على الرغم من ظهور بوادر انتعاش الاقتصاد العالمي مع بداية 2021، بعد معاناته إثر تداعيات جائحة كورونا؛ لا يزال يواجه تحديات هيكلية تعوق تعافيه.
يتمثل أهمها في زيادة الضغوط التضخمية على الصعيد العالمي، وتوقعات استمرارها لفترات طويلة، ووصولها إلى حد الركود التضخمي؛ ما قد يؤدي إلى تراجع مستويات الاستقرار الاقتصادي، والتآكل الكبير للدخول الفعلية للأفراد. ومع تصاعد الدعوات إلى كبح جماح التضخم على المستوى العالمي، وعلى ضوء ارتفاع فاتورة علاج الاختلالات التي يتسبب فيها التضخم، وتحديداً مرحلة الركود التضخمي؛ يكون من الأولوية منع الضرر قبل وقوعه بالسيطرة على التضخم ابتداءً، مع تحقيق زيادات منضبطة في الأسعار تتوافق مع آليات السوق وتغيراتها، وتحقق اعتبارات العدالة والضمان الاجتماعي. وفي ذلك الإطار، جاءت دعوة الخبراء الاقتصاديين للبنوك المركزية في العالم إلى عدم الانتظار حتى تتحول زيادات الأسعار إلى موجات تضخمية، ومراعاة أربع أولويات رئيسية؛ هي: اعتماد منفعة المستهلك كأساس للسياسة المالية، ومراعاة آثار رفع أسعار الفائدة على الدول النامية، ووضع إطار فعال لتسوية عادلة للديون المتعثرة، وإيلاء أهمية للاستثمارَين العام والخاص لمواجهة التضخم.
تحديات هيكلية
مع مجاهدة الاقتصاد العالمي لتعويض خسائره بعد انكماشه في العام الماضي بسبب جائحة كورونا، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات هيكلية تعوق تعافيه، وترتبط هذه التحديات جميعها بالضغوط التضخمية. ومن أبرز تلك التحديات ما يلي:
1– تنامي نسب التضخم على الصعيد العالمي: لا ترتبط مشكلات الاقتصاد العالمي بظهور المتحور الجديد “أوميكرون” فقط، الذي زاد من حالة اللا يقين التي تشهدها الأسواق العالمية، بل ترتبط كذلك بالزيادات المتوالية في الأسعار، التي تمثل ضربات موجعة في وجه محاولات تعافي الاقتصاد العالمي؛ حيث تعرضت الاقتصادات المتقدمة نتيجة الزيادات في الأسعار لارتفاعات في معدلات التضخم لم تشهدها منذ أربعين عاماً. وكانت أعلى معدلات التضخم من نصيب الولايات المتحدة؛ حيث بلغ نحو 6.8% مطلع ديسمبر 2021، وهو ما لم تشهده البلاد في تاريخها المعاصر منذ 1982.
2– توقعات استمرار التضخم لفترات طويلة: يتزايد خطر الوضع التضخمي على الصعيد العالمي في ظل استمرار أزمات الإمداد وارتفاع الطلب العالمي على السلع والمنتجات بالتزامن مع أزمات الطاقة في الصين والدول الأوروبية، فضلاً عن اعتقاد القائمين على رأس البنك الفيدرالي الأمريكي –وهو مصدر أكبر عملة متداولة في العالم– بأن التضخم الآني مؤقت أو عابر كأحد تداعيات الجائحة؛ ما دفعه إلى اعتماد سعر الفائدة الصفرية كنوع من تحفيز الاقتصاد، تبعته في ذلك معظم البنوك المركزية عالمياً، وهو ما يسهم بدوره في تعميق معضلة التضخم، بالتزامن مع استمرار تراجع عرض المنتجات نتيجة أزمات سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة النقل والشحن، مع زيادة غير مسبوقة في الطلب مدفوعة بضخ سيولة كبيرة على مدار عامي الجائحة في الدول المتقدمة.
3– تراجع مستويات الاستقرار الاقتصادي: من المتعارف عليه، اقتصادياً وسياسياً، أن هدف استقرار الأسعار هو من أولويات السياسات العامة، وأن إبقاء معدلات التضخم في حدود منخفضة، هو من ضمانات الاستقرار الاقتصادي. وقد استهدفت الدول المتقدمة ألا تتجاوز معدلات التضخم في المتوسط حدود 2% سنوياً. ومن المُتفهَّم أن تكون هذه المتوسطات أعلى من ذلك في الدول النامية لمشكلات هيكلية ومؤسسية في اقتصاداتها، على ألا تتجاوز آحاد الأرقام. وفي ضوء ارتفاع معدلات التضخم، لتتجاوز المستوى المستهدف في الاقتصادات المتقدمة والنامية، فقد تراجعت مستويات الاستقرار الاقتصادي في معظم أنحاء العالم.
4– التآكل الكبير للدخول الفعلية للأفراد: يُعرَّف التضخم بأنه الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، بمعنى انخفاض القوة الشرائية للذين لم تتغير دخولهم النقدية. ومن ثم خفض قيمة دخولهم الحقيقية. ويعتبر ذوو الدخل المحدود هم الفئات الأكثر تضرراً من ارتفاع معدلات التضخم من الفئات ذات الدخل المرتفع؛ حيث تتسم دخولهم بالمرونة عند ارتفاع الأسعار؛ وبذلك تسببت معدلات التضخم المرتفعة حول العالم في تآكل الدخول الفعلية للأفراد، وخاصةً الفئات الأقل دخلاً وذوي الدخل الثابت.
مسكنات اقتصادية
إن السياسة النقدية المتبعة هي التي تحدد مسار التضخم. ومن المتعارف عليه أنه لكبح جماح التضخم يجب اتباع السياسة النقدية المتشددة، من خلال رفع أسعار الفائدة لإغراء المواطنين لتوجيه دخولهم نحو الادخار بدلاً من الاستهلاك ومن ثم السيطرة على مستوى الطلب ليتوازن مع مستوى المعروض من المنتجات، فتتم السيطرة على المستوى العام للأسعار. وتشير أغلب التوقعات الاقتصادية إلى بدء مرحلة التحول في السياسة النقدية المتبعة عالمياً، من خلال لجوء الحكومات إلى رفع أسعار الفائدة كعلاج سريع لارتفاع نسب التضخم. وقد أخذ بنك إنجلترا المركزي زمام المبادرة، وقرر بنهاية الأسبوع الثاني من ديسمبر رفع سعر الفائدة لمواجهة الموجة التضخمية التي تجتاح العالم، بنسبة 0.15% لتصبح 0.25% بدلاً من 0.1% مطلع العام الماضي، لتكون بذلك هذه هي المرة الأولى التي يرفع فيها بنك إنجلترا سعر الفائدة منذ شهر أغسطس 2018. وقررت نحو 9 بنوك مركزية أخرى أن تحذو حذو البنك المركزي البريطاني في رفع سعر الفائدة، من ضمنها البنك المركزي النرويجي.
وهو الأمر الذي يعني أن الإدارة النقدية، وتحديداً في الولايات المتحدة، ستضطر –على الأرجح– إلى كبح جماح التضخم برفع أسعار الفائدة، بعد أن تسحب إجراءات التيسير النقدي وبرامج شراء الأصول المالية التي تقدر بنحو 120 مليار دولار شهرياً، بسرعة أكبر مما كانت تخطط له.
ولكن ستتوقف سرعة هذه الإجراءات بطبيعة الحال على ما سترشد إليه البيانات المُحدَّثة عن مسار معدل التضخم الفعلي، وكذلك توقعات الإدارة النقدية ونماذجها القياسية للتنبؤ بشأن توجهات المستثمرين والمستهلكين فيما يتعلق باحتمالات زيادات الأسعار وتوقعاتهم وسلوكهم حيالها. ولكن يجب أن يوضع في الاعتبار أن توجه البنك الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة سيترتب عليه ارتفاع في سعر صرف الدولار في أسواق الصرف العالمية، وتوجه العديد من الدول إلى رفع أسعار الفائدة بالتبعية؛ ما يؤثر في تكلفة الاقتراض خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.. ذلك من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن العبء التنظيمي المرتبط بأوامر الإدارة الأمريكية المتوقعة لرفع أسعار الفائدة، توازياً مع العودة إلى تطبيق سياسات مكافحة الاحتكار كمحاولة للحد من ارتفاعات التضخم؛ من شأنها أن تقيد النمو المأمول؛ ما يثير المخاوف من تحويل موجة التضخم الحالية إلى تضخم مصحوب بركود. ويتسق ذلك مع وجود مخاوف من أن الاستثمار في الأعمال التجارية يتم توجيهه لتلبية المتطلبات التنظيمية، بدلاً من زيادة الكفاءة وتوسيع إنتاجية الاقتصاد.
وصفات علاجية
في ضوء أن علاج الاختلالات التي يتسبب فيها التضخم، وتحديداً مرحلة الركود التضخمي، يكون مكلفاً للغاية للاقتصادات؛ فإنه يكون من الأولوية منع الضرر قبل وقوعه بالسيطرة على التضخم ابتداءً، مع تحقيق زيادات منضبطة في الأسعار تتوافق مع آليات السوق وتغيراتها واعتبارات العدالة والضمان الاجتماعي.
وعلى اعتبار أن فقْد النقود قيمتَها مع حالات الغلاء الشديد يُخلف تبعات سياسية واجتماعية وأمنية غير محمودة؛ فإن الخبراء الاقتصاديون يدعون البنوك المركزية في العالم إلى عدم الانتظار حتى تتحول زيادات الأسعار إلى موجات تضخمية، مع مراعاة أربع أولويات رئيسية، يمكن استعراضها عبر ما يلي:
1– اعتماد منفعة المستهلك كأساس للسياسة المالية: تم إلغاء الأوامر التنفيذية الأولية لتحليل التكلفة والعائد كأساس للسياسة التنظيمية خلال الأيام الأولى لإدارة بايدن، وتمت معارضة عمليات الاندماج والاستحواذ التجارية بغض النظر عن منفعة المستهلك، وهو ما أثار الشكوك بأن أعضاء الفريق المعاون للرئيس بايدن –الذي يرفض معيار منافع المستهلك الطويل الأمد لإجراءات مكافحة الاحتكار– لا يسعون إلى حماية المستثمرين والمستهلكين، بقدر استهدافهم توجيه الأعمال التجارية لخدمة أهداف الحكومة. وفي هذا الإطار، دعا الخبراء الاقتصاديون إلى ضرورة العمل على تلافي هذا الأمر؛ وذلك من خلال حماية مصالح المستثمرين وتعزيزها بالتوازي مع مراعاة مصالح المستهلكين.
كما يمكن للحكومات الرهان على ذكاء المستهلك في تهدئة معدلات التضخم من خلال تحقيق الوعي الاستهلاكي من جانب المواطن، والعمل على ترتيب الأولويات والسعي إلى شراء الحاجات الأساسية وتقليل حجم السلع الكمالية والترفيهية، وطمأنة المواطنين باستدامة السلع والمنتجات وعدم الحاجة إلى تخزينها، على أن يكون الشراء بقدر الاحتياج الفعلي فقط.
2– مراعاة آثار رفع أسعار الفائدة على الدول النامية: شدد الخبراء على ضرورة مراعاة تأثير التقييد النقدي واحتمال رفع أسعار الفائدة على تدفقات رؤوس الأموال إلى الدول النامية، خاصةً مع تأكيد تقارير اقتصادية متخصصة مؤخراً أن التدفقات المالية للأسواق الناشئة، تحولت إلى أرقام سالبة في شهر نوفمبر الماضي؛ وذلك لأول مرة منذ مارس 2020 عقب الجائحة. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع سعر الدولار أمام العملات الأجنبية كرد فعل لبدء التحول في السياسة النقدية الأمريكية نحو التقييد الائتماني ورفع أسعار الفائدة.
3– وضع إطار فعال لتسوية عادلة للديون المتعثرة: دعا الخبراء إلى وضع إطار فعال لتسوية عادلة للديون المتعثرة، خاصةً أن التوقعات بزيادة معدلات التضخم وأسعار الفائدة العالمية، سيزداد معها احتمال وقوع مزيد من الدول النامية في فخ التعثر. ويمكن هنا مراجعة الإطار العام لمجموعة العشرين بشأن معالجة الديون؛ فمنذ الإعلان عن هذا الإطار العام في عام 2020 لم تتقدم للاستفادة منه إلا ثلاث دول منخفضة الدخل وعالية المديونية، وهي: تشاد وإثيوبيا وزامبيا. وتوضح تجربتها أن هذا الإطار في حاجة إلى مراجعة في معالجته لمشكلات الديون المتعثرة.
4– أهمية الاستثمارين العام والخاص لمواجهة التضخم: تزداد أهمية الاستثمارين العام والخاص في الدول النامية على وجه التحديد؛ فالتضخم الراهن سببه عدم اكتمال تعافي دائرة الاقتصاد. وإذا كانت المصلحة المباشرة للولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة الأخرى أن تركز على إجراءات السياسة النقدية، فإن علاج التضخم ومنعه من التحول إلى غلاء في البلدان النامية هو أمر أكثر تعقيداً.
فمع ضرورة التنسيق بين السياسات النقدية والمالية ودعم نظم الضمان الاجتماعي؛ يلزم الأمر زيادة في الاستثمارات العامة والخاصة والأجنبية لتحقيق زيادة في الناتج والإنتاجية معاً، وهو ما يشمل الاستثمار في قطاع تطوير وصيانة البنى الأساسية، ومراجعة المشروعات الإنتاجية والطاقات المعطلة، والتركيز على المشروعات ذات القيمة المُضَافة والبحث والابتكار والتطوير، بما في ذلك مجالات التحول الرقمي والاقتصاد الأخضر، وتلك المُولِّدة لفرص العمل، وأيضاً تفعيل نظم المشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص.
وختاماً، فإن من الواضح أن المشاكل الناتجة عن التضخم تعد من أكبر التحديات التي تهدد الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، خاصةً أنها تخلق مشاكل هيكلية أخرى يصعب احتواؤها بسهولة. ويكاد الخبراء الاقتصاديون يُجمعون على ضرورة إيلاء الاهتمام الكافي بمعالجة مشكلة التضخم في سياقاتها المتعددة، مع أهمية أن تتم مواجهة هذا التهديد الاقتصادي بأسلوب جماعي، وأن تُولي الدول المتقدمة اهتماماً لحجم الضرر الذي يمكن أن يقع على الدول النامية حال عدم مراعاة ظروف هذه الدول في إجراءات مواجهة التضخم.
المصدر: أنتررجونال للتحليللات الاستراتيجية