عرف العالم في السنوات الأخيرة انتشار مفهوم الاقتصاد التشاركي، وهو نظام اجتماعي اقتصادي يقوم على مشاركة الموارد والأصول البشرية والمادية بين الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة.
ويقوم هذا النظام على مبدأ «الموارد غير المستخدمة هي مواردٌ مُهدَرة».
الاقتصاد التشاركي يقوم على فكرة استخدام الأفراد لمواردهم الخاصة لتقديم خدمات عمومية فعلى سبيل المثال،يمكن لكل شخص يملك سيارة أن ينقل معه ركاباً أو أغراض مقابل عائد مادي، أو تأجير منزل أو حتى غرفة فارغة فيهبمبلغ يناسب الزبون.
استحدثت في السنوات الأخيرة العديد من المنصات الالكترونية التي تعمل وفق نظام الاقتصاد التشاركي وتعتبر نماذج ناجحةبامتياز، نظرا لحجم الاقبال عليها والتأثير الاقتصادي الذي خلفته في السوق، ولعل أبرزها منصة “إير بي إن بي” « AirBNB »لتأجير وتبادل وتشارك الغرف والشقق في مختلف أنحاء العالم، و هو موقع تأسس في أوت 2008 ويقع مقره الرئيسي في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية.
فهذه المنصة”اير بي إن بي “تحتوي على أكثر من 800 ألف إعلان منتشر عبر 33 ألف مدينة في 192 دولة،كما تدير الشركة أسواقاًعقارية على النت وخدمات الضيافة التي يمكن الاستفادة منها عن طريق المواقع الإلكترونية للشركة وعبر تطبيقات الهواتف المحمولة، وتمكن المنصة مستخدميها من خدمات حجز الشقق أو عرضها للاستئجار،خاصةفيما تعلق بالإقامة مع العائلات، أو السياحة.
قصة الصعود
تعتبر قصة نجاح شركة Airbnb واحدة من أكثر القصص إلهامًا للشركات الناشئة في القرن الواحد والعشرين، فهي نموذج للمثابرة والتصميم.
كانت بدايتها أواخر عام 2007، مع مؤسسيها ”براين تشيسكي” و ”جو جيبيا ” فبعدما تنقلا من نيويوركإلى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأميركية، كانابدون عمل وواجهها مشكلة في دفع إيجارهما، وكانا في رحلة بحث عن وسيلة لكسب المال اللازم لتسديد إقساط شقتهما.
ذات مرة وخلال احتضان مدينة سان فرانسيسكو لفعليات احدى المؤتمرات الكبرى التي تعنىبالتصميم الصناعي المحلي الذي جذب الكثير من الزوار،لوحظ أن جميع غرف الفنادق والاقامات في المدينة غصت بالزوار و تم حجزها بأكملها،
وضع رأى فيه الشابان فرصة لكسب بعض المال، فاشتريا أسرة هوائية وصمما موقعًا سريعًا على الانترنت باسم”Air Bed and Breakfas” لتوفير الإقامةلزوار المعرض، مقابل تكلفة لا تتجاوز 80 دولارًا لليلة الواحدة.
كللت الفكرة بالنجاح، واستقبلا أولى طلبات الحجز عبر منصة الشركة الناشئة، فكان الزبون الأول سائحاً هندياً يبلغ من العمر 30 عامًا، والثاني امرأة في العقد الثالث من بوسطن، أما الثالث فكان أب لأربعة أطفال من ولاية يوتا.
كان هؤلاء الثلاثة مصدر الدخل الأول لشركة “اير بي إن بي” المنتشرة اليوم عبر عدة دول، وبعد فترة وجيزة، التحق ” ناثان بليشاريك” إلى الفريق، وهو مهندس معماري خريج جامعة “هارفارد”،فأصبح ثالث المؤسسين.
اشتغل الفريق على تغيير الموقع وتحسينه، وأطلقت الشركة المنصة مرة أخرى في أوت 2008، أياماً قليلة قبل المؤتمر الوطني الديمقراطي في “دنفر”عاصمة ولاية كولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية.
وكان التحدي آنذاك ايجاد أماكن إقامة للآلاف من أنصار الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما الذين حضروا المؤتمر، وتمكنت شركة Airbnb من تلبية طلبات عدد كبير منهم.
وباجتهاد آخر، قام الثلاثي بتصميم وصناعة علب خاصة بحبوب الإفطار تحمل اسم وصورة أوباما، وأخرى لمنافسه على البيت الأبيض جون ماكين، وحققوا بهذه الخطوة البسيطة أربحا تقدر بـ 30 ألف دولار.
هذه الإيرادات كانت بمثابة جرعة أكسجين لانقاد الشركة الناشئة من الإفلاس ومكنتها من سداد جميع ديونها، لكن ذلك النجاح كان مرتبطا بالمؤتمر الذي انتهى في وقت وجيز.
وفي جانفي 2009، وجهت احدى حاضنات الأعمال للمؤسسين الثلاثة دعوة للانضمام إلى جلستها الشتوية لمدة ثلاثة أشهر للاستفادة من دروس تدريب، وبعدها بفترة وجيزة استطاع مؤسسو ”اير بي ان بي” الحصول على أول تمويل للشركة، بقيمة 20 ألف دولار من شركة ”واي كومبناتور” بعد أن اقتنع مالكها “بول غراهام” بمشروعهم مقابل نسبة صغيرة من أسهم الشركة.
غير أن إرادات الشركة الناشئة كانت ضعيفة ولم تتجاوز 200 دولار في الأسبوع، لتواجه مرة أخرى شبح الإفلاس، فقرر الفريق المؤسس استخدام الأموال للسفر إلى نيويورك، باعتبارها أكبر سوق للشركة، بهدف مقابلة مستخدميهم بعدما تبين أن الخلل الرئيسي يكمن في الصور الرديئة للشقق والمنازل التي يرسلها أصحابها إلى المنصة، لذلك قرروا شراء آلة تصوير وتنتقلوا لالتقاط صور لشقق شركائهم المعروضة للكراء بأنفسهم.
بعد إشراف الثلاثي بأنفسهم على إعادة تصوير كل الشقق والمنازل بطرق محترفة، وبهذه الطريقة افتكت الشركة بعض الحجوزات، وانتعشت الأرباح، خاصة مع تغيير طريقة العمل من خلال توسيع نوعية الحجزات لتشمل كل أنواعالعقارات،بدل التركيز على المساحات المشتركة، كاستئجار سرير أو غرفة في احدى المنازل.
وفي شهر مارس 2009، استقطبت air bnb ما يقارب 10 آلاف مستخدم للموقع وأكثر من 2500 بطاقة بيانات، لتعلن بعدها رسميا عن تغير اسم الشركة من ”إير بيد أند بريكفاست”
إلى ”إير بي إن بي” وضفرت باستثمار بقيمة 60 ألف دولار من ”سكويا كابيتال”.
ومن هنا كانت الانطلاقة الحقيقة لهذه الشركة التي اكتسحت سوق العقار عبر العالم بقيمة تقدر بـ 31 مليار دولار، وبأكثر من 2 مليون حجز موزعة ما بين شقق، غرف، منازل في أكثر من 190 دولة و 34ألف مدينة.
لكن بحسب آخر الدراسات، فإن أسعار “إير بي إن بي” ارتفعت بمقدار 5.4٪ منذ 2017، بينما ارتفعت أسعار الفنادق بمقدار 1٪ فقط.
انكماش في المداخيل بسبب كوفيد-19
بعد اعلان منظمة الصحة العالمية عن تحول فيروس كوفيد 19 إلى جائحة عالمية، وأغلقتبذلك معظم دول العالم مجالها الجوي، عانت الشركة “إير بي إن بي” من انخفاض رهيب في نسبة الحجوزات، حيث تراوحت ما بين 41٪ و 96٪ ، وتراجعرقم أعمالها من 31 مليار دولار إلى 26 مليار دولار في 30 مارس 2020، ما دفع بالمدير التنفيذي للشركة “بريان تشيسكي” إلى كتابة خطابٍ وُجه الى المضيفين، تعهد فيه بضخ مبلغ 250 مليون دولار كتعويض لمتعامليهم بسبب إلغاء الزوارل حجوزاتهم في بداية شهر ماي 2020.
ولم تتوقف قرارات المدير التنفيذي عند هذا الحد، حيث أرسل بريان تشيسكي مذكرة أعلن فيها عن تسريح ما يقرب من 1900 موظف، أي ما يعادل 25٪ من كتلة الشركةالعمالية في الأمريكيتين الشمالية و الجنوبية، وأوروبا وآسيا، وذلك بعد الصعوبات المالية التي تلت تفشي جائحة كورونا.
مضايقات تواجه اير بي إن بي
على الرغم من تحقيق شركة “إير بي إن بي” المتخصصة في تأجير المنازل والاقامات الخاصة أرباحاً خيالية، ومنافستها الفنادق والشركات العقارية التقليدية، فإنها لم تسلم من التضييق الذي طالها من طرف المشرع ينفي بعض المدن الأوربية مثل برشلونة، باريس، برلين، امستردام وحتي نيويورك، وكذا من طرف نقابات الفنادق التي أبدت قلقها من تحول المساكن الخاصة الى فنادق ستتسبب مع الوقت في تكبدها لخسائر كبيرة.
ومن بين المضايقات التي تعرضت لها الشركة، تعديل لوائح الإيجارات القصيرة، وعرقلة نشاط منصات تأجير الغرف في المنازل عبر الإنترنت، على خلفية انتقادات وجهت لهذه المنصات باعتبارها تسببت في زيادة أسعار الإيجار.
وقللت من أعداد المنازل المتاحة للإيجار طويل الأمد.كما وجهت للشركة انتقادات لاذعة بشأن فكرة السماح للغُرباء بالدخول إلى المنازل والمباني السكنية، أمر أثار قلق الكثيرين من الناحية الأمنية، باعتبار أن نية الزائر غير معروفة ولا يُمكن ضمانها أبداً، ووصل الأمر إلى اعتراض بعض أصحاب العقارات،بعدما تحول مستأجرو الشقق إلى مؤجرين أيضا، وقاموا بعرض الغرف لدفع إيجارهم الشهري بسهولة أكبر.
ما دفع بعض الحكومات الى تشريع قوانين على مستوى بعض المدن تقضي بفرض غرامات باهظة على أصحاب المساكن المسجلين لدى منصة “إير بي إن بي” الذين يعلنون عن تأجير غرف غير مرخصة لدى المجالس المحلية.