تأثّرت عملة الجزائر بتوالي الحضارات والأمم والدول الوافدة على المنطقة، وبعد سنتين من استرجاع السيادة الوطنية وطرد المستعمر الفرنسي، صدر الدينار الجزائري عام 1964 ليكون الوحدة الأساسية لعملة الجزائر ورمزا من رموز الجمهورية، وصمد وقاوم مختلف عوامل الانحدار مقابل العملات الرئيسية الأجنبية على مرّ العقود.
ظلّت قيمة الدينار منذ بداية السبعينات تحدّد إداريا من قبل بنك الجزائر وفقا لعملة الدولار الأمريكي إلى غاية تسعينات القرن الماضي حين صدر قانون النقد والقرض لإصلاح النظام المصرفي، وصارت العملة تحدّد وفقا لنظام الصرف العائم مع تسجيل فوارق في الصرف بين السّوق الرسمية والموازية، وتعكف الحكومة في ظل الجزائر الجديدة على اتخاذ عدّة لوائح تنظيمية تهدف إلى تعزيز الشمول المالي وتعميقه، فكرّست في ربيع سنة 2020 المعاملات البنكية الاسلامية كأحد روافد تمويل الاقتصاد الوطني، وفتح نافذة التمويل الاسلامي وما تمثّله من خدمات مصرفية ثريّة ومتعدّدة تسهم في إعادة بعث الدينار الجزائري من جديد.
عُرفت الجزائر بتغيّر عملتها النقدية على مرّ العصور، فتميّزت عملة دولة الأمير عبد القادر بكونها عملة الدولة الجزائرية الحديثة التي قاوم مؤسّسها التواجد الفرنسي في الجزائر، وتشكّلت هذه العملة من الفضة والنحاس وحملت تعابير دينية، إضافة إلى أنّها تميّزت بصغر حجمها عن باقي العملات التي مرت بالجزائر، وظلت متداولة خصوصا في مناطق نفوذه بغرب ووسط الجزائر.
بعد استرجاع السيادة الوطنية بسنتين، شرعت الجزائر في طبع نقودها كأول بلد عربي وأفريقي يقوم بطبع نقوده، حيث أشرف على العملية إطارات جزائرية، فكان تاريخ العاشر أفريل من سنة 1964 موعد إعلان تأسيس الدينار الجزائري كأحد أقوى رموز السيادة الوطنية، فكانت الجزائر سبّاقة لتأسيس الجمعية الأفريقية لطباعة النقود والأوراق المؤمّنة، فبعدما وضعت مميزات لون العلم بقانون 63 / 156 الصادر بتاريخ الـ 25 أفريل 1963، والختم الرسمي في الـ 15 أفريل 1964، قرّرت السّلطات الجزائرية تحويل العملة من الفرنك الفرنسي إلى الدينار الجزائري، وذلك عبر إنشاء مؤسّسة مصرفية وفقا لقانون 62 / 144 الصادر في الـ 13 ديسمبر 1962، مهامها إصدار الأوراق النقدية، والتكفل بالعملة الصعبة وتسيير احتياطات المبادلات.
أشرف على العملية كفاءات من الإطارات الجزائرية بالبنك المركزي على رأسهم مصطفاي، بوعسلية، حاشي، علي قارة مصطفى، بن عبيد منصور، قندور مصطفى، حماص عبد القادر، باشا حميد وغيرهم، زيادة على مساهمة أشخاص من خارج البنك كمحفوظ عوفي، مقران مصطفى، تازي محمد، الهاشمي العربي وآخرين، وأول ما قامت به المؤسّسة المصرفية هو إعطاء اسم للعملة الجزائرية، فكان الخيار بين استخدام اسم الدرهم أو الدينار، ليستقر الأمر في النهاية على تسمية العملة بالدينار الجزائري.
وكانت الخطوة الثانية للمؤسّسة المصرفية اختيار نوعية الأوراق التي يجب استخراجها، لأنّ العملة المتداولة آنذاك كانت الفرنك الفرنسي والجزائري، وهنا قرّرت السلطات إنشاء أوراق نقدية بقيمة 50 دينارا، و10 دنانير و5 دنانير، وتمّ رسم وجه وظهر العملة لتصديرها للخارج، وهي العملية التي تطلّبت ثمانية أشهر سهر عليها مختصّون في النقش، تلتها مرحلة الطباعة التي اتّسمت بالدقة والتركيز لتجنب أخطاء في الترقيم أو غيرها، حيث كانت تطبع من 50 إلى 60 ألف ورقة نقدية يوميا، لكن البنك المركزي اضطر لطلب الإعانة من فرنسا، لأنّ عملية تحويل العملة يتطلّب تصدير ألف ورقة نقدية.
تطوّر القطاع المصرفي والنّقدي
تميّزت أولى مراحل إنشاء النظام المصرفي بالجزائر بعد الاستقلال إلى غاية سنة 1970 بالدقة وتبنّي تقنيات حديثة، وتأميم البنوك السابقة مع تأسيس بنوك وطنية أخرى كالقرض الشعبي والبنك الجزائري الخارجي، في حين عرفت المرحلة الثانية والتي استمرت إلى نهاية الثمانينات إدخال تغيير جذري على النظام المصرفي بالجزائر حوّله إلى نظام يتوافق مع النظام المخطّط مركزيا معتمدا على ما يعرف بنظام الصرف الثابت، أما فيما يخص المرحلة الثالثة من سنة 1990 إلى اليوم فقد تأثّرت بإصدار قانون القرض والنقد لإصلاح النظام المصرفي، وتبعات توجه الحكومة للاستدانة الخارجية من صندوق النقد الدولي، والتي هوت بقيمة الدينار في الثلاثة عقود المنقضية بشكل رهيب، لتبقى قيمة العملة المحلية مرتبطة بقدرة البلد على إنتاج السلع والخدمات التي تستهلك محليا، والتي تصدر لضمان تنويع المداخيل واستقرار قيمة الدينار.
سعر الصّرف يرهن مستقبل المؤسّسات
يتحدث أستاذ الإقتصاد المالي، رسول حميد، لمجلة “الشعب الاقتصادي” عن ظروف نشأة العملة الوطنية، والتي جاءت في فترة تنتمي إلى نظام قاعدة الذهب الممتدة من سنة 1946 إلى غاية 1971 حين كان يحدّد سعر صرف كل العملات في العالم بما يقابلها من الذهب، فكان الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى الذهب آنذاك، وفيما يخص الدينار الجزائري فقد كان يساوي 0.18 غ من الذهب، أي أن واحد غرام من الذهب كان يساوي 5 دج.
وتميّزت سنة 1971 يقول محدّثنا بانهيار نظام النقدي الدولي وتحول الذهب إلى سلعة كباقي السلع، وأصبحت الدول حرّة في تحديد سعر صرف عملتها مقابل مجموعة من العملات الدولية الأربعة عشر آنذاك من بينها العملات السيادية كالدولار الأمريكي والفرنك الفرنسي والين الياباني..إلخ ، فاختارت الجزائر وقتها اعتماد نظام سعر الصرف الثابت، وتسعير عملتها مقابل عملة دولية واحدة هي الدولار الأمريكي أين ظل لطيلة عقدين من الزمن سعر صرف الدينار الجزائري منخفضا، وهو ما انعكس بالإيجاب على القدرة الشرائية في تلك الفترة، وعند نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي لمّا شرعت الجزائر في تجسيد برامج إصلاحية مع صندوق النقد الدولي دخلت فيما يعرف بمشروطية الصندوق، وهي قروض يشترط فيها صندوق النقد الدولي إنفاق الأموال الممنوحة من قبله في مجالات محددة، وهو ما عجّل في ارتفاع سعر صرف الدينار وانخفاض قيمة العملة الوطنية بشكل مباشر.
تخفيض القيمة لتشجيع الصّادرات
يوضّح الأستاذ رسول حميد أنّه ولموازنة الميزان التجاري في بداية التسعينيات، قامت الحكومة بتخفيض قيمة العملة لتشجيع الصادرات والتقليل من حجم الواردات، لكن تخفيض العملة للمساهمة في رفع نسبة الصادرات لم يأت بأي نتيجة في غياب إنتاج محلي حقيقي يصلح للتصدير خارج المحروقات، مضيفا أنّ أهم ما ميّز تلك الفترة هو قانون النقد والقرض الذي صدر سنة 1990، وفصل في الدائرة النقدية بين ميزانية الدولة والبنك المركزي آنذاك، وحدّد قيمة القروض التي يقدمها البنك المركزي للخزينة العمومية لتغطية العجز، والتي لا تتجاوز 10 بالمئة من الإيرادات الجبائية العادية للسنة السابقة، من أجل إستقلالية البنك عن الحكومة وكبح لجوء الخزينة للاستدانة من البنك في كل مرة، وبفضل هذا القانون أصبح لدى الجزائر منظومة بنكية متكاملة، وتغيّرت تسمية البنك المركزي إلى بنك الجزائر، وفي سنة 1995 تمّ إنشاء سوق الصرف بين البنوك، وهنا تخلّت الجزائر عن نظام الصرف الثابت ودخلت في نظام الصرف المتعدد أو ما يعرف بالعائم، وأصبح نظام الصرف الجزائري مسعّرا بسلة من العملات.
نظام التّعويم الـمُدار
في السياق، يرى أستاذ الاقتصاد أنّ بنك الجزائر هو المسؤول المباشر عن العرض في معادلة نظام الصرف العائم، والذي يعتمد أساسا على العرض والطلب في تحديد قيمة العملة المحلية مقابل أي عملة أجنبية، وفي حال عدم توفر العملات الأجنبية يبقى سعر الصرف مرتفعا دائما وتنخفض قيمة الدينار الجزائري في العقد الأخير، وهو الحال الذي تعيشه الجزائر حاليا. وحتى لا تلجأ الحكومة إلى طبع النقود مرة أخرى في المدى القريب، ولا إلى القروض الخارجية وما ينجر عنها من تبعات يعرفها العام والخاص، تفضّل العمل بآلية تخفيض سعر الصرف الذي ينجم عنه أرباح للبنك المركزي على شكل عائدات يقدمها لسدّ عجز الميزانية، وهو ما يعرف لدى الاقتصاديين بنظام التعويم المُدار.
ويكشف الأستاذ أنّ صمود الدينار في ظل هذا الزخم المحلي والعالمي يرتبط بنية مباشرة من السلطة النقدية في التخلي عن تخفيض قيمة العملة، وعملتنا الوطنية لن تؤثّر في أي حال من الأحوال على العملات الدولية في حال ما أرادت السلطة النقدية رفع قيمة الدينار، غير أنّ مخاطر سياسة الصرف الحر تبقى مرتبطة بمدى حماية الدولة للعملة من التهريب.
خطر تهريب العملة
يرى محدّثنا أنّ السوق الموازية أصبحت سوقا حقيقية تتحدّد فيها قيمة الدينار عن طريق العرض والطلب، ولأجل القضاء على هذه السوق وجب إنشاء مكاتب رسمية للصرف مثل باقي الدول لكن بشرط أن تسمح للمواطن بالبيع والشراء للعملة الأجنبية دون فرض عملية الشراء فقط على المواطن مثلما حدث بمكاتب الصرف في مصر، و”هنا قد يقول أحدهم أنّ الجميع سيقبل على شراء العملة الأجنبية، لكن لا نرى فيه خطرا إذا ما بقيت هذه العملة بالجزائر ولا يمكن تهريبها”. وهنا يأتي دور السلطات المعنية بحماية العملة من التهريب مثلما ذكرت سابقا، وفيما يخص التدهور المزمن للدينار، فيرى الأستاذ حميد رسول أن اقتصادنا مبني على الواردات، وبالتالي التعامل فيه سيتأثر حتما بسعر الصرف، وهو ما قد يرهن مستقبل المؤسسات الجزائرية.
الأسرة الحلقة الأضعف في المعادلة
يرى البروفيسور حميدوش أمحمد أنّ المسؤول عن ارتفاع سعر الصرف وانخفاض قيمة الدينار هو السوق وحده، ومن يشرف على السوق هو بنك الجزائر فهو المسؤول عن الكتلة النقدية وطبع الدينار، الذي يتأثّر بوضع التجارة الخارجية لما تحويه من صادرات وواردات، أين يعتمد بشكل مباشر على الصادرات لتكوين أكبر قدر من احتياط العملة الصعبة، لذا فالمعادلة واضحة فكلّما ينخفض الاحتياط من العملة الصعبة تنخفض معها السيولة، وهو ما يدفع قيمة الدينار للانخفاض، وبالتالي فإن الحكومة بعيدة كل البعد عن أي تأثير في قيمة العملة الوطنية.
يضيف محدثنا أنّ هناك تخوّف من انخفاض قيمة الدينار لكن يتحقق شيء إيجابي من انخفاض العملة بالنسبة لخزينة الدولة، فكل ما انخفض الدينار ارتفعت في المقابل قيمة الإيرادات المحصلة بالعملة الصعبة التي تصب في الخزينة، ومن جهة أخرى فبالنسبة للأسرة الجزائرية فمع ارتفاع سعر الصرف ستجد نفسها أمام ارتفاع في أسعار السلع المستوردة التي تعرف زيادة في الرسوم الجمركية باعتبارها نسب مئوية تتأثر بارتفاع قيمة السلع، وبالتالي ارتفاع الأسعار يدفع الى التضخم، وهو ما يمس بالقدرة الشرائية للأسر.
وفي المقابل يشير الأستاذ حميدوش أنّ الاقتصاديات التي تقوم على صادرات متنوعة تستفيد من انخفاض عملتها من حيث التنافسية وجلب المستثمرين، إلا أن هذا لا ينطبق على الدينار الجزائري أو الاقتصاد المحلي بشكل عام، فبالرغم من انخفاض قيمة العملة غير أن المؤسسات الاقتصادية عاجزة على تحسين وضعية صادراتها عكس الدول التي تحوز على مؤسسات قادرة على التصدير.
وفيما يخص معادلة العرض والطلب التي يلعب فيها بنك الجزائر دورا هاما، أوضح محدّثنا أنّ دور البنك هو وضع سياسة نقدية، وكلما كانت سيولة زائدة يطرحها البنك سواء بالدينار أو العملة الصعبة، فيكون العرض بما هو متوفر من عملات صعبة حسب الدول التي تتعامل معها الجزائر، لذلك قد نجد دائما الطلب أكثر على عملة “الأورو” مقابل الدينار الجزائري بحكم أن جل معاملات المؤسسات المحلية في مجال الاستيراد تتم مع الدول الأوروبية.
انخفاض قيمة الدينار تنسف أي تحسين لدخل الأسرة
يؤكّد الدكتور علام عثمان، مدير مخبر السياسات التنموية والدراسات الاستشرافية بكلية الاقتصاد جامعة البويرة، أنّ إشكالية انخفاض قيمة الدينار معقّدة وشائكة، والجزائر تبحث منذ الاستقلال عن نموذج إقتصادي يمكّنها من تحقيق ما يسمى بالإقلاع الاقتصادي الذي يرتكز على اقتصاد إنتاجي قوي، واستقرار أي اقتصاد مرهون بالتوازن بين التيار السلعي أي مجموع السلع والخدمات النهائية المنتجة في اقتصاد بلد ما خلال فترة محددة مع التيار النقدي، وللحفاظ على هذا التوازن يجب أن يرتفع الإنتاج مع الحفاظ على الاستقرار في مستوى الأسعار. أما إذا حدث العكس أي عدم وجود نمو في الإنتاج وارتفعت الأسعار، فذلك يفسّر في انخفاض قيمة العملة المحلية.
ويقود الحديث حول الدينار للحديث عن دخل الأسر الذي تحسن بنسبة ضئيلة جدا لأنّ معدل تغيّر الأسعار المتأثر بانخفاض قيمة الدينار الجزائري يفوق بكثير معدل ارتفاع دخل الأسر، ما يفسر انخفاض القدرة الشرائية.
استقطاب المستثمر الأجنبي
يضيف الدكتور أنّ هناك منظور آخر يعرف بالتضخم في التنمية أين تلجأ بعض الدول إلى تخفيض قيمة عملتها من أجل تحقيق الإقلاع، وتوفير بعض الموارد المالية لتمويل مشاريع تنموية تنشئ قيما مضافة وتمتص البطالة، وهذا ما يحفّز الطلب الاستثماري نتيجة أن عددا من الأفراد أصبح لديهم دخلا، وهذا ما يسمى بتضخم التنمية، ويساهم تخفيض قيمة العملة في انخفاض تكلفة السلع بالنسبة للمستورد الأجنبي ممّا يؤدي نظريا إلى ازدياد الطلب الخارجي على السلع الوطنية، وبالتالي زيادة الصادرات وارتفاع في ميزان المدفوعات، وزيادة رصيد الدولة من العملة الصعبة والذي يعدّ من المصادر المهمة في عملية إصدار النقد، في حين أنّ كل هذه الأمور النظرية لا تنطبق على اقتصاديات الدول التي تحوز على اقتصاد غير تنافسي، ولذلك أي بلد يعتمد على هذه السياسة بهدف الإقلاع بالاقتصاد ينبغي أن يشكّل قاعدة مؤسّساتية تواكب التطورات التكنولوجية، وتصدّر منتجات تنافسية.