..شركات تجني أرباحا بمليارات الدولارات
بعيدا عن أسواق النّفط، يجمع العارفون بالشأن الاقتصادي على أنّ كورونا لعبت دورا هاما مع بداية سنة 2021، في تحديد أرباح ومداخيل العديد من الشّركات، وحقّقت مخابر إنتاج اللقاحات المضادة لوباء “كوفيد-19” مبيعات مذهلة، بحيث أعلنت شركة “فايزر” الأمريكية، أنّ مبيعات لقاحها، بالشّراكة مع مخبر “بيونتيك” يرتقب أن تصل إلى 15 مليار دولار سنة 2021، كما يمكن أن ترتفع أكثر في حال توقيع مزيد من العقود لاستخدامه.
وأعلنت “فايزر” بلغة الأرقام أنّ توقّعات مبيعات سنة 2021 كاملة تتراوح بين 44.4 و46.4 مليار دولار، هذا دون احتساب مبيعات لقاح كورونا، وأشارت توقّعات أخرى إلى أن تصل أرباح “فايزر” من تسويق اللقاح 9.3 مليار دولار خلال سنتي 2022 و2023، كما قفز سعر أسهم “فايزر” في أعقاب تسويق لقاح كورونا بنسبة 12 بالمائة منذ بداية سنة 2021، في حين قفزت أسهم شركة “بيونتيك” بـ 300 بالمائة.
ولم تكن “فايزر” وحدها المحقّقة لأرباح خيالية بفعل تسويق لقاح كورونا، حيث ارتفعت القيمة السوقية لشركة “مودرنا” إلى 62 مليار دولار، كما تضاعفت أسهمها بنسبة 700 بالمائة خلال سنة 2020، ويرتقب أن تجني “مودرنا” 13.2 مليار دولار سنة 2021 كعائدات للقاح كورونا.
وعلى العموم تجمع التوقعات على أن تحقّق الشركات التي تعاقدت مع الدول الغنية عائدات كبرى ومداخيل غير مسبوقة من تسويقها للقاح الفيروس، وستظهر هذه الأرباح بشكل جليّ بعد الوفاء بالعقود الأولية للصّفقات خلال السنة الجارية، ويؤكّد المختصّون أنّه من الصّعب اليوم التنبؤ بالشكل الذي سيبدو عليه المشهد الجديد للقاح، ولكن الأرباح ستكون بعشرات مليارات الدولارات.
الدولار الأمريكي ينتعش
اختتم الدولار الأمريكي شهر جانفي بارتفاع طفيف أمام سلة العملات الأجنبية، تعزّز بشكل أكبر بداية شهر فيفري، وسجّل الدولار الأمريكي أعلى مستوى له في ستة أسابيع مطلع شهر فيفري 2021، أمام سلة من العملات على غرار الأورو، الين الياباني والفرنك السويسري، ويأتي هذا الارتفاع وفقا لمراقبين بالنظر إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تتوفّر على جملة من المزايا تجعل نمو اقتصادها أحسن مع بداية السنة الجارية، خاصة وأنها باشرت عملية تطعيم مواطنيها ضد “كوفيد-19.”
وارتفع مؤشّر الدولار بتاريخ 2 فيفري بنسبة 0.43 بالمائة في نهاية جلسة التداول، وهو أعلى مستوى له منذ الـ 21 من ديسمبر 2020، وبالمقابل تراجعت العملة اليابانية لتحوم حول 105 ين مقابل الدولار الأمريكي، وهو أدنى مستوى لها منذ منتصف نوفمبر، كما هبط الأورو بـ 0.6 بالمائة إلى 1.2060 دولار. وفي سياق متّصل ارتفع الدولار الأمريكي أمام الفرنك السويسري بـ 0.68 بالمئة إلى 0.8967 للدولار، وهو أدنى مستوى للفرنك منذ بداية السنة الجارية.
ويؤكّد الأخصائيّون أنّ ارتفاع الدولار مردّه إلى بداية تعافي الولايات المتحدة الأمريكية من وباء كورونا.
بداية تعافي الاقتصاد
يبدو أنّ المؤشّرات الإيجابية لم تشمل الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها، حيث بدا تقرير البنك الدولي وتصريحات مسؤولي صندوق النّقد الدولي الصّادرين نهاية شهر جانفي المنصرم، متفائلين حينما تحدّثا عن بداية انفراج الأزمة سنة 2021، وأعلنا عن مرحلة تعافي الاقتصاد، ولكنهما أكّدا أنّ هذا التعافي ضعيف، ويواجه تحديات جسيمة.
وحذّر تقرير البنك الدولي الصّادر نهاية شهر جانفي 2021 من الآثار الاقتصادية الوخيمة لفيروس كورونا، وأكّد أنه في أعقاب الأزمة الصحية والاقتصادية التي تسبّبت فيها الجائحة، فإنّ الاقتصاد العالمي يعيش نهاية أحد أشدّ حالات الركود، وبدأ مطلع سنة 2021 مرحلة تعاف ضعيف.
وحسب البنك الدولي، فإنّ حكومات الدول تواجه تحديات جسيمة، تكمن في تجاوز الآفاق الاقتصادية على المدى القصير، ويتعلّق الأمر بالصحة العامة، إدارة الدين، سياسات الموازنة وأنشطة البنوك المركزية والإصلاحات الهيكلية، حيث يفترض على الحكومات، الأسر المعيشية والشّركات جميعا السّعي نحو اعتماد مشهد اقتصادي مغاير.
ويضيف البنك الدولي أنّه “إلى جانب حماية الفئات الأكثر معاناة وتأثّرا، يتطلّب الأمر اعتماد سياسات ناجحة تسمح بتحوّل رؤوس الأموال، الأيدي العاملة، المهارات والابتكارات إلى أغراض جديدة، لبناء مناخ اقتصادي أقوى وأكثر مراعاة للبيئة، في أعقاب جائحة فيروس كورونا”.
وطلب البنك من البلدان السّائرة في هذا الاتجاه أن تضاعف جهودها، في حين أكّد أنّ التّغيير أصبح واجبا بشدة على البلدان الأخرى، التي تعاني من أوضاع مالية أجهدتها الجائحة.
من جهته توقّع صندوق النقد الدولي، عبر تصريحات مسؤوليه، استئناف عجلة النشاط الاقتصادي ورفع نمو الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي، مع انطلاق عمليات التطعيم ضد فيروس كورونا المستجد، إلاّ أنّه حذّر من المستقبل الذي يشهد حالة عدم يقين استثنائية، بسبب ظهور موجات جديدة من الفيروس.
وصرّحت كبيرة خبراء الاقتصاد في الصّندوق، غيتا غوبيناث، بتاريخ 26 جانفي 2021 أنّها تتوقّع وصول معدل النمو العالمي لعام 2021 إلى 5.5 بالمائة، متجاوزا بذلك تنبؤات شهر أكتوبر المنصرم بـ 0.3 نقطة مئوية، مؤكّدة أنّ هذا التفاؤل مردّه إلى بداية عمليات التلقيح على مستوى العالم.
بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي..ماذا تغيّر؟
أمّا المملكة البريطانية المتحدة، وبعد شهر من مغادرتها رسميا الاتحاد الأوروبي، شرعت في البحث عن أسواق جديدة، وطلبت توقيع اتفاقيات تجارة حرّة، كان أوّلها مع دول منطقة الهادي، لتعويض الامتيازات المفقودة بعد انسحابها من التكتّل الأوروبي.
وطغت على أخبار اقتصاديات العالم مع بداية سنة 2021 تداعيات “بريكسيت”، أو مغادرة المملكة البريطانية المتحدة رسميا، الاتحاد الأوروبي يوم الخميس 31 ديسمبر 2020، معلنة بذلك نهاية فترة انتقالية، أعقبت عملية الانسحاب الرسمي، حيث تمّ خلال هذه الفترة مواصلة خضوع المملكة المتحدة لقواعد الاتحاد، ودفع المساهمات.
وخلال شهري جانفي وفيفري 2021، لوحظ دخول التّغييرات التّاريخية لقواعد السّفر والتجارة والهجرة والأمن حيّز التنفيذ، لتبدأ بريطانيا مرحلة جديدة من العلاقات مع القارّة الأوروبية.
وتميّزت نهاية المرحلة الانتقالية بحمل تغيرات رئيسية على اقتصاديات القارة الأوروبية، كما أنّ عمليات التّدقيق الجمركي عند الحدود ألقت بثقلها على المبادلات التجارية، وهو ما بدى بارزا مطلع السنة الجارية، في حين توقّفت حرية التنقل للبريطانيّين ومواطني الاتحاد الأوروبي بين أراضي الطّرفين، على خلاف ما كان سائدا من قبل.
وبالمقابل يوفّر الاتحاد الأوروبي لبريطانيا إمكانية الوصول إلى أسواقه التي تضم 450 مليون مستهلك، وذلك دون رسوم جمركية أو نظام حصص، مع الاحتفاظ بامكانية فرض عقوبات أو سن أيّة إجراءات تعويض في حال عدم احترام القواعد على صعيد مساعدات الدولة والبيئة وحق العمل والضرائب، ويأتي ذلك بهدف تجنّب أي إغراق للسوق.