من بين غايات ورشات الرئيس الاقتصادية، والمنطق الريعي. ذلك ليس بمسألة بسيطة، إنها منطلق أساسي وتحدي ينبغي تحقيق انتصار حاسم فيه.
فهي منطلق أساسي من حيث مستلزمات بناء علاقة جديدة بين الإنسان والعمل وعلاقة جديدة بين الجهد والمقابل المادي، فقد عمقت سنين ريع المحروقات، هيمنة المنطق الريعي وعممت ثقافة ” أقل جهد ممكن مقابل أكبر مردود ممكن”.
لقد رضخ طرفا المعادلة لهذا الأمر لردح من الزمن، السلطة الراغبة في “السلم الاجتماعي” والناس الذين استغلوا الوضع استغلالا كاملا، غير أن ريع المحروقات تراجع كثيرا، حاجيات الناس ازدادت بشكل ملموس، سواء بالزيادة الديمغرافية العادية، أو بالرغبة في تحسن مستوى المعيشة بشكل مضطرد في شتى المجالات، السكن والغذاء والصحة والتعليم والمواصلات وغيرها كثير.
طبعا الحقيقة الاقتصادية عنيدة، فمن دون إنتاج ثروة كافية، لا يمكن لا زيادة الرواتب ولا حتى إيقاف تدهور قيمة العملة ولا إيقاف ارتفاع الأسعار. ومع الأزمة الصحية العالمية، وتوقف الكثير من النشاطات وتراجع الإنتاج الوطني في شتى المجالات بسبب ركود ملموس وشح الموارد المالية وتراجع الاستثمار العمومي منذ سنوات خلت، زادت مصاعب المؤسسات الإنتاجية ومصاعب الاقتصاد بالرغم من برامج الإنعاش الاقتصادي الموضوعة وما رصد لها من استثمارات.
الواقع أن الركود الاقتصادي بدأ منذ 2014، فضلا عن فشل الكثير من البرامج والسياسات، أي مع التراجع الحاد في أسعار برميل النفط، والتي وصلت حدا قياسيا في التدني. فسعر برميل النفط تدهور لحدود العشرين دولارا، وتأثرت أسعار الوحدة الحرارية البريطانية من الغاز، في وقت قام نمط استهلاكي مبذر وفاقت كلفة الاستيراد 60 مليار دولار.
والواقع أيضا أن تراجع الاستثمار العمومي، وهو الرافد الأساسي للاقتصاد الجزائري، وضعف المناجمنت العمومي والخاص، كانت عوامل خلفت وضعا معقدا كان ينبغي إدارته بكفاءة عالية. طبعا ذلك لم يكن ممكنا، فبعد أن كان ريع المحروقات يحجب الكثير من أشكال القصور، تعرت كل النقائص مرة واحدة، وزاد تدهور “نوعية المؤسسات” بانتشار الفساد وطغيانه.
إن الطلب الاجتماعي السياسي، الذي تعمم بعد الحراك الشعبي في فبراير 2019، زاد من الضغوط على السلطات العمومية، وبالرغم مما بذل من جهود متعددة الأبعاد، وهي حدت من سرعة التدهور ووفرت بعضا من عوامل التهدئة، إلا أن استمرار الجائحة لفترة أخرى، وخاصة ما نشره المتحور “دلتا”، من رعب وما تطلبه من إجراءات حماية منه ومن آثاره، عطل عملية تجسيد الكثير من القرارات وعطل استئناف الكثير من النشاطات لاسيما في مجال الخدمات.
لقد وضعت السلطات العمومية تصورا متكاملا للإنعاش الاقتصادي، وتوفرت الكثير من العوامل المشجعة ومنها ارتفاع أسعار النفط والغاز في الأسواق الدولية، ومنها عمليات “التطهير” الواسعة النطاق التي تمت في مختلف المجالات، وقيام العدالة بمعالجة والنظر في قضايا كثيرة، وهو ما أعاد الكثير من الأمور إلى إطار القانون والرقابة بعد أن فلتت منه لمدة زمنية.
إن انحياز القرار السياسي الاقتصادي للأغلبية وللعمال وخاصة الطبقات الهشة، ونجاح عمليات واسعة النطاق لإسكان أو إعادة إسكان مئات الآلاف من الجزائريين عبر كامل التراب الوطني، أعطى صورة أخرى عن جدية كانت مفقودة وعن وعود تجسد بعد سنين من “الشك”.
لقد التزم الرئيس تبون بأبعاد “الدولة الاجتماعية” كما أوصى بها بيان أول نوفمبر، وجسد ذلك في سياسات وفي قرارات وإجراءات، وذلك خفف من الكثير من الضغوط التي تسبب فيها الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتأزم، فارتفاع الأسعار كان ثقيلا على الكثير من الأسر والتضخم سحب الكثير من السيولة النقدية من الجيوب، ولولا تلك الإجراءات وعمليات وضع حد للفساد والنهب لكانت الانعكاسات أقوى وربما أخطر.
إن تصحيح الاختلالات الاقتصادية الكثيرة وإعادة الكثير من المؤسسات، لاسيما العمومية، للإنتاج، فتح الباب لأمل في انتعاش اقتصادي قوي في المستقبل القريب، غير أن جعل ذلك مستداما يتطلب، فيما يتطلبه، نجاحات كثيرة على مستويات أخرى، خاصة في تجسيد “الجزائر الجديدة” بمؤسساتها التمثيلية، وفي تأكيد التوجهات نحو اقتصاد منتج متخلص من التبعية للمحروقات، ونحو عدالة صارمة في توزيع الثروة وعدم تبذيرها في استثمارات وهمية وفي عمليات استيراد غايتها تهريب ثروات، مع تعزيزوترقية وتقوية كل هيئات ومؤسسات الرقابة والمراقبة.
إن بناء اقتصاد منتج، ضمن نموذج تنموي حقیقـــي، ينبغي أن يكون أساسه الاستخدام الأقصى للذكاء والعلم والمعرفة وأن يستند لتوافق بين الفاعلين الاقتصاديين وبينهم وبين المجتمع، كما ينبغي، في آن واحد، تطبيق حقيقة الأسعار ولكن أيضا حقيقة الأجور، ذلك يتطلب الإعداد الجيد وتجنيد كل الطاقات وفتح الباب واسعا لكل المبادرات والطاقات والكفاءات، وقيام تلاقي دائم بين الجامعة والمؤسسات الاقتصادية والثقافية وغيرها. إنها ورشة ضخمة.