توصّلت بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد أشهر من المفاوضات إلى اتفاق تجاري يرسّم لخروج نهائي لأحد أكبر اقتصادات أوروبا قوّة من دائرتها الاتحادية، وتقرّر خروج بريطانيا من الاتحاد في 31 جانفي 2020.
لكن المسائل التجارية بين الطرفين ظلت عالقة ومحل شدٍّ وجذب، لينهي الاتفاق المعلن عنه في 24 ديسمبر 2020، الجدل الذي كان قائما بين الطرفين حول مصائد السمك وقواعد التنافسية والرسوم الجمركية، وهي من أبرز النقاط المختلف بشأنها.
وبهذا تنفّس الأوروبيّون ومعهم البريطانيّون الصّعداء بعد فترة توترات كادت أن تتسبّب في خروج بريطانيا من الاتحاد من دون اتفاق، الأمر الذي سيحتّم اعتماد العمل بقواعد منظمة التجارة العالمية، التي تملي على الجانبين الاحتكام إلى أنظمة تفرض تعريفات جمركية ضخمة، وتضع حواجز تجارية أخرى تعقد العملية التجارية.
ماذا سيتغيّر بعد الاتّفاق؟
بعد التّوصل إلى اتفاق تجاري لما بعد بريكسيت سيكون بإمكان السلع والمنتجات البريطانية الوصول إلى الأسواق الأوروبية الاتحادية التي تضم 450 مليون مستهلك من دون رسوم أو حصص، فالاتفاق أبقى على حرية التعاملات التجارية بعيدا عن أيّة تعريفات جمركية.
الأمر الذي سعدت به الشركات والمنتجون البريطانيون الذين كانوا يتخوّفون من حدوث اضطرابات على الحدود تؤدي إلى كساد سلعهم وخدماتهم الموجهة لسوق الاتحاد، خصوصا بعد التداعيات الاقتصادية الوخيمة التي تلت فترة الإغلاق بسبب تفشي فيروس “كوفيد-19″، علما أنّ 42 في المائة من صادرات المملكة المتحدة من السلع والخدمات تسوّق إلى دول الاتحاد الأوروبي، في حين تقتني منها نحو 52 في المئة من وارداتها.
غير أنّ عملية الانفصال ستتسبّب لا محالة في متاعب واضطرابات اقتصادية تنجم عن التغيّر في القوانين والمعاملات الإدارية مع بروكسل، بالرغم من التوقيع على اتفاق للتجارة بقيمة تزيد عن 907 مليارات دولار، ما يجنّب زيادة في الأسعار قد تصل إلى 20 في المئة على بعض المواد الاستهلاكية.
ويرى البريطانيّون الذين صوّتوا في استفتاء 2016 لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، أنّ البريكسيت والاتفاق التجاري الذي تلاه سيحقّقان لهم الكثير من المكاسب باستعادة السيطرة على الأموال، الحدود والقوانين وكذا التجارة ومياه الصيد.
وبالمقابل تخلّى الاتحاد الأوروبي عن 25 بالمائة من حصته في الصيد داخل المياه البريطانية خلال السنوات الخمس والنصف القادمة، لكن سيظل التفاوض بشأن مسألة الوصول إلى المياه الإقليمية البريطانية الغنية بالأسماء قائما على أساس سنوي.
ماذا كان يحصل في حال عدم الاتّفاق؟
سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتّفاق كان بمثابة كابوس للعديد من الشركات والمتعاملين الاقتصادين البريطانيين والأوروبيّين على حدّ سواء، فعدم وجود اتفاق سيفرض لا محالة حواجز تجارية مكلّفة على الطرفين ستقلل من حجم المبادلات التجارية، ما كان قد يكلف اقتصاد لندن خسائر بأكثر من 80 مليار دولار ويؤدي إلى انكماش اقتصادي بنسبة 2 في المائة، وبالتالي سيرمي بنحو ثلث مليون بريطاني إلى البطالة، نفس الشيء بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي كان سيفقد شريكا تجاريا يدر عليه مليارات الدولارات سنويا ويوظف مئات آلاف من مواطنيه.
وكانت هيئة الرقابة الاقتصادية الحكومية البريطانية وهو المكتب الذي يتحمل مسؤولية الميزانية في البلد قد حذّرت، من أن المغادرة بدون اتفاق من شأنها أن تقلص الدخل القومي البريطاني بنسبة 2 % في 2021، إضافة إلى ارتفاع أسعار العديد من السلع المستوردة.
إلى جانب ذلك كانت بروكسل متخوّفة من إغلاق المياه البريطانية أمام الصيادين الأوروبيّين، خصوصا بعد إعلان وزارة الدفاع البريطانية عشية انتهاء فترة الانفصال الانتقالية عن استعداد أربع فرقاطات لمراقبة المياه البريطانية ملوّحة بذلك باستعمال القوة، وكانت قد أعلنت في بيان لها أنّها ستطبق إجراءات قوية لحماية حقوق بريطانيا كدولة ذات شواطئ مستقلة.
غير أنّ هذه الخطوة لم تلق الترحيب من حكومة اسكتلاندا التي تريد الاستقلال عن المملكة المتحدة، حيث أصدرت تنديدا قالت فيه: “دبلوماسية الفرقاطات التي تنتهجها المملكة المتحدة ليست محل ترحيب في المياه الأسكتلندية. سنحمي مياه صيدنا عند الضرورة، شرطتنا وقوتنا البحرية لها الحق في القيام بذلك، لكننا لن نهدد حلفاءنا بإغراق سفنهم”.
ما الذي عقّد المفاوضات؟
نشب الخلاف أثناء المحادثات بين الطرفين بسبب نقطتين أساسيتين، وهما مصائد الأسماك ومسائل المنافسة التجارية، وبالرغم من أن قطاع الصيد لا يكتسي أهمية كبيرة في الاقتصاد البريطاني، إلا أن التجاذبات السياسية التي أثيرت داخل بريطانيا حول مسألة السيادة وحق التصرف المستقل في المياه الإقليمية للبلد جعل منه نقطة خلاف أطالت في عمر المفاوضات.
وكان الاتحاد الأوروبي قد حذّر أنه في حال منعت بريطانيا سفن ومراكب صيد الاتحاد من دخول مياهها، فلن يُسمح بالمقابل للصيادين البريطانيين من دخول أسواق الاتحاد الأوروبي لبيع بضاعتهم، لكن المملكة أصرّت على ضرورة فرض سيطرتها الكلية كدولة ذات سيادة على كل ما يجري في مياهها. وكما تشبّثت بريطانيا بمسألة مصائد الأسماك، أصرت بروكسل هي الأخرى على حرمانها من ميزة دخول أسواق الاتحاد من دون رسوم جمركية، وهو ما رفضته لندن، لتصل المفاوضات إلى حالة انسداد تسببت في تشنج العلاقات. الأمر دفع بالوزير الأول بوريس جونسون إلى محاولة تجاوز المفوضية الأوروبية، والتحدث مباشرة إلى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية آنجيلا ميركل حول القضايا العالقة، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل الاتحاد الأوروبي، الذي أوضح له أن أي مباحثات لا يجب أن تجرى إلا عبر كبير مفاوضي الاتحاد.
تباين بشأن الاتفاق
تباينت المواقف في الداخل البريطاني بشأن الاتفاق التجاري المبرم مع الاتحاد الأوروبي، فحتى الوزير الأول بوريس جونسون الذي قال إن الاتفاق تاريخي وضخم، وسيمكن من حماية مصالح بلاده الاقتصادية في أوروبا، اعترف في نفس الوقت بعدم تضمنه لبعض المسائل التي دافع عنها الطرف البريطاني في قطاع الخدمات المالية. أما زعيم حزب البركسيت نايجل فاراج الذي قاد لسنوات حملة إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فأقرّ أن الاتفاق غير مثالي لكنه يعني نقطة اللاّعودة إلى الاتحاد الذي يعتقد أنه استفاد من بريطانيا أكثر مما استفادت منه.
من جانب آخر توقع مكتب الميزانية البريطاني أن يكون الاقتصاد البريطاني أصغر بنحو 4 ٪ في غضون 15 عاما ممّا كان عليه الحال لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بالرغم من التوصل إلى اتفاقية التجارة الحرة، فيما اعتبر اتحاد الصيادين أن الاتفاق بمثابة خيبة أمل كبيرة للصيادين والعاملين في القطاع، بحكم أنّه لم يأت بتغييرات تضمن الفائدة المرجوّة.